الفصل التاسع والثمانون
تنبهتْ أفكار الدول الأوروبية في هذه الأيام إلى ما يمسها من إيغال الإنجليز في طمعهم، وأن ظفرهم في أعمالهم المشرقية لَمِمَّا يخمد أنفاس أوروبا ويسد عليها أبواب التجارة، ولو نجح الإنجليز في سيرهم إلى ما يطمحون إليه، لم يبق موضع قدم للتجارة الأوروبية، فيضرب الفقر في غالب أقطار أوروبا التي قوام معيشتها التجارة، وأن الدول لَتعجز بعد هذا عن حاجاتها.
هذا فزع ألمت بدايته بنفوس الدول من صيحة الطبيعة، وزاد عليه ما خدش خواطرها من الإهانات المتتباعة اللاحقة بها من غرور الإنجليز. دولة إنجلترا هي التي تركت الدول تأتر في الأستانة، واستبدت بإطلاق النيران على مدينة الإسكندرية.
هذه الدولة هي التي دعت الدول العظام إلى مؤتمر للمداولة في مسألة مصر، معترفة بحقوقها فيها، فلما لم تجبها الدول إلى مطلبها الباطل، صرفتْ نوابهم، وانطلقتْ في أعمالها غير مبالية بهم، وعزمت على إرسال «اللورد نورث بروك»، و«الجنرال ولسلي»، في آن واحد إلى مصر.
هذا كُلُّهُ حَرَّكَ خواطر الدول، وصار من أعظم البواعث على اجتماع الأباطرة الثلاثة في شهر سبتمبر — كما أنبأت الجرائد — وأكد أن موضوع المداولة بينهم هذه المسألة المهمة، لهذه المسألة كانت مدينة وارزين دار ندوة سياسية، وبها وجد البرنس بسمارك مجالًا واسعًا للسياسة.
تلاقى الكونت كالنوكي مع البرنس بسمارك، وطالت مدة الاجتماع ولحق بهما مسيو دي جيرس وزير دولة روسيا، وكان البحث فيما ألم بالدول بعد مؤتمر لندن، ثم عقب ذلك سفر مسيو كورسيل سفير فرنسا في برلين إلى وارزين لملاقاة بسمارك (وإن أولت بعض الجرائد الإِنجليزية حركة هذا السفير بمقصد آخر)، فهذه الزيارات المتتالية بين هؤلاء الوزراء العظام، بعد خيبة المؤتمر، تفتح للمتأمل بابًا واسعًا من الفكر، وتشف عن أمور عظيمة سيكشفها الزمان عن قريب.
هذا إلى جانب الأمر الجديد الذي صدر من دولة ألمانيا وهو تعيين وزير في سفارة مبجلة لدى شاه إيران وفي أعضاء سفارته بروكش باشا المشهور بعلم الخط المصري القديم، وهي أول مرة كان لهذه الدولة سفيرٌ عند الشاه، ثم ذهاب ميرزا خان سفيرًا خصوصيًّا من الدولة الفارسية إلى الدولة الروسية، ونيله غاية التبجيل والتكريم.
كل هذا يُنبئنا أن في كمين الغيب مصيبة كبرى ستنقضُّ على دولة الإنجليز … إن الأحقاد قد أخذتْ بقلوب الأمم الأوروبية وامتلأت الأفئدة غيظًا حتى طفحت، ولهذا لا ترى جريدة ألمانية أو نمساوية أو فرنسية أو روسية إلا وهي مشحونةٌ بالطعن والتنديد، والوعيد والتهديد، والإنذار بسوء عاقبة حكومة الإنجليز.
ليس ببعيد على عدل الله أن ينكِّس أعلام العاتين، الذين يعبثون في الأرض مفسدين ويسلبون ممالك العالم غيلة، ويهضمون حقوق الأُمم بغيًا وعدوانًا، ويسيمونها عذاب الرق والعبودية عتوًّا واستكبارًا، أظلم جَوُّ السياسةِ على سابلة الإنجليز، وزأرت عليهم ضارية الويل من كل جانب، ولهم في هذه الأهوال حركة الخابط، إما سترًا لضعفهم، أو غرورًا ببأسهم.
ويتعلقون بحبال الوسائل لامتلاك مصر والسودان، اللورد نورث بروك وسميع الله خان الدَّهْري يذهبان إلى مصر لتأليف القلوب، وجميع الخواطر على ولاء الحكومة الإِنجليزية، وإن ولسلي بعدما نال من حُسن الصيت بصرف الدنانير في التل الكبير؛ عزم على أن يفتح فتحًا آخر بمثل تلك الوسيلة، ولكنا لا نظن في السودان مثل شهيد الخيانة وأبى سلطان باشا إضرابه، وهذا من جهة أخرى يسعون لإجبار الحكومة المصرية على إعلان الإفلاس وإشهار العجز عن القيام بنفقات الحكومة؛ ليجدوا في ذلك وسيلة لتقرير حمايتهم على القطر المصري، وتخفيض فائدة الدين والاستبداد بشئون المملكة.
