الفصل الحادي والتسعون
اشتد غضب نوبار باشا على جريدة الأهرام فأصدر أمره بتعطيلها شهرًا وقفل مطبعتها، وقيل في السبب: إنها نشرتْ رسائل مدير الجريدة وهو في لندن على ما فيها من بيان بعض مساوئ السياسة الإِنجليزية على خلاف رغبة سعادة الباشا! وقيل: إن السبب لنشر الشكر الذي قدم إلى المدير والمحرر من أعيان البلاد دلالة على استحسان مشرب الصحيفة (استقباح سياسة الإنجليز).
ولكن كتب إلينا من مصدر خاص أن هذه المسائل العمومية لا تهم نوبار باشا إلا إذا مست مصلحته الخاصة، فالسببُ الحقيقي هو المنهج المستقيم الذي سلكتْه «الأهرام». دعا إلى ذكر بعض الرجال الوطنيين مثل رياض باشا وشريف باشا، مع وصفهما بالوطنية وعلو الهمة وكمال الغيرة.
نوبار باشا ساعٍ إلى أمر مهم وهو ما ذكرناه في العدد السابق ونشرتْه بعدنا جريدة «الديبا» وسائر الجرائد الإِنجليزية، وهو أنْ يكون ولي القاصر «عباس» بعد خلع أبيه فينال بسطةً في السلطة وإطلاقًا في الأمر والنهي، وعلم أن هذا وقت الفرصة لحرص الحكومة الإِنجليزية على تملُّك مصر وهي محتاجة في ذلك إلى كل من ليس له وطن ولا دين ولا جنس في مصر، فهي في شدة الاحتياج لنوبار باشا، وتوفيق باشا قبة جوفاء لا يرجع منها إلا صدى الأصوات، إن قلت: لا فلا، أو قلت: نعم فنعم، فهو في غضبه ورضاه تابعٌ لما يلقى إليه.
فعلم نوبار باشا أن خديويًّا مثل هذا يمكن أن يكون واسطة في تمكين الإنجليز من مصر من حيث لا يشعر، وبتقديم هذه الخدمة لهم يبني لنفسه من العِزَّة قصرًا شاهقًا، فكيف يَطيب لِنُوبار باشا مع هذا السعي أن يسمع ذكر رياض باشا وشريف باشا مع وصفي الوطنية وعلو الهمة، ربما الإكثار من ذكر هؤلاء الرجال يحرك الخواطر الوطنية فيندفع منها سيلٌ يهدم كل ما يبنيه.
إن صاحب الأهرام أكثر من ذكر الوطن والوطنيين، ونوبار باشا أبعد النَّاس عنهما لهذا أغضبه ذكرهما، كلما ذكر لفظ الوطن أو المِلَّة أو الجنس أو الأمة، سواء كان في مقال عام أو في جانب شخص خاص، حسب نوبار باشا أن في الكلام تهكمًا عليه واستهزاءً به، ولا عجب من نوبار باشا إن ظن ما ظن أو فعل ما فعل؛ فالرجل ليس بمصري ولا عربي ولا مسلم، فإذا باع مصر بأبخس الأثمان فهو الرابح، لا خسر ملةً ولا وطنًا ولا جنسًا.
وقيل: إن نوبار يطلب إبعاد الزبير باشا من مصر، فإن نال مطلبه لم يبعد أن يطلب لشريف باشا ورياض باشا وكل ذي شهامة أو فكر في مصر مثل ما طلب للزبير، وتكون الحكومة النوبرية حكومة هندية، وهل يبعد مثل هذا على من يسعى لخلع الخديو؟! إن الذي يؤيد ما روي لنا في سبب تعطيل الأهرام هو أن نوبار باشا ما تحرك لحجز العروة الوثقى عن دُخُول مصر إلا عندما ذكر فيها رياض باشا مع ذكر بعض أوصافه، وإلا فإن كان السبب ذكر الإِسلام والمسلمين فيها فذلك ينذرنا بقفل الأَزْهَر وبأمر نوبار باشا.
إني أتعجب وكل ذي إحساس يتعجب من سكان الديار المصرية من المصريين والأتراك والحجازيين واليمنيين، أَلَا يوجد من بين هؤلاء فتًى يشمر عن ساعده ويتقدم بصدره ويخطو خطوة إلى هذا الوزير الأرمني، فيبطل هذه الصفقة وينقض هذه البيعة ويكشف له وللمغرورين من أمثاله حقيقة الوطنية، ويرفع الحجاب عن واجبات الملية؟! لا حول ولا قوة إلا بالله.
إن المولَعين بحب الحياة يقضونها من خوف الذل في الذل، ويعيشون من خوف العبودية في العبودية، ويتجرعون مرارات سكرات الموت في كل لحظة خوفًا من الموت، لا الدين يسوقهم إلى مرضاة الله، ولا الحمية الوطنية تدفعهم إلى ما به فخر بني الإنسان!