الفصل الثامن والتسعون
حركات العقلاء على حسب المقاصد ومقدرة نقدرها وأولاها بالاعتبار ما يصدر عن كبار الرجال الذين يدبرون شئون الممالك على قواعد العقل وأُصول الفكر، وعلى رُعاة الأمم في كل دولة أن يكونوا بمرصد لكل حركة سياسية وبمرقب للنظر في غايتها والبحث عما بعث عليها، رب نهضة من سياسي عظيم تميد لها الراسيات في كل دولة وتضطرب لها الروابطُ العامة بين أمة وأمة.
فليس لمحنك في السياسة أن يقصر نظره على ما عنده ويرد كل حادث سياسي إلى ما رسم في مخيلته واعتقده موافقًا لمصلحته، فيضل عن الرشد بالقصور ويغيب عن الصواب بالغرور، بل عليه أن يُطالع مقاصد السياسيين في لوح الإمكان، ويتلوها في صفحات المنافع والمضار التي يحمل على جلبها أو يدعو إلى دفعها طبائعُ الأمم، ولوازم مليتهم، ومواقع بلدانهم، وعلائقهم مع سواهم، حتى يمكنه أنْ يكون بين هذه الجواذب والدوافع حافظًا لمداره، واقيًا لنظام سيره، يكون على غواربِ أمواجِ الحوادث كالمَلَّاح الماهر، يضرب بسفينته عروض البحار، في أَمْن من الأخطار، يستفيد حتى من العواصف، وينجو حتى من القواصف.
كانت حكومةُ فرنسا أشدَّ الدول في دفع إنجلترا عن مطالبها المالية، وبهذه الشدة سقط المؤتمر، بعد هذا بذل البرنس بسمارك جهده في اجتماع القياصرة الثلاثة فاجتمعوا في «إسكيارنيافيس»، ثلاثة ملوك عظام تلاقوا بعد طول المخابرة ومعهم وزراؤهم، ورجال تميزوا بين السياسيين بعلو الرأي وبُعد الغاية.
هل كان هذا التلاقي لإطفاء لوعة الشوق وإجابة داعي المحبة الشخصية؟! هل كان كما ذكرتْه الصحف للتداول في الوسائل التي يجب استكمالها لقهر الفوضويين؟! كيف يكون هذا وليس أعوانُ الفوضى إلا كلصوص تقمعهم السطوة الداخلية ويكفي لسد أبواب الفرار في وجوههم مخابراتٌ خفيفةٌ بين أولئك الملوك، كما هو الشأن في أمثالها من المسائل الجزئية. إن ما تقوله الجرائد من هذا القبيل إنما يُقصد به التعميةُ وصرفُ الأذهان عن النظر في الحقيقة — أي غرض عظيم دعاهم للاجتماع؟! — لم يجتمعوا لنفع دولةٍ واحدة، فإن حكم المنافسة محا فضيلة الإيثار.
قد انضم لهذا الاجتماع تعدُّدُ المُلاقاة بين البرنس بسمارك بهذا الاتفاق الإمبراطوري أن يجعل لفرنسا ركنًا شديدًا في معارضة إنجلترا حتى يستحكم الشقاق ويُفضي إلى حرب تُوهي القوةَ الفرنسية ويُصيب منها ما يحب، هذه فائدةٌ خاصةٌ بدولة الألمان لو قدرت على نيلها، فماذا ينال الدولتين المنافستين لها من الاتفاق معها؟ أَوَيريد البرنس مجرد المجاملة لفرنسا وتقطيب جراحها بتأييدها في رغباتها فتكون المصفاة بينها وبين ألمانيا وتنسي الأحقاد بينهما؟
غاية لا تطلب والشأن فيها كسابقتها، يقصد البرنس مجرد الانتقام من وزارة بريطانيا تشفِّيًا من غيظ الإهانة التي لحقتْه في المؤتمر. إن كان هذا، ما بال الدول تتفق معه على انتقام شخصيٍّ لا يمس المصلحة المشتركة، هل هذه الحركة الشديدة موجهة إلى ما يقصده بسمارك من التملُّك والفُتُوح في الشرق وإلى هذا القصد تنتهي؟! أيصح أن يكون ذلك الأمرُ الكبيرُ وسيلةً لهذا الغرض الحقير، على أن إنجلترا كانت أقربَ إلى ألمانيا في هذه الوجهة، وأجدر بأن يَميل إليها البرنس ويتحالف معها لنيل هذه البغية؟!
