الفصل التسعون
دخل الإنجليزُ بلاد الهند ولعبوا بعقول أمرائها وملوكها على نحو يضحك العقلاء ويبكيهم، وكانوا يوغلون في أحشاء الهند ويتخطفون أراضيه قطعة بعد قطعة، كلما سادوا في أرضٍ أدلوا على سكانها وأظهروا الضجر والسآمة من الإقامة بينهم قائلين: إن الإنجليز لا يشتغلون إلا بالأعمال التجارية، أما مقارفة الإدارة والسياسة فليست من شئونهم، إنما يدعوهم إلى احتمال أثقالها الشفقةُ على الملوك والأمراء العاجزين عن سياسة ممالكهم، ومتى قدر الأمير أو الملك على ضبط بلاده فلا يبقى إنجليزي فيها؛ لأن لهم أشغالًا مهمة أخرى تركوها لمحض المرحمة.
وبهذا سلب الإنجليز كل مالك ملكه بحجة أن العمل في الملك ثقيل على النَّفس متعب للفكر والبدن، فالأَولى لصاحب الملك أن يستريح وأن يموت فقيرًا ذليلًا تخلصًا من عناء التدبير! وينادون بأنه متى سنحت الفرصة وجاء الوقت الذي لا يكون للأعمال المعاشية ولا المعادية تأثيرٌ على الأبدان ولا على الأفكار؛ فإنهم مستعدون لترك البلاد (يوم الحشر)، واليوم يقولون نفس الكلام بعينه في مصر!
ولما استقرت أقدامهم في الهند وألقوا به عصاهم ومحيت آثار السلطنة التيمورية؛ نظروا إلى البلاد نظرة ثانية فوجدوا فيها خمسين مليونًا من المسلمين، كل واحد منهم مجروح الفؤاد بزوال ملكهم العظيم، وهم يتصلون بملايين كثيرة من المسلمين شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، وأحسوا أن المسلمين ما داموا على دينهم، وما دام القرآن يُتلى بينهم فمحالٌ أن يخلصوا في الخضوع لسلطة أجنبي عنهم، خصوصًا إن كان ذلك الأجنبي خطف الملك منهم بالخديعة والمكر تحت ستار المحبة والصداقة.
فطفقوا يتشبثون بكل وسيلة لتوهين الاعتقاد الإِسلامي، وحملوا القسس والرؤساء الروحانيين على كَتْب الكُتُب ونشر الرسائل محشوة بالطعن في الديانة الإِسلامية، مفعمة بالشتم والسباب لصاحب الشريعة (بَرَّأَه الله مما قالوا)، فأتوا من هذا العمل الشنيع مما تنفر منه الطباع، ولا يمكن معه لذي غيرة أن يُقيم على أرض تنشر فيها تلك الكُتُب، وأن يسكن تحت سماءٍ تُشرق شمسُها على مُرتَكِبِي ذلك الإفك العظيم.
وما قَصْدُهُم بذلك إلا توهين عقائد المسلمين، وحملهم على التدين بمذهب الإنجليز، هذا من جهة، ومن جهة أخذوا في تضييق سبل المعيشة على المسلمين، وتشديد الوطأة عليهم والإضرار بهم، من كل وجه، فضربوا على أيديهم في الأعمال العامة، وسلبوا أوقاف المساجد والمدارس، ونفوا علماءهم وعظماءهم إلى جزائر «أندومان» و«فلفلان» رجاء أن تفيدهم هذه الوسيلة إن لم تفدهم الأولى في رد المسلمين عن دينهم، بإسقاطهم في أغوار الجهل بعقائدهم حتى يذهلوا عما فرضه الله عليهم.
فلما خاب أمل أولئك الحكام الجائرين في الوسيلة الأولى، وطال عليهم الأمد في الاستفادة من الثانية؛ نزعوا إلى تدبيرٍ آخر في إزالة الدين الإِسلامي من أرض الهند أو إضعافه؛ لأنهم لا يخافون إلا من المسلمين أصحاب ذلك الملك المنهوب والحق المسلوب، فاتفق أن رجلًا اسمه أحمد خان بهادور (لقب تعظيم في الهند) كان يحوم حول الإنجليز لينال فائدة منهم، فعرض نفسه عليهم وخطا بضع خطوات لخلع دينه والتدين بالمذهب الإنجليزي، وبدأ سيره بكتابة كتاب يثبت فيه أن التوراة والإنجيل ليسا محرفين ولا مبدلين لينال بذلك الزلفى عندهم، ثم راجع نفسه فرأى أن الإنجليز لن يرضوا عنه حتى يقول: إني نصراني، وأن هذا العمل الحقير لا يؤتى عليه أجرًا جزيلًا، خصوصًا وقد أتى بمثل كتابه أُلُوف من القسس والبطارقة وما أمكنهم أن يحولوا من المسلمين عن الدين أشخاصًا معدودة، فأخذ طريقًا آخر في خدمة حكامه الإنجليز بتفريق كلمة المسلمين وتبديد شملهم.
