الفصل الحادي والمائة
إذا تُليت سطورُ الحوادث الأخيرة وأُعطيت حقها من الاعتبار، ولوحظ ما وصلت إليه هيئة السياسة في أُوروبا لهذا العهد القريب، وما يشف عنه اجتماع القياصرة الثلاثة، وما يُرشد إليه تداولُ الزيارات بين البارون دي كورسيل سفير فرنسا في برلين، وبين البرنس بسمارك، ولو تبصر مُتأمِّلٌ فيما يتبع ذلك؛ لَصَحَّ له الحُكْمُ بخطر هذه الحالة في مصر على إنجلترا، وأنه لم يبق لتخليصها من يديها إلا شيءٌ واحدٌ هو قيامُ العثمانيين على حقوقهم واشتدادهم في طلبها وعدم اطمئنانهم لأعمال وكلاء الإنجليز في الأستانة، خصوصًا في هذا الوقت الذي هَمَّتْ فيه الدول بتخفيض السلطة الإِنجليزية ونزع مصر من يد إنجلترا، ويرى السياسيون أنه لا شيء أشد تأثيرًا وأجمل عائدة في تلطيف المسألة المصرية من مُداخَلة الدولة العثمانية.
وأخبر مراسلُ صحيفة التان في فيينا بناءً على ما وصل إليه من مصدر موثوق به أن دولة ألمانيا والنمسا وروسيا من رأيهم أن تداخُل الدولة العثمانية وتجديد سلطة السلطان في وادي النيل؛ يوجب تعديل الحالة السياسية، وليس الغرض من هذا إلا كف أيدي الإنجليز عن تلك الأقطار، فليس من الرأي أن تصغي الدولة العثمانية لنصائح إنجلترا ووكلائها وهي ترى أن جرائد الإنجليز تنادي بلسان الأمة الإِنجليزية على حُكُومة بريطانيا طالبةً منها إعلانَ الحماية على مصر، بل والتمكين في الخرطوم بعد رفع الحصار عنها، وتنصحها بمد سكة الحديد من سواكن إلى مدينة الخرطوم، فلو تساهلت الدولة في هذا فقد فَرَّطَت في جزءٍ عظيمٍ من ممالكها، وأضاعتْ حقًّا ثابتًا، وأي دولة سواها تهتمُّ بإخراج الإنجليز من مصر، فهي صاحبةُ الحَقِّ فيها، فلا يكون للدولة نصيبٌ من ملكها إذا أضاعتْه بالتفريط.
اللورد نورث بروك وزبانيته يسعون لجلب قلوب الأهالي بتزيين الأماني وتخييل الآمال.
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (النساء: ١٢٠)، ليتخذوا من ميل المصريين حجة يجادلون بها الدول ويثبتون لأنفسهم حقًّا قانونيًّا في الإقامة بمصر، ثم مِن جهة أُخرى يحشدون قوةً عظيمةً إلى مصر؛ استعدادًا لتَلَقِّي الحوادثِ المنتظرَة لكن تحت اسم إنقاذ جوردون، فلو وَجَدَ الإنجليزُ بُرهانًا من الحيلة ومنعة بالقوة وحملهم الغرور والكبرياء على مشاورة الدول اعتمادًا على عدم الاتصال في البر وتمكنهم من المراكز الحربية في البحر كمالطة وقبرص، وأن تحارب الدولة العثمانية؛ فهم أقدرُ النَّاس على محاربتها من جهة العريش وفي عموم السواحل، فماذا تكون العاقبة؟ هل تكظم الدول غيها وتترك الإنجليز وشأنهم؟ لا نظن ذلك، ولكن إذا حالت الموانع دون نكاية الإنجليز في مصر عمدت الدول إلى نكايتهم بالحصول على غنيمة تُعادل مصر ولا تكون إلا في بلاد المسلمين، فتساهلُ أصحاب الحق الشرعي في وادي النيل يُضيع لهم حُقُوقًا أُخرى في غيره.
إن الدولة العثمانية أولى من سائر الدول بالعمل في المسألة المصرية وأجدرُهم بالاهتمام بها، ومن الواجب أن تكون أَشَدَّ حرصًا على الظفر بالإنجليز فيها، إن الدولة في مقام المدافع عن حياته، وهو بحكم الطبع أقوى باعثًا وأدنى للعمل من طالب الفائدة، إن شرًّا يقع أولى بالتلافي مِن شر يُتوقع، وإن خطرًا عاجلًا أحرى بالالتفات مِن وَهْم باطل.
نفوس المصريين في هياج، فإن ما أفسد قلوبهم على الإنجليز من سوء التصرف في الحكومة واستلام إدارتها وإبطال الحقوق الوطنية وحشد الجيوش إلى البلاد لقصد التمكن فيها؛ كل هذه سهامٌ خرقتْ شغاف القلوب، وزاد الجراح نغرًا ما اعترفت به جريدة التايمس من اشتداد الارتباك وتعطُّل أسباب المعيشة، ووقوف دولاب التجارة، وإشراف العائلات الكبيرة على الافتضاح، خصوصًا الذين كانوا في خدمة أوطانِهم وحُرموا منها، فلو أَحَسَّ المصريون وهم في هذه الحالة بحركة خفيفة من دولتهم (العثمانية) لَكَفَوْها شَرَّ الإنجليز، وقليل من العمل فيه الكفايةُ.
واليوم يتوجه الإنجليز إلى السودان، فلو لمحوا ثباتًا من العثمانيين لوقفوا وقفةَ الحائر، بل سقطوا فيما لا منجى لهم منه، إن الخطر كل الخطر في سُكُوت العثمانيين عن طلب حقوقهم، وليس من الرأي أن يُخاطروا بأنفسهم ثقة بمواعيد الإنجليز، وفي علمهم أنْ لا وفاء لها، فهذا هو الوقتُ الذي يتمكنون فيه من إعادة سُلْطتهم على القطر المصري إلى أعالي السودان، وفي ذلك صيانة ممالكهم من العدوان ولا يرضي بفوات هذه الفرصة إلا مَن أسلم نفسه للموت وألقى بها إلى التهلُكة، هذا ما يثبته العيان ولا يختلف عليه اثنان، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وما أنا عليكم بوكيل.