الفصل العشرون
وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ.
للإنسان عقل سميٌّ، وفكر عليٌّ، وحدس قويٌّ، وبراعةٌ في الاستدلال، ومهارةٌ في الاستنباط، ومع هذا كله تراه في رأيه عليلًا، ولا يصيب في مقاصده إلا قليلًا، تشابُهُ علل الحوادث في تنوُّعها يَحُولُ بين المرء وعلم الحوادث الآتية، ويحجب عن نظره جادة الصواب، فيخبط في خطأ ويخوض في عَمَهٍ، وتلتبس عليه المقدمات، فتشبه النتائج، فيختل قياس الاستنباط؛ هذا ما يحمل كثيرًا من النَّاس على الحكم باستحالة ممكن، أو إمكان مستحيل.
لو أن حاذقًا بصيرًا بفنون السياسة، وخبيرًا بأحوال الأمم، ذهب إلى البلاد الهندية قبل اليوم بأربعين سنة، وسَاحَ في أرجائها ووقف على أحوال أولاد السلاطين المغوليين وما هم فيه من الذلة، وأحفاد «تبيوسلدان» وما أصابهم من الفقر والمسكنة، وسلالة سلاطين «أوده» وما نزل بهم من الهوان، ونوابي «كارناتك» وأمراء السند وما حل بهم من الصغار، وتدبر شئون «مرتة» تلك القبيلة العظيمة القاطنة في «فونا» و«ستارة» وما حولها، وأحاط بالبلاء المنصبِّ على غيرهم من سائر الأمراء والرجوات العظام؛ ثم لاحظ سُلطة الإنجليز وتَغَلُّبَهم على تلك البلاد وما أعدوه لقهرها من الآلات الحربية، والحصون القوية، وما هم عليه من الحذق في الحيل والخدع السياسية، وما عليه رَعَايَاهُمْ من الضعف والعجز وسلامة القلب وغرة الجنان؛ ولو أتى من الفكر في لواحق هذه الأحوال على غاية جهده؛ لَحكم، بناء على ما لديه من المقدمات وما يحضره من الأقيسة، بأن أولئك الأقوام وسلائل الأمراء وأحفاد السلاطين، قد ضُرب عليهم الذل الأبدي، وسجلت عليهم العبودية السرمدية، بل ربما ذهب به الوهم إلى الحكم عليهم بتحتُّم الفناء ولزوم الاضمحلال؛ فإن الناظر في شئونهم ما كان يحضره إلا صولةُ الإنجليز وسعةُ اقتدارهم، وخضوع الهنديين وشدةُ عجزهم، ما كان يخطر في ذلك الوقت بخاطر أحد أن الأيام تأتى بهذا الحادث الجديد.
إن الروسية تقطع الفيافي من وراء بحر الخزر حاملة عواملها رافعة أعلامها ضاربة في تلك البوادي، زاحفة إلى حدود الهند، ما كان يختلج في صدر أحد في تلك الأوقات أن حرص الإنجليز وطمعهم في الاستيلاء على مصر يوجب انحرافَ الدول عنهم ويقتضي قيام رجل السياسة «البرنس بسمارك» لجمع كلمة الدول على مُصادمتهم، ما كان يحوم في خيال أن قائمًا يسمى محمد أحمد يقوم بدعوة دينية في أعالي السودان وبعد إرغامه للإنجليز مرات يحرك قلوب الهنديين ويوقظ نائميهم، ويُثير الساكن من خواطرهم ويُنهض الهمم، ويُحيي الآمال فيهم بعد القنوط وتنتشر دعوته في أرجاء الهند. نعم، ومن أين يكون للإنسان علم هذه الحوادث وهي محجوبة بستار الغيب، فهو معذورٌ في أحكامه مقسورٌ على أوهامه.
نرى دوائر السوء تدور بالحكومة الإِنجليزية، وقد تهيأتْ ضاربات الشر للوثبة عليها، وليس لها حليف في أوروبا، وإن استئثارها بمنافع الأُمم، وطمعها في الاختصاص بمصالح العالم أَبْعَدَ عنها الأصدقاءَ، ونفَّر منها الأولياء، فكانت هذه السقطةُ بهزة لنهوض الروسية وتقدُّمها إلى الحدود الهندية، ومن مصلحة الدول في أوروبا خصوصًا دولة الألمان — على ما يظهر من جرائدها الرسمية — أن تؤيد الروسية فيما تقصد من فتح الهند؛ فإن اندفاع السيل الروسي على تخوم الهند خيرٌ لأوروبا عمومًا وألمانيا خصوصًا من انحداره إلى بعض المواقع الأوروبية، وأنجع في صيانة السلم الأوروبي إذا جاء يوم التصادُم بين روسيا والإنجليز على حدود الهند — وما هو ببعيد — كان قضاء السوء على الجيش الإنجليزي في الصدمة الأُولى فيما نظن لقلَّة عدده، ولأن العدد الغالب فيه من الهنديين الحرجة صدورهم المجروحة قلوبهم المترقبين لفرصة تمكِّنهم من الخروج على حكامهم الظالمين، فإذا وقعت الهزيمة اشتعلت نار الثورة في عموم الهند، ومُحيت سلطة الإنجليز بأيدي الهنديين.
ليس من الممكن للروسية أن تستولي على الأقطار الهندية استيلاءً مطلقًا لأول وهلة