فظهر بمظهر الطبيعيين (الدَّهْريِّين) ونادى بأنْ لا وُجُود إلا للطبيعة العمياء، وليس لهذا الكون إلهٌ حكيم (إنْ هذا إلا الضلال المبين)، وأن جميع الأنبياء كانوا طبيعيين لا يعتقدون بالإله الذي جاءت به الشرائع (نعوذ بالله)، ولقب نفسه بالنيجري (الطبيعي)، وأخذ يُغري أبناء الأغنياء من الشُّبَّان الطائشين، فمال إليه أشخاصٌ منهم؛ تملُّصًا من قيود الشرع الشريف وسعيًا وراء الشهوات البهيمية، فراق لحكام الإنجليز مشربه ورأوا فيه خير وسلية لإفساد قلوب المسلمين، فأخذوا في تعزيزه وتكريمه، وساعدوه على بناء مدرسة في «علي كده» وسموها مدرسة المحمديين، لتكون فخًّا يصيدون به أبناء المؤمنين ليربوهم على أفكار هذا الرجل (أحمد خان بهادور).
وكتب أحمد خان تفسيرًا على القرآن فحرف الكلم عن مواضعه، وبدل ما أنزل الله، وأنشأ جريدة باسم تهذيب الأخلاق، لا ينشر فيها إلا ما يضل عقول المسلمين، ويُوقع الشقاق بينهم، ويُلقي العداوة بين مسلمي الهند وغيرهم، خصوصًا بينهم وبين العثمانيين، وجهر بالدعوة لخلع الأديان كافة (لكن لا يدعو إلا المسلمين) ونادى: الطبيعة! الطبيعة! ليوسوس للناس بأن أوروبا ما تقدمت في المدنية، وما ارتقت في العلم والصنعة، وما فاقت في القوة والاقتدار إلا برفض الأديان، والرجوع إلى الغرض المقصود من كل دين (على زعمه وهو بيان مسالك الطبيعة، قد افترى على الله كذبًا).
ولما كنا في الهند أحسسنا من بعض ضعفاء العقول اغترارًا بترهات هذا الرجل وتلامذته، فكتبنا رسالة في بيان مذهبهم الفاسد وما ينشأ عنه من المفاسد، وأثبتْنا أن الدين أساسُ المدنية وقوام العمران، وطبعتْ رسالتنا في اللغتين الهندية والفارسية. إن أحمد خان ومن تبعه خلعوا لباس الدين وجهروا بالدعوة إلى خلعه ابتغاء الفتنة بالمسلمين وطلبًا لتفريق كلمتهم، وزادوا على زيفهم أنهم يزرعون الشقاق بين أهل الهند وسائر المسلمين، وكتبوا عدة كتب في معارضة الخلافة الإِسلامية.
هؤلاء الدَّهْريون ليسوا كالدَّهْريِّين في أوروبا، فإن من ترك الدين في البلاد الغربية تبقى عنده محبة أوطانه ولا تنقص حميته لحفظ بلاده من عاديات الأجانب، ويبذل في ترقيتها والمدافَعة عنها نفائس أمواله، ويفدي مصلحتها بروحه.
أما أحمد خان وأصحابه فإنهم كما يدعون النَّاس لنبذ الدين؛ يهولون عليهم مصالح أوطانهم ويسهلون على النُّفُوس تحكُّم الأجنبي فيها، ويجهدون في محو آثار الغيرة الدينية والجنسية، وينقبون على المصالح الوطنية التي ربما غفل الإنجليز عن سلبها لينبهوا الحكومة عليها فلا تدعها!
يفعلون هذا لا لأجر جزيل، ولا شرف رفيع، ولكن لعيش دنيء ونفع زهيد … (هكذا يمتاز دهريُّو الشرق عن دهريِّي الغرب، بالخسة والدناءة بعد الكفر والزندقة).
أحسن الإنجليز إلى أحمد خان بتوظيف ولده مولوي محمود عضوًا في مجلس قرية من قرى الهند لا تزيد عن «شبراخيت» في مديرية البحيرة.
ومن حبائله لصيده الضعفاء من المسلمين أنه يعدهم ويمنيهم بأنهم لو تبعوه لأدخلهم في وظائف الحكومة، بما له من الجاه عند جائرة الإنجليز، وحكومة الإنجليز لم توظف من أصحابه إلا أربعة أعضاء في مجالس القرى، ولا يوجد وطني هندي في مثل هذه الوظائف سواهم، هذا هو المجد الذي ناله أحمد خان ثمنًا لدينه ووطنه، فهو كما قال صديق نواب حسن خان ملك بهوبال صاحب التصانيف المشهورة: إن «أحمد خان» دَجَّالُ آخر الزمان، نعم ساعده حكام الإنجليز على استخدام بعض من يقدمهم، لكن لا في الحكومة الإِنجليزية الهندية ولا على الخزينة الإِنجليزية، وإنما يلزم الحاكم أحد النواب الباقين على صورة استقلالهم أن يوظفوهم في بعض الوظائف الدانية.
راق هذا المشرب في أعيُن الحكام الإنجليز وابتهجوا به، وظنوه مُوصلًا إلى غايتهم من محو الدين الإِسلامي من البلاد الهندية، هؤلاء الدَّهْريون ساروا جيشًا للحكومة الإِنجليزية في الهند يسلمون سيوفهم لقطع رقاب المسلمين، لكن مع البكاء عليهم والصياح بهم، إنا لا نقتلكم إلا شفقة عليكم ورحمة بكم وطلبًا لإصلاحكم ورفاهة عيشتكم، ورأى الإنجليز أن هذه أقربُ الوسائل لنيل المقصود من ضعف الإِسلام والمسلمين.
كان التلميذ الأرشد لأحمد خان والوزير الأول والمدير له في جميع شئونه رجلًا اسمه سميع الله خان.
سميع الله خان هو أعظم الدَّهْريِّين دهاءً، وأشدهم اجتهادًا في تضليل المسلمين، وأدقهم حيلةً وأقواهم مكرًا في إيجاد الوسائل لتفريق شمل المؤمنين، وتمكين الحكومة الإِنجليزية في أرض الهند، يقوم هذا الخادع خطيبًا في محافل المسلمين فتسبق دموعُه كلامَه، ويأتي بغاية ما عنده من الفصاحة؛ لهدم أركان الديانة الإِسلامية وإبطال عقائدها الأصلية، ويتجرأ على حضرة الألوهية، ويطعن في الرسالة وصاحبها. كل ذلك وهو ينتحب كَأَنَّما يرثي الدين وأهله.
إذا دخل في بلد من بلدان لأداء هذه الخدمة واظب أيامًا على دخول المساجد، وحضور المحافل الدينية، واستدرج النَّاس بعذب الكلام، ولطف الوعد، وجَذَبَهم إليه من حيث لا يشعرون، فإذا اجتمع عليه بعضٌ من النَّاس اغترارًا بطلاوة ظاهره بدأ في دعوتهم إلى مشربه الكدر (خلع الدين).
هذا العدوُّ المُبِين للإسلام والمسلمين قد نال بمساعيه هذه وظيفة قاض (في الشريعة الإِنجليزية) في بلدة «أكره» وهي بلدة لا تزيد عن دسوق في مديرية الغربية، قالت جريدة التايمس بعدما مدحت سميع الله خان بكل ما يمدح به: «إن هذه الوظيفة (قاض في بلد صغير) هي أعلى وظيفة ينالها هندي وطني.» (أيحتاج لإثبات العدالة الإِنجليزية إلى شاهد أكبر من هذا).
نورث بروك، اللورد الإنجليزي الذي أشرنا إلى طرف من تاريخه في الهند في العدد الماضي، عرف سميع الله خان حق المعرفة عندما كان حكمدارًا في الهند، ووقف على أنه أصدق النَّاس في خدمة الإنجليز وأقدرهم على أدائها،؛ ولهذا طلبه ذلك اللورد ليكون كاتم سره في مصر ليستعمله في تنفير المصريين من الدولة العثمانية، وفي إقناع المصريين بأن حكومة إنجلترا تُريد بهم خيرًا، ويستخدمه في استمالة قُلُوب العلماء؛ لأنه واحدٌ منهم (على دعواه).
وقد يكون من نيته أن يدخل الجوامع، ويعظ، ويخطب، ويروي عن عدل الإنجليز ما لا صحة له وما تكذبه المشاهدة. ولكن رجاءنا في نباهة المصريين وصدق عقائدهم الدينية وشدة ارتباطهم بالدولة العثمانية؛ أن لا ينخدعوا لهذا الراكس الهندي (الراكس بلسان السنسكريت الشيطان المريد)، لا نجَّح الله له مقصدًا ولا أناله مبتغًى.