الفصل التاسع عشر
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.
أهلك الله شعوبًا، وأباد قبائلَ، ودمَّر بلادًا، ولا يزال عدل الله يبدِّل قومًا بقومٍ ويأتي لكل حين بأناس آخرين، حكيمٌ سبقتْ رحمته غضبه، جعل لكل عمل جزاء، وعين بحكمته لكل حادث سببًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (الكهف: ٤٩)، وليستْ أفعالُهُ جزافًا، ولا يصدر عنه شيء عبثًا، أمر الله عباده بالسير في الأرض قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (الأنعام: ١١) ليريهم قضاءه الحق وحكمه العدل، فيمن سلف ومَنْ خلف، فيطيعوا أوامره، ويقفوا عند حدود شرائعه، ويفوزوا بخير الدنيا وسعادةِ الآخرة، من كان له قلبٌ يعقل وعينٌ تُبصر، وعقلٌ يفقه، وتتبع حوادث العالم، وتدبر كيفية انقلاب الأمم، وخاض في تواريخ الأجيال الماضية، واعتبر بما قصَّ الله علينا في كتابه المنزل؛ يحكم حكمًا لا يخالطه ريب، بأنه ما حاق السوءُ بأمة وما نزلت بها نازلةُ البلاء، وما مسَّها الضرُّ في شيءٍ إلا وكانت هي الظالمة لنفسها، بما تجاوزتْ حدود الله وانتهكت حرماته، ونبذتْ أوامره العادلة، وانحرفتْ عن شرائعه الحقة، وحرَّفت الكلم عن مواضعه، وأوَّلَتْ من كلامه تعالى على حسب الأهواء والشهوات.
كما أن للأغذية والأدوية، واختلاف الفصول والأهوية، أثرًا ظاهرًا في الأمزجة بتقدير العزيز العليم، كذلك اقتضت حكمةُ الله أن يكون لكل عمل من الأعمال الإنسانية، ولكل طور من أطوار البشر، أثر في الهيئة الاجتماعية؛ ولهذا كان من رحمته بعباده تحديد الحدود، وتقرير الأحكام ليتبين الخير من الشر، ويتميَّز النفع من الضر، فأرسل الرسل، وأنزل الكُتُب، فمن خالف الأوامر الإلهية فقد ظلم نفسه، فليستعدَّ لخزي الدنيا وعذاب الآخرة.
إن تأثير الفواعل الكونية في أطوار الحياة قد يَخفى سببُه حتى على الطبيب الماهر، أما تأثيرُ أحوال بني الإنسان في هيئةِ إجماعهم، فيسهل على سره لكل ذي إدراك، إن لم تكن عين بصيرته عمياء.
ألم تر أن الله جعل اتفاق الرأي في المصلحة العامة والاتصال بصلة الأُلفة في المنافع الكلية سببًا للقوة واستكمال لوازم الراحة في هذه الحياة الدنيا، والتمكُّن من الوصول لخير الأبد في الآخرة. وجعل التنازُع والتغابُن علَّة للضعف، وداعيًا للسقوط في هوَّة العجز عن كل فائدة دنيوية أو أُخروية، ومهيئًا لوقوع المتنازعين في مخالب العاديات من الأمم، فمن نظر نظرة في أحوال الشعوب ماضيها وحاضرها، ولم يكن مُصابًا بمرض القلب، وعَمَى البصيرة؛ أدرك سرَّ أمر الله في قوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا (آل عمران: ١٠٣)، وسرَّ نهيه في قوله: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ (الأنفال: ٤٦)، أي جاهكم وعظمتكم وعلوُّ كلمتكم.
إن الله تعالى يجعل الركون إلى مَن لا يصحُّ الركونُ إليه، والثقة بمن لا تنبغي الثقة به، سببًا في اختلال الأمر وفساد الحال، فمن وثق في عمله بمن ليس منه في شيء، ولا تجمعُه معه جامعة حقيقية، ولا تصله به رابطة صحيحة، وليس في طبعه ما يبعثه على رعاية مصلحته، أو كتم سرِّه، ولا ما يحمله على بذل الجهد في جلب منفعته، ودفع المضارِّ عنه؛ فلا ريب يفسد حاله، ويسوء مآله، وإن كان ملكًا ضاع ملكه، أو أميرًا بطل أمره، والحوادثُ عاهدة، وأحوال المغرورين ناطقةٌ، فمن لم يرزأ بعَمَى البصيرة يدرك بأول التفاتٍ سِرَّ نَهْيِ الله تعالى في قوله: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ (الممتحنة: ١)، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ (آل عمران: ١١٨)، وسائر نواهيه المبنية على الحكمة البالغة المرشدة إلى مصالح الدارين.
