الفصل السادس عشر
«إذا أراد الله بقومٍ خيرًا جمع كلمتهم.»
•••
سرَّنا من الجرائد الفارسية صدقها في خدمة أوطانها واعتدالها في مشاربها، وزادنا مسرة اهتمامها بترجمة بعض الفصول المهمة من جريدتنا ونقلها إلى اللسان العذب الفارسي مما تظن فيه تنبيهًا لأفكار المسلمين، واستلفاتًا لعقولهم إلى ما فيه خيرهم، فلها منا ومن كل مخلص في محبة ملته أوفرُ الشكر، خصوصًا جريدة «اطلاع» التي تطبع في مدينة «طهران»، وهذا المنهج القويم مما تعم به الفائدة في جميع الأقطار الإِسلامية؛ فإن جميعها بعد بلاد العرب، وإن اختلفت ألسنة سكانها باختلاف شعوبهم، إلا أنهم ينطقون باللغة الفارسية، فهي في الشرق كاللسان الفرنساوي في الغرب، وكان بوُدِّنا أن يعززوا أفكارَنا بما تجود به قرائحُهم السليمة، وأذهانُهم الصافية، وترشدهم إليه عقولُهم العالية، خصوصًا فيما يتعلق بالدعوة للوحدة الإِسلامية، وإحياء الرابطة الملية بين المسلمين، لا سيما في الاتفاق بين الإيرانيين والأفغانيين.
هاتان طائفتان هما فرعان لشجرة واحدة، وشُعبتان ترجعان لأصل واحد، هو الأصل الفارسي القديم، وقد زادهما ارتباطًا اجتماعُهما في الديانة الحقة الإِسلامية، ولا يوجد بينهما إلا نوعٌ من الاختلاف الجزئي لا يدعو إلى شق العصا، وتمزيق نسيج الاتحاد، وليس بسائغٍ عند العقول السليمة أنْ يكون مثل هذا التغايُر الخفيف سببًا في تخالُف عنيف.
ليس ببعيد على همم الإيرانيين وعلو أفكارهم أن يكونوا أول القائمين بتجديد الوحدة الإِسلامية، وتقوية الصلات الدينية، كما قاموا في بداية الإِسلام بنشر علومه، وحفظ أحكامه وكشف أسراره، وما قصروا في خدمة الشرع الشريف بأية وسيلة.
نعم، البخاري ومسلم، والنيسابوري والنسائي والترمذي، وابن ماجه وأبو داود، والبغوي وأبو جعفر البلخي والكليني، وغيرهم ممن أنبتتهم أراضي إيران؛ أبو بكر الرازي الطبيب الشهير والإمام فخر الدين الرازي ممن نشئوا في طهران؛ أبو حامد الغزالي حجة الإِسلام، وأبو إسحق الإسفراييني والبيضاوي وخواجه نصير الدين الطوسي والأبهري وعضد المِلَّة والدين، وغيرهم من علماء الكلام والأُصُول ممن تفتخر بهم بلاد فارس وهم فخار للمسلمين؛ الفيلسوف الشهير أبو علي بن سينا، وشهاب الدين المقتول، ومَن على شاكلتهم ممن جُبلوا من تراب فارس.
إن أهل فارس كانوا من أول القائمين بخدمة اللسان العربي وضبط أُصُوله، وتأسيس فُنُونه؛ منهم: سيبويه، وأبو علي الفارسي، والرضي، ومنهم: عبد القاهر الجرجاني، مؤسس علوم البلاغة لبيان إعجاز القرآن، وفَهْم دقائقه على قدر الطاقة البشرية، وصاحب صحاح الجوهري من إحدى قراهم، ومجد الدين الفيروز آبادي من إحدى بلدانهم، والزمخشري، والسكاكي، وأبو الفرج الأصفهاني، وبديع الدين الهمذاني، وغيرهم ممن بينوا دقائق القرآن، وشيدوا معالم الدين، كلهم من أرض فارس.
الطبري أول المؤرخين، والإصطخري، والقزويني أول الجغرافيين، كانوا في بلاد فارس، الشبلي كان من نهاوند، وأبو يزيد البسطامي كان من بسطام، والأستاذ الهروي، وهو الأستاذ الحقيقي للشيخ محيي الدين بن العربي؛ كان من هراة وكلها بلاد إيران.
هل ينسى صدر الشريعة وفخرُ الإِسلام البزدوي والآمدي، والمرغيناني والسَرَخْسي، والسعد التفتازاني، والسَّيِّد الشريف والأبيوردي، وكلهم من أبناء فارس، من أين كان القطب الشيرازي، والصدر الشيرازي، ورأس الحكمة في المتأخرين ميرباقر الداماد، وميرفند ركسي وغيرهم؛ كانوا من أهل فارس.
أيُّ فضلٍ كان ولم يكن لهم فيه اليدُ الطُّولَى؟ أي مزية مَنَّ الله بها على الإِسلام ولم يكونوا من السابقين لاقتنائها؟ نعم، وفيهم جاء من قول النبي ﷺ: «لو كان العلم في الثريا لناله رجال من فارس.»
