الفصل السادس والتسعون
أرسل الإنجليز مراكبهم إلى ثغر الإسكندرية سنة ١٨٨٢ بلا سبب أو لقصد تهييج الخواطر الساكنة، ثم أطلقوا نيران مدافعهم على ذلك الثغر فكان عملهم الأول والثاني سببًا في خسارات جسيمة نُكب بها سكان البلاد، ثم كان الضمانُ عليهم هذا إما سوء حظ المصريين أو لضعف الحكومة أو خرقها.
لا ريب أن خزانة الحكومة المصرية في عجز عن أداء هذه الغرامة الثقيلة التي هي — في الحقيقة — قصاصٌ بلا جناية، ولكن مع ذلك للمصابين حقٌّ في المطالَبة بخسائرهم، وليس لهم صبرٌ على الإهمال فيها، فحدثتْ ربكة، وحكومة الإنجليز كالصياد الماهر لا يَطلب السمكَ إلا عند تعكير الماء! رأت أن تصيد صيدًا أو تخطو خطوة أخرى إلى مقصدها في مصر بعد خطواتها السابقة أو تمكن مخالبها في أحشاء مصر، بل يصح أن نقول: إن الحكومة الإِنجليزية بحيلتها التي أشرفت على تتميمها تُريد أن تقبض على زمام البلاد المصرية فتكون بأسرها في تصرفها.
من المعلوم أن عمار المساجد والمدارس الدينية إنما هو بالأوقاف التي أنشأها صلحاء المِلَّة من أزمان مديدة ولا يزال ينشئها المقتفون لآثارهم، وقيام الدين الإِسلامي إنما هو بعَمَار المساجد والمدارس الدينية، فالأوقافُ عمادٌ عظيمٌ يقوم عليه عرشُ الديانة الإِسلامية، فقَصَدَ رجالُ الحكومة الإِنجليزية بكيدهم أنْ يجعلوا العلماء الذين يعمرون مساجد الله ومَعَاهِدَ العلوم الشرعية خاضعين لأحكامهم، مرتبطين بعمالهم حتى يستعملوهم، (وإن طلبوا محالًا) في جلب قُلُوب الأهالي إليهم وتأليفها على ولائهم، وربما نالوا بهم حجة عند دول أوروبا، يثبتون بها رغبة المصريين في بقائهم تحت سلطة الحكومة الإِنجليزية واطمئنانهم إلى ما تقضي به فيهم.
هكذا رأى اللورد نورث بروك أن يحل مسألة التعويضات بأنْ تدفع الحكومة الإِنجليزية قرضًا للخزينة المصرية تؤدي به تعويضات الخسائر التي حدثت من ضرب الإسكندرية، على شرطِ أنْ تكون الأوقاف العمومية كافلةً للقرض وفوائده وتكون إدارة الأوقاف في تصرُّف الإنجليز.
ألا أيها النائمون تيقظوا، ألا أيها الغافلون تنبهوا، يا أهل الشرف والناموس، ويا أرباب المروءة والنخوة، ويا أُولي الغيرة الدينية والحمية الإِسلامية، ارفعوا رءوسكم، تَرَوْا بلاءً منصبًّا على أوطانكم، وما أنتم ببعيد منه، ولا بمعزل عنه، إن لم يكن أصابكم اليوم، فسيصيبكم غدًا، تساهلتُم في الذود عن حقوقكم المقدسة، ولَهَوْتُمْ عن ما أضمرت لكم هذه الحكومة من الإهانة والتذليل وسوم الخسف، وتعللتم بالأوهام، فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأمانيُّ حتى جاء أمر الله وغَرَّكم بالله الغَرور، أصبحتم على شفا جرف المذلة، ويخشى أن يُقذف بكم — بعد قليل — في جحيم العبودية.
إلا أن وقت التدارُك ما فات، فالأرواح في الأجساد، والعقول في الرءوس، والهِمم في النُّفُوس، وإقدام العدو في زلل، وشئونه في خلل، فاثبتوا ولا تهنوا، ولا تحزنوا وأنتم الأعلون، إن كنتم مؤمنين، لا ترضوا بالدنيَّة، خوفًا من المنية، واعلموا أن ثباتًا قليلًا وإقدامًا خفيفًا في هذا الوقت يفعل ما لا يفعله الجيش العرمرم.
نعم؛ فإن الدول متفقةٌ على معاكَسة الإنجليز، والإنجليزُ في شغل شاغل بالمسألة السودانية، وقلوب رعاياهم في الشرق — خصوصًا المسلمين — منحرفةٌ عنهم، وكوامن الأحقاد متهيئة للوثبة عليهم، فعملٌ صغيرٌ في مناوأتهم من أهل مصر يوجب — بعون الله — سقوطَهم وتنكيس أعلامهم، ورجوعهم بالخيبة خاسرين.
فالثبات الثبات! وحذار حذار من التواني والتقاعد! هذا وقت يقرب فيه المؤمنين إلى ربهم بأفضل عمل شرعي، هذا وقت تُنال فيه سعادة الدارين، للعامل فيه خيرُ الدنيا وله في الآخرة الحسنى وزيادة، هذا وقت تظهر فيه ثقة المؤمن بوعد ربه، هذا وقت يشكر فيه العامل على بسيط الأرض، ويحمد له عمله فوق سبع سموات.
ألا إن الشيطان يُخوِّف أولياءه، فلا تخافوا أعداءكم ولا تكونوا كالذين استحبوا الدنيا على الآخرة، إن الله تعالى قد جعل من علامات الإيمان حُبَّ الموت اختيارًا لرضاه وإعلاءً لكلمته، كونوا مع الله في نصره ينصرْكم ويثبتْ أقدامكم، ثِقُوا بوعد الله؛ فلن يُخلف اللهُ وعده، إنْ أخلصتم له في العمل سَلُوا قلوبَكم، وامتحنوا إيمانكم، ولا ترتابوا في وعود ربكم، فلن يرتاب فيها إلا القوم الكافرون.