لكل شخص في طبقته من أُمته عملٌ مفروضٌ عليه، وواجب يلزمه القيام به، ليحفظ بذلك لنفسه حياة طيبة في هذه الدنيا، ويعد لها مآلًا صالحًا في الآخرة، وهو إنسان له قلب واحد، لو جعل معظم همه في شيء فإنه سائر الأشياء، فلو توغل في الشهوات، وبالغ في الترف، وبطر فيما أنعم الله عليه، فقد أغفل فرائضه، وأضر بنفسه، وحرم من منافعه، وحل به من عقاب الله أشد الوبال، وخسر الدنيا والآخرة معًا، وربما مست آثار أعماله بالسوء مَن يجاوره، واحترق بناره الموقدة بفساد أخلاقه وانحرافه عن سنن الحق مَن يساكنه في بلدته، أو يواطنه في مدينته، وهذه آثار المترفين في كل أُمة تنطق بما لا يعجم إلا على أذن صماء، وتشهد بما لا يخفى إلا على بصيرة كمهاء، وإن فيما قصَّ الله علينا من أحوال المترفين لَأكبر عبرة: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (القصص: ٥٨)، حَتَّىٰ إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ ۖ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ (المؤمنون: ٦٤-٦٥)، ذَٰلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ (غافر: ٧٥)، هذه عواقب اللاهين بحظوظهم عمَّا أوجب الله عليهم،وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (طه: ١٢٤).
ما أوتي الإنسان من العلم إلا قليلًا، لا يمكن لإنسان وحده أن يُحيط بوجوه المنافع الخاصة بنفسه، ولا أن يطَّلع على منابع فوائده ليكسبها، أو يكشف مكامن مضاره فيتقيها، خُلق الإنسان ضعيفًا فأرشده الله للاستعانة بغيره من بني جنسه وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا (الحجرات: ١٣)، خُلقنا محتاجين للعون مضطرين للصبر، وهدانا ربنا للتعاوُن والتناصُر.
هذا مما يحكم به العقلُ في المصالح الخاصة، فكيف لو كان شخصٌ وَلَّاه الله رعاية أُمَّة، وألقى إليه بزمام شعب مصالحُه التامة تحت إرادته، وهو الوازعُ فيه والواضعُ والرافع؟ لا ريب أن مثل هذا الشخص أحوجُ إلى المشورة والاستفادة من آراء العقلاء، وهو أشدُّ افتقارًا إلى ذلك ممن يكون سعيُه لمتعلقات ذاته، وتكون سعةُ دائرة افتقاره إلى التشاوُر على مقدار سعة سلطانه، وقد أمر الله نبيه وهو المعصوم من الخطأ تعليمًا وإرشادًا فقال: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (آل عمران: ١٥٩)، وقال فيما امتدح به المؤمنين: وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ (الشورى: ٣٨)، أيُّ بصر يزوغ عن هذا الصراط المستقيم؟! أيُّ بصيرة لا تهتدي إلى هذا المنهج القويم: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (المؤمنين: ٦٨).
إن وازع البلاد والقائم على المُلك لو ألمح لمحة إلى نفسه لَرأى أَنَّ بلاده في كل وقت معرَّضة لأطماع الطامعين، وأن الحرص المودَع في طباع البشر، يحرِّك جيرانه كل آنٍ للسطوة على ممالكه ليذلوا قومه، ويستعبدوا أهله، ويستأثروا بمنافع أرضهم وثمار كدِّهم، ويمنحوها أبناء جلدتهم، فعليه وعلى من يشركه في أمره من عماله، والحكام النائبين عنه في إيالاته، وقوَّاد جيشه، وعلى كل أرباب الرأي، ومن بهم قوامُ الملك، أن يستعدوا لدفع طوارئ العدوان، ورفع نوازل الغارات الأجنبية، فلو فَرَّطوا في إعداد لوازم الدِّفَاع، أو تساهلوا فيما يكف عنهم سيلَ الأطماع، أو تهاونوا فيما يشدُّ قوتهم، ويقوِّي شوكتهم بأي وجه كان ومن أي نوع كان؛ فقد عرضوا ملكهم للهلاك وألقوا بأنفسهم في مهاوي الأخطار.
