الفصل المائة
عظُم على الخديو السابق أَمْرُ ما نزل بمصر، وعَزَّ عليه اشتداد الأزمة في داخليتها، وعسر ماليتها، واكتنافها بالفتن الخارجية، وارتباكها في المشكلات السياسية، فحن إليها (وله أن يحن)، وأراد أن لا يدع للإنجليز موضعًا للتعلل (في تأمين الدين وأطفأ الثورة) فأظهر من سريرته ما ذكرته جريدة «الروبيبليك فرانسز» وهو: أن يتبرع بالتزام أداء ما يطلبه حاملو الأوراق المصرية مع استعداده لأنْ يقود جيشًا لمُغَالبة محمد أحمد!
ورأينا في جريدة الماتان: أن مسيو كورسيل سفير فرنسا في برلين أخبر حكومته بوجهٍ رسميٍّ أَنَّ القياصرة الثلاثة استقر عزمهم أن يبعثوا إلى الخديو «توفيق باشا» بلائحةٍ مقتضاها أن منصبه سيكون في خطر إذا استمر زمنًا طويلًا على الركون لإنجلترا في الدَّسَائِس المالية بالقطر المصري، وأن السعي في عودة إسماعيل باشا إلى مصر سيكون مؤيدًا من وزارات برلين وستراسبورج وفيينا وباريس، وأن مسيو هربرت بسمارك يأخذ على نفسه أن يُشهر الدوائر السياسية بلندن ما يترتب على عودة الخديو السابق من الفوائد؛ حيث يعلن رسميًّا أن عودة إسماعيل باشا هي أفضل في نظر الدول من الأعمال التي تصدر من إنجلترا متعلقة بمصالح أوروبا ومنافعها في البلاد المصرية. ا.ﻫ.
إنا نعلم أن إسماعيل باشا لو رجع إلى مصر لا يكتفي بتخفيض سلطة الإنجليز في وادي النيل، بل يبذل جهده في محو النفوذ الإنجليزي بالمرة، وربما مَدَّ حباله إلى سائر البلاد الشرقية الداخلة في سلطة الإنجليز؛ ليُحبط أعمالهم فيها، ويهدم أركان سلطتهم عليها؛ لأنه يعلم أن الدولة الإِنجليزية هي السبب في كل مُصاب نزل به، وكأنَّ الإنجليز أَحَسُّوا بذلك منه على ما روتْه بعضُ الجرائد، فدفعوه عن نيل مقصده ولا يزالون يدفعونه، لكن لو اتفقت بقية الدول مع الدولة العثمانية على إرجاعه لم يبعد وقوعه، غير أن إحدى الجرائد ذكرتْ مانعًا قويًّا وعائقًا شديدًا يحول دون نجاح هذا المقصد، وهو امتناعُ الذات الشاهانية عن إصدار الفرمان لإسماعيل باشا بخديوية مصر، أيًّا كانت الحال.
واستعظام هذا المانع مبنيٌّ على ما تراءى للسلطان من أن إسماعيل باشا وهو في أوروبا أعزل فاقد السطوة لا حول له ولا قوة؛ كان مهتمًّا للتشويش على الخلافات العثمانية ومعارضة الذات الشاهانية، وأن الرسائل الكثيرة والمقالات المتعددة المطبوعة بالألسن المختلفة المشحونة بما يمس الخلافة، وقد وصل إلى علم السلطان أن الحامل على تحريرها هو إسماعيل باشا، فهذا الظن هو الذي يمنع السلطان مِن تسهيل الطَّرِيق لعودته لحسبانه أنه لو صار له نفوذ وسلطة في مصر فربما صدرتْ عنه أعمالٌ لا تُوافق مصلحة الدولة.
فعلى رأي صاحب الجريدة إن عود إسماعيل باشا إلى مصر بعد اليأس من إنجلترا لا يكون إلا بإصلاح الصلة مع السلطان واستمالة سائر الدول، هل يمكن هذا؟ ربما يمكن إذا وثق السلطان بما يطمئن به ووضح للدول ما يصح الركون إليه، هذا إذا لم تراع الدول ولا الدولة العثمانية حركة الأفكار العمومية في مصر، فإن جعلت هذا أساس العمل زادت المسألة صعوبة؛ فإن الرأي العام في هذه الأيام مختلف بالديار المصرية، فمن النَّاس من سبقه ميلُهُ لتوفيق باشا، ومنهم من قام يدعو إلى حليم باشا ويطلبُ من النَّاس أن يوقِّعوا على محضر بطلبه كما جاءنا به خبر الثقة، ومنهم مَنْ هو ممسكٌ عن الرأي صامتٌ عن القول. وسنأتي على بيان هذه المسألة فيما بعد، إذا دعت الحوادث حقيقة للكلام فيها.