إنهم نالوا في الحرب المصرية من الدولة العثمانية فرمانًا سُلطانيًّا بعصيان عرابي، فحَقَنُوا به دماء رجالهم، وصانوا كثيرًا من أموالهم، واليوم يسعى اللورد دوفرين بمواعيده العرقوبية، وأيماناته الكاذبة عند الباب العالي ليحمله على إرسال عشر مدرعات إلى الإسكندرية، وسوق جيش إلى سواحل البحر الأحمر؛ ليكون هذا بدل الفرمان بعصيان محمد أحمد، ويفوز الإنجليز بالتسلُّط على مصر والسودان، ويحلفون — وهم الكاذبون — إنهم لا يمسون حقوق السلطان (هل أبقوا حقوقًا تُمس؟) حتى إذا ثبتت أقدامهم تحت ظل العَلَم العثماني، قلبوا للعثمانيين ظهر المجن وأجابوهم بِهَزِّ الرءوس وكشرة الأنياب.
ولا نظن أن الدولة العثمانية تغترُّ بوعود الإنجليز مرة ثانية، فلا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين، وقد جربتْ منهم حلاوة الوعد، وذاقت في إخلافه مضاضات الإهانة، ومرارات التحقير. نعم، هذا وقت يتسنى للدولة العثمانية أن تتفق مع سائر الدول لصون مصالحها، ولا يخطر ببال عثماني أن ينال خيرًا بالاتفاق مع الإنجليز.
إن حكومة بريطانيا ما عاهدتْ عهدًا إلا ونقضتْه، بعدما جنتْ ثمرته، فربحها في العهود خاص بها، لا يشركها فيه غيرها، لم يخف على الدولة العثمانية أن الإنجليز تصرفوا في الأراضي المصرية تصرف المالكين بلا مشورتها، وهبوا قسمًا عظيمًا من السودان الشرقي للحبشة وأثاروا حربًا صليبيةً بين الحبشيين ومسلمي السودان، نزعوا إلى الاستيلاء على زيلع وهرر وبربر، هل كان شيء من هذا بإذن الباب العالي؟ فعلى أي وجه تثق الدولة بإنجلترا، بعدما جربت من غدرها ما جربت ورأت من عدوانها ما رأت؟
لو تساهلت الدولة مع الإنجليز في مسألة مصر فسنسمع عن قريب بأُمُور في الحجاز وسوريا واليمن وبغداد وكلها من دسائس الإنجليز، أما لو أقدم العثمانيون بعزيمة ثابتة وأقبلوا على شأنهم في مصر، مع هيجان الأفغانيين وانفراد إنجلترا عن سائر الدول؛ لَوجدوا لهم أنصارًا من جميع المسلمين في الشرق، ومن المصريين والسودانيين، ولَأرغموا الإنجليز، واسترجعوا ما فقدوه من المكانة أيام حرب روسيا، ولَأعادوا عزتهم الأولى.
هكذا ينبغي أن يُساق الجيش العثماني، لصدمة الإنجليز لا لخدمتهم، فإن لم تفعل الدولة العثمانية فعلى الدنيا العفا، وعلى الإِسلام السلام!
وليعلم المصريون من الفَلَّاحين والعرب أن الإنجليز لا يقصدون إلا استعبادهم واستخدامهم كما يستخدم الأرقاء، وأول نير للذل يوضع على أعناق أمرائهم، فعليهم ألا يكونوا آلة في تمكين العدو من رقابهم، وأن لا يكون بعضهم فخًّا لصيد باقيهم، لَعَمْرُ الله إنا لفي عجب من الذين يحفظون القِلاع في السودان، ومن المصريين الذين يَخِفُّون لمقاتلة السودانيين، هل يعلمون أي أمة يخدمون؟!
بلى، إن حامية كسلا حافظت عليها حتى تسلمها للحبشة، وإن حماة القلاع في السودان يحفظونها حتى يسلموها لقواد الإنجليز إن استطاعوا، نعم كنا نحب أن نرى هذه الشهامة من العساكر المصرية، لكن إذا لم يكونوا في تصرف دولة أجنبية، أما اليوم فثباتهم هو العار بعينه، والله لا أظن شخصًا في قلبه ذرة من الإيمان تَسمح له نفسه بهذا العمل، فإنْ لم يَسْعَوْا في إخراج عدوهم من ديارهم، والظن بهم أن يسعوا، فلا أقل أن يكفوا عن مساعدته في تملكها.
ألا يعلم المصريون أن حركة خفيفة منهم في معارضة الإنجليز في هذا الوقت تجلب تدخل الدول، وتكون سببًا لإنقاذهم من هذا العدو الذي لا يكتفي بأكل لحومهم حتى يهشم من عظامهم؟ فليعلموا ذلك وليعملوا — والله لا يضيع أجر العاملين.