هذا مما يفهمه الأبله والحكيم، ويصل إليه إدراكُ الجاهل والعليم، وهو سرُّ الإفصاح والإبهام في قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ (الأنفال: ٦٠)، أمر بإعداد القوة ووكلها إلى الطاقة وحكم الاستطاعة، على حسب ما يقتضيه الزمان، وما تكون عليه حالة من تُخشى غوائلهم، هذا أمر الله ينبِّه الغافل، ويذكِّر الذاهل: فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (النساء: ٧٨).
إعطاء كل ذي حقٍّ حقه، ووضع الأشياء في مواضعها، وتفويض أعمال الملك للقادرين على أدائها؛ مما يوجب صيانة الملك، وقوَّة السلطان، ويشيد بناء السلطة، ويحكم دعائم السطوة، ويحفظ نظام الداخل من الخلل، ويشفي نُفُوس الأمة من العلل، هذا مما تحكم به بداهة العقل، وهو عنوان الحكمة التي قامت بها السماوات والأرض، وثبت بها نظام كل موجود، وهو العدل المأمور به على لسان الشرع في قوله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ (النحل: ٩٠)، كما أن الجور عن الاعتدال والميل عن سبيل الاستقامة في كل جزء من أجزاء العالم يوجب فناءه واضمحلاله، كذلك الجور في الجمعيات البشرية يسبب دمارها، لهذا حثَّت الأوامر الإلهية على العدل، وكثُر النهي في الكتاب المجيد عن الظلم والجور، والحكامُ أولى مَنْ توجَّه إليه الأوامر والنواهي في هذا الباب، العدل هو الحكمة التي امتنَّ الله بها على عباده، وقرنها بالخير الكثير فقال: وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا (البقرة: ٢٦٩)، هي مظهر من أَجَلِّ مظاهر صفاته العلية، فهو الحكم العدل وهو اللطيف الخبير.
مَنْ سار في الأرض، وتتبع تواريخ الأُمم، وكان بصير القلب؛ علم أنه ما انهدم بناء ملك، ولا انقلب عرش مجد، إلا لشقاق واختلاف، أو ثقة بمن لا يوثَق به، وتخلل العنصر الأجنبي، أو استبداد في الرأي، واستنكاف عن المشورة، وإهمال في إعداد القوة، والدِّفَاع عن الحوزة، أو تفويض الأعمال لمَن لا يُحسن أداءها ووضع الأشياء في غير مواضعها، فيكون جور في الحكم، واختلال في النظم، وفي كل ذلك حيد عن سنن الله، فيحصل غضبه بالخاطئين، وهو أحكم الحاكمين.
لو تَدَبَّرْنا آيات القرآن، واعتبرنا بالحوادث التي أَلَمَّتْ بالممالك الإِسلامية لَعلمنا أن فينا مَن حادَ عن أوامر الله وضلَّ عن هديه، ومنَّا مَن مالَ عن الصراط المستقيم الذي ضربه الله لنا وأرشدنا إليه، وبيننا مَن اتبع أهواء النَّفس وخطوات الشيطان، ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (الأنفال: ٥٣)، فعلى العلماء الراسخين — وهم روح الأمة وقواد المِلَّة المحمدية — أن يهتموا بتنبيه الغافلين عن ما أوجب الله، وإيقاظ النائمة قلوبُهم عمَّا فرض الدين، ويعلموا الجاهل، ويزعجوا نفس الذاهل، ويذكِّروا الجميع بما أنعم الله به على آبائهم، ويستلفتوهم إلى ما أعدَّ الله لهم لو استقاموا، ويحذِّروهم سوء العاقبة لو لم يتداركوا أمرَهم بالرجوع إلى ما كان عليه النبيُّ ﷺ وأصحابه ورفض كل بدعة، والخروج عن كل عادة سيئة لا تنطبق على نصوص الكتاب العزيز، ويقصوا عليهم أحوال الأُمم الماضية، وما نزل بها من قضاء الله عندما حادتْ عن شرائعه، ونبذتْ أوامره فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (الزمر: ٢٦).
على العلماء أن يزيلوا اليأس بتذكير وعد الله ووعده الحق في قوله تعالى: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا (النور:٥٥)، هذه وظيفةُ العُلماء الراسخين وما هم بقليل بين المسلمين، ولا نظنهم يتهاونون فيما فوَّض الله إليهم، ووكل إلى ذمتهم، وهم أمناء الدين وحَمَلة الشرع، ورافِعو لواء الإِسلام، وأوصياء الله على المؤمنين، أعانهم الله علي خير أعمالهم، ونفع بهم المؤمنين بإرشادهم.