الفصل الثالث والمائة
تسعى حكومة بريطانيا بكل ما في وسعها لوقف دفع الاستهلاك وتنقيص فائدة الدين المصري، ويعترضها في ذلك سائرُ الدول الأوروبية العظيمة، هل الدولة الإِنجليزية أشد الدول رحمة على العالمين عمومًا وعلى المصريين خصوصًا، فدَعَتْها الرحمةُ للقيام على هذا العمل قصدًا لراحة المصريين وتخفيفًا لثِقَل الدين على الخزينة المصرية، وتَوَصُّلًا لرفاهة الأهالي وتوسيع دائرة ثروتهم؟
أو أن الدولة لم تُبالغ في الشفقة وهي على حد الاعتدال في الحكم، ولكن الدول تجاوزوا القسط في القسوة خشونة وغشمرة أو لعداوة خصوصية بينهم وبين المصريين، لهذا لا يريدون تخفيف شيء من أثقالهم؟! أو أنها اطَّلَعَتْ على أحوال المصريين وكشف حقيقة ما هم عليه وعلمتْ عَجْزَهم عن الوفاء مما عليهم وخفيت هذه الحقيقةُ على سائر الدول، فرأتْ حكومةُ بريطانيا أنْ تخبر الدول بما وقفت عليه قيامًا بخدمة الصدق، وإنما يُعارضها من سواها؛ جهلًا بواقع الأمر؟! لا … لا … ليس شيء من ذلك.
مَن ساح في المستعمَرات الإِنجليزية كالبلاد الهندية ونحوها؛ تبين له أن الأهالي في تلك الممالك حمِّلوا من أثقال الضرائب وأوقار الرسوم الدائمة والمؤقتة ما لا يعرف له غايةٌ ولا يؤخَذ فيه بقياس، حتى سقطوا في مهواة من الفقر لا يجدون منها خلاصًا، ويوجد ملايين من أهل الهند يقتاتون بالأعشاب البرية؛ لفقدان أقواتِ البشر مع خصوبةِ أراضيهم وجَوْدَة منابتهم، فهل يصح لعاقل أن يظن بعد هذا أن الإنجليز ضنوا برحمتهم على رعاياهم الهنديين وأفاضوا فيضها على المصريين؟
أي رابطة بين المصريين والجنس البريطاني تدعو إلى هذا الاختصاص؟! هل يصحُّ أنْ يُقال: إن الأمة الفرنسية مع ما لها مِنْ سَابِقِ الآثار في مصر تُعادي المصريين وتَقْسُو عليهم وتطلب تنكيلهم حقدًا وانتقامًا؟! وهذا هو ما يحملها على المعارَضة في تخفيف الفوائد وتوفيق الاستهلاك؛ قصد الإضرار بالمصريين، ووافقتْها على ذلك الدول الباقية! هذا مما لا يُعقل، فإنَّ في مصر ما يستميل الدول إليها لا ما يبعثها على الانتقام منها — كما لا يعقل — أو أن وكلاء السياسة في مصر ومديري خزينة الدين من رجال الدول العظام؛ قد خفي عليهم حال المصريين وشئون ماليتهم وتفرد الإنجليز بعلمها من بين سائر الأمم.
على أَنَّ مَن يزعم أن أرض مصر فقيرة في ثروتها قاصرةٌ عن أداء ما أوجبه عليها عهدُ الدول؛ فقد افترى كذبًا، فإن مصر قد قامت بوفاء ما طُلب منها أيام وزارة رياض باشا أحسنَ قيام مع غاية السعة وارتياح الأهالي إلى تأدية الضرائب بأنواعها، ومسرتهم التامة من تقسيم المطلوبات على حسب المواسم الزراعية، وهكذا استمر الحال بعد رياض باشا على الأساس الذي وُضع في عهده إلى أنْ زحفتْ إنجلترا بجيشٍ من دسائسها على تلك النُّفُوس المطمئنَّة فأقلقتْها، وتلك الأرواح الساكنة فأثارتْها، فما تبتغي إنجلترا الآن من الإلحاح على تنقيح قانون التصفية وتنقيص الفوائد؟ وماذا بعث الدول على معارضتها؟!
تريد حكومةُ بريطانيا أن تسود على مصر وتستعبد أهلها، وترى أن بقاء الحالة المالية على أُصُولها السابقة يرجع بالمنفعة على الدائنين من الأُمم المختلفة، فلا يكون حظُّ الخزينة الإِنجليزية الخاصة من ثروة مصر وافرًا، ولهذا بادرت قبل إعلان الحماية أو السيادة أو الاستملاك بالسعي في تخفيض فائدة الدين لتستأثر فيما بعد بما تزعم التفضل به الآن على المصريين، فهي تسعى لفائدتها الخاصة ليس إلا.
هذا قصدها، لم يخف على الدول فقامتْ بمعارضتِها وأصرتْ حرصًا على مصالحها لا تهدر فداءً لحظوظ الإنجليز وقضاءً لشهواتهم.
يهم الدول جلاء الإنجليز عن مصر عاجلًا أو آجلًا، لهذا تهتم بسد أبواب الحيل عليهم وإقامة العقبات الصعبة في كل خطوة يخطونها إلى مآربهم.
وظهرتْ مقاصدُ الإنجليز وانكشفتْ مُضمراتهم لعموم أوروبا ولم يَبْقَ فيها ريبةٌ عند دولة من الدولة الأُوروبية، وإنْ كان بعضُ الغفل في تلك البلاد المنكودة الحظ (لا نريد نوبار باشا فإنه ضاربٌ في طريقه ذاهبٌ إلى مقصده يتزلَّف للإنجليز بكل ما يُمكنه؛ لينال بوساطتهم ما أشرنا إليه مرارًا)؛ تسول لهم أنفسهم إما جهلًا وإما طمعًا أن يميلوا مع ريح الحكومة الإِنجليزية ويظنوا أنها لا تقصد بالبلاد المصرية إلا خيرًا، فإذا فاض الخيرُ في البلاد وشملت الراحة جميعَ أنحائها؛ انجلت العساكر الإِنجليزية عنها كما جاءت إليها ورجعوا إلى بلادهم فرحين بأنهم أدوا فرائض الذمة وحقوق الإنسانية!
والعجب من هؤلاء المغرورين كيف لم يعتبروا بحركات اللورد نورث بروك؟! يتجول في البلاد المصرية ويستدعي إليه العمد والمشايخ ويذاكرهم فيما يريد، طورًا سرًّا وطورًا آخر علانيةً، ويجاذبهم أطراف الأحاديث فيما يمكن أن يتخذ وسيلة لتمكين حكومته من الولاية على تلك البلاد، أَمَا كان يكفي هذا السير لإدراك الحقيقة؟! فبم يعلل الغافلون أنفسهم؟ وأي أوهام تخيل لهم ما يظنون؟!
ألم يكشف الغطاء عن نية السوء بسؤال اللورد نورث بروك للشيخ العباسي المهدي شيخ الجامع الأَزْهَر ومفتي القاهرة حيث افتتح الكلام معه بقوله: «ماذا تعلم من أفكار الأهالي لو أردنا نحن الإنجليز أن نُديم الإقامة في البلاد؟!»
فلو لم يكن لدولة الإنجليز عزم على تملُّك وادي النيل فكيف كان هذا السياسي الداهية يبتدر شيخًا من أجلِّ المشايخ وأعلاهم مقامًا في القُطْر المصري بهذا السؤال، مع أَنَّ أقل ما فيه إثارة الظنون وإحداث الريب إجابة حضرة الشيخ بما يفيد نفرة القلوب من بقاء الإنجليز في احتلال مصر، فاستدرك اللورد ما فرط منه بقوله إنا لا نريد البقاء، ولكن كان استدراكه مناقضًا لِمَا دل عليه أول سؤاله، وما الإنكار إلا خديعةٌ لا تخفى على الصبيان فضلًا عن الراشدين، يريد اللورد بهذه المحاولات أن يستكن مضمرات القلوب ليتبين له ضروب السير إلى ما يقصد من التسلط على أرض مصر، حتى إذا سد في وجهه بابٌ حاول قرع باب آخر.
أما آن لهؤلاء المخدوعين أن يرجعوا لأنفسهم ويمدوا نظر الانتقاد لحركات هذا اللورد، أي إصلاح يقصده اللورد من طرد العساكر المصرية، وإلغاء كل ما يسمى جندًا مصريًّا، ومحو هذا الاسم من دفاتر الحكومة المصرية؟! إن اللورد يُلِحُّ بكل اهتمام على استبدال الجُند المصري بأعوان الشرطة والخفر المسمى بالضابطة، ما هذا الاهتمام، إن لم يكن من قصده تمهيد الطرق للتسلط التام على مصر؟! هذا سبيلٌ سلكتْه الإنجليز في جميع فتوحاتها كما نَبَّهْنَا مرارًا، وإن هذا الداهية الإنجليزي لا يحيد عنه بعدما سلكه أسلافه مِنْ قبله وقفاهم عليه عندما كان حكمدار الهند وجنوا ثماره، يجتهد بما في وسعه لطرد العساكر المصرية وإبدالهم بالضابطة ليقترح بعد أيام تبديل رجال الضابطة المصريين بأقوام من الجيوش الإِنجليزية أو الهندية، تعللًا بفساد أخلاق المصريين وعدم أهليتهم للخدم النظامية، وعجزهم عن القيام بوظائف الضبط وصيانة الراحة، وبذلك يجرد الحكومة من جميع قواها وتكون السلطة الإِنجليزية سائدة في جميع الجهات بلا معارض لها من طرف الحكومة المحلية، كل هذا يجريه قبل إعلان السيادة والاستملاك كما فعل سابقوه في الهند مع كل نواب وراجا ولا يزال يفعل خلفهم من بعدهم.
فلم يبق بعد هذا سوى أن ينتبه الغافل، ويلتفت صاحب الأمر إلى ما يحف به ليحترس من هذا الكيد العظيم، ولا يُعِين الإنجليز على مقاصدهم جهلًا منه أو اغترارًا بما يخيلون له مِن نفعٍ يعود على شخصه أو بلاده، سبحان الله! هل كان مثل هذا الأمر يحتاج إلى تنبيه؟! هذا محل العجب من غفلة أمراء الشرق، لا تفيدهم التجارب، ولا تريبهم المحن، ولا تعلمهم الحوادث، ولا تدربهم النوازل، وتناوب الرزايا والمصائب.
من له أدنى خبرة بسير الإنجليز في ماضيهم أو حاضرهم، يعلم أنهم يملكون البلاد بأيدي سكانها، ويقتلون أمراءها بسيوف أنفسهم، يرى هذا الأمير الشرقي في أرض جاره فيظن النازلة خاصة بموقعها فيلهو عنها ولا يخشى السقوط فيما سقط فيه غيره، فيقع في نفس الشرك الذي صِيد به جاره، مثلهم مثل الأغنام سوق القصاب منها واحدًا بعد واحد إلى المذبحة وسائر القطيع في غفلة عما يجري على آحاده يرعى ويرتع آمنًا مطمئنًّا حتى يفنى.
لا عار على أمة قليلة العدد ضعيفة القوة إذا تغلبت عليها أمة أشد منها قوة وأكثر سوادًا وقهرتْها بقوة السلاح، وإنما العار الذي لا يمحوه كر الدهور ولا ينسيه تطاول الأزمان، هو أن تسعى الأمة أو أحد رجالها أو طائفة منهم لتمكين أيدي العدو من نواصيهم، إما غفلةً عن شئونهم، وإما رغبةً في نفع وقتي وجزاء نقدي على خيانتهم، فيكونون باحثين عن حتفهم بظلفهم.
علينا أن نرفع أعلام المحبة الوطنية، ونحمل عوامل الشهامة الإِسلامية، ونوقد نيران الغيرة الوطنية، لتخيب آمال الإنجليز ونرد كيدهم في نحورهم، ونقذف بأولئك المغفلين الذي يميلون إليهم خارج تخوم هذه الديار ليلحقوا بالخائنين ممن سبقهم ويذوقوا عذاب الهوان بما كانوا يكسبون، هذا إذا حصل اليأس من تيقظهم ورجوعهم إلى الحق والصدق في محبة الأوطان ورعاية مصالحها، فإن تابوا وأصلحوا وأنابوا كان الحق ظهيرهم، وكان الله وليهم ونصيرهم، وهو نعم المولى ونعم النصير.