فيا أيها الفارسيون تذكروا أياديكم في العلم، وانظروا إلى آثاركم في الإِسلام، وكونوا للوحدة الدينية دعامة، كما كنتم للنشأة الإِسلامية وقاية، أنتم بما سبق لكم أحق النَّاس بالسعي في استرجاع ما كان لكم في فتوة الإِسلام، أنتم أجدرُ المسلمين بوضع أساس الوحدة الإِسلامية، وما ذلك ببعيد على طيب عناصركم وقوة عزائمكم، أظن لا يخفى عليكم أن هذا الوقت هو أحسنُ الأوقات لندائكم بالوحدة مع الأفغانيين والتحالُف معهم على مقاوَمة العادِين؛ لتكونوا بالاتحاد معهم حصنًا حصينًا، وحرزًا منيعًا، تقف دونه أقدامُ الطامعين، أظنكم لم تنسوا أن استيلاء الإنجليز على الممالك الهندية، إنما تم بوقوع الخلاف بينكم وبين الأفغانيين.
هل يخفى عليكم أن كل مسلم في الهند شاخص بصره إلى طرف بنجاب ينتظر قدومكم إذا اتحدتم مع إخوانكم الأفغانيين، حصلت لكم تجارب كثيرة وشهدتم من مظاهر الحوادث ما فيه أكملُ عبرة، فهل يصح بعد هذا أن تستمروا على التجافي والتباعُد، مع علمكم أن الوحدة منبت الشوكة؟
هذا آن التآخي والتوافُق، هذه أوقات التحالف والتواثق، أحاط الأعداء ببلادكم، شرقًا وغربًا، وكلٌّ يشحذ سيفه ويسدد سهمه، حتى تمكنه الفرصة من شن الغارة على أطراف بلادكم، فلو ضاعت الفرصة في هذا الوقت فربما لا تصادفونها في غيره، الإنجليز في ارتباك شديد في المسألة المصرية مع ضعفهم في القوة العسكرية، ومتورطون باختلاف الدول عليهم ومعاكستهم لمقاصدهم.
الأمير عبد الرحمن خان أمير أفغانستان على ما نعهده من أول شيبوبته أشد النَّاس عداوة للإنجليز، وبينه وبينهم حزازات لا تزول، بل نقول: إن عداوة الإنجليز سارية في عروق الأفغانيين عمومًا ممتزجة بدمائهم، فلو حصل الاتفاق الآن بين سلطنة الشاه وبين إمارة الأفغان، لوجدت قوة إسلامية جديدة في المشرق بين سائر الطَّوَائِف الإِسلامية، وينبعث فيهم وفي سائر المسلمين حياةٌ جديدة، وتتجدد لهم آمال جليلة، وتنتعش بذلك أرواح المؤمنين، هذا وقت تنبهت فيه أفكار الأفغانيين إلى أعمال جيرانهم في المسألة المصرية، وتحركتْ فيهم السواكن، وهي أعظمُ فرصة لأهل فارس في دعوتهم للاتحاد معهم.
هذا عمل من أجلِّ الأعمال وأجزلها فائدة، وإن من أكبر الفضل أن يقوم أهل الفضل من أهالي إيران بتحرير الفصول ونشر الرسائل في بيان فوائد الاتفاق بين الطائفتين، وإن لذلك لأثرًا عظيمًا في النُّفُوس خصوصًا إن كانت من أقلام العلماء الأعلام، والمجتهدين الكرام.
العالم الإنساني عالم الفكر والكلام، فإحكام الفكر الصالح ونشره في الكُتُب والرسائل والجرائد مما يؤثر أجمل الأثر في تهذيب النَّاس وتثقيف عقولهم، وإزالة الضغائن المفسِدة لمعاشهم ومعادِهم، فإذا قام المستبصرون وخطبوا ووعدوا، وكتبوا ونشروا، مع الوقوف عند الحدود الدينية، والأُصُول الشرعية، كان فضل الله كافلًا لهم النجاح.
أي فرق بين الأفغانيين وإخوانهم الإيرانيين، كلٌّ يؤمن بالله وبما جاء به محمد ﷺ، عبد الرحمن خان بما أكسبته التجارب أول من يتقدم لهذا الاتفاق، ولا نشك أن شاه إيران لما اطلع عليه في سياحاته وشاهده في أسفاره لا يأبى المبادرة إليه والسعي فيه، إن البادئ بالعمل في هذا المقصد الأسمى هو صاحب الفضل الأعظم بين المسلمين خصوصًا وبين العالم عمومًا ويجني ثمرته في وقت قريب.
كان الألمانيون يختلفون في الدين المسيحي على نحو ما يختلف الإيرانيون مع الأفغانيين في مذاهب الديانة الإِسلامية، فلما كان لهذا الاختلاف الفرعي أثرٌ في الوحدة السياسية، ظهر الضعف في الأمة الألمانية، وكثرت عليها عاديات جيرانها، ولم يكن لها كلمة في سياسة أوروبا، وعندما رجعوا إلى أنفسهم وأخذوا بالأُصُول الجوهرية، وراعوا الوحدة الوطنية في المصالح العامة، أرجع الله إليهم من القوة والشوكة ما صاروا به حكام أوروبا وبيدهم ميزان سياستها.
رجاؤنا في الأفاضل الكرام صاحب جريدة «فرهنك» الأصفهانية، وصاحب جريدة «أطلاع» الطهرانية، وسائر أرباب الجرائد الإيرانية أن يُوجهوا أفكارهم إلى هذا المطلب الرفيع، ويجعلوا له محلًّا فسيحًا في جرائدهم، وينشروها في بلادهم، وبلاد الأفغان، باللسان الفارسي، وهو لسان الطائفتين، وما هي إلا أيام ثم نرى علائم النجاح — إن شاء الله رب العالمين.