هل أراد البرنس أن يحتل روسيا ويُلهي فرنسا بالمسألة المصرية لتنام الأعينُ عن دولة النمسا، فتتقدم من طرف هرسك وبوسنة إلى ما شاء الله ووسعت القوة، في غير موضع وصنيعة في محل القطيعة؟ هل أحب البرنس أن يمتع نظره بشهود الفتوحات، فبعدما فتح للنمسا بابًا في الشرق من جهة هرسك رسم لروسيا طريق هراة وقندهار، ومد لفرنسا خطًّا في حدود تونس، وهو قريرُ العين بما يرى ويسمع من توسع هذه الدول في فتوحاتها، وإن لم تعد من ذلك فائدةٌ على الأمة الألمانية؟ شيء لا يأتي عليه الفكر ولا يصيبه النظر.
هذا ولا يصح لنا أن نقول: إن الحلف العظيم بين القياصرة واهتمامهم بتأكيد الروابط بينهم لمجرد كَفِّ يدِ الإنجليز عن مصر، وإبقاء فائدةِ الدين ومبلغ الاستهلاك على ما كانا عليه، وحفظ قانون المالية المصرية، كما ظن مراسل «التان البرليني»، قال: إن في عزم البرنس بسمارك تأييد الحجة الفرنسية بثبات شديد وإرادة صحيحة، وسيكون مع فرنسا يدًا واحدةً في إبقاء الحالة المالية في مصر على ما كانت عليه، وفي زعم المراسل أَنَّ هذا كان باعثًا لسياسيِّي إنجلترا على بَذْل الجهد لحَلِّ عقدة الاتفاق بين ألمانيا والنمسا وفرنسا؛ فإن المسألة المصرية بمجردها ليست مما يدعو إلى حملة عمومية.
إني أرى تحت هذا النفع جحافلَ أهوال، ووراء هذا الغيم وابلات أرزاء، أرى تَنَقُّلًا قريبًا في حدود الجغرافيا في السياسية، وتغييرًا عظيمًا في الخطط الدولية، وانقلابًا في هيئة الروابط العمومية، نعم، قد يكون من المبادئ الأولية لهذا العمل أن يتفق البرنس بسمارك مع فرنسا؛ فإنه لم يجد خيرًا في مناوأتها زمنًا طويلًا، وكلما رام الوضع منها زادتْ عُلُوًّا وارتفاعًا فيريد أن يجرب صداقتها كما جرب عداوتها، وأن يدفع البرنس دولة روسيا إلى آسيا، فهو أسلمُ للدولتين الألمانيتين.
ثم يبعث النمسا على التقدم خطوات حيث تولي وجهها وفيما تخلفه وراءها فائدة البرنس المالية — أرسل البرنس ولده الكونت هيربرت بسمارك سفيرًا في لندن ليكون حفيظًا لسره أمينًا على عمله، حتى إذا ما فاته ما يرجو من العزيمة الأولى، لم يخجلْ من الانقلاب عنها إلى الأُخرى، وربما يرى الارتباك الذي يؤدِّي به إلى ما يُريد إنما يكون بعقد مؤتمر جديد باسم المسألة المصرية، ويقال: إنه سيثبت على شدته في هذه المسألة إلى حد، كما روتْه الجرائد المهمة — وقضت الحوادث أن تكون الدولة العثمانية والحكومة المصرية التي هي جزءٌ مِن أجزاء الدولة في مهبِّ رياحٍ مختلفة، فعليها التيقُّظ التام، والاحتراس الشديد؛ كي لا تكون خسارتهما في استفادة غيرهما.
إذا قامت الدولة بعمل كما يليق بها حفظت حقوقها وصانت بقية ممالكها، الحكيم اليقظ يستفيد من كل حادثة وإلا خرق الغافل عرضة لكل خطر، الدولة تطلب نكاية الإنجليز من كل وجه، فما الذي يمنع الدولة العثمانية من مُجاراة الدول العظام وهي أقدرهن على الإضرار بهم فإنهم في بلادها، يعبثون فيها مفسدين، وسُكَّان البلاد لا ينتظرون إلا خطوة من دولتهم إليهم فيقيمون القيامة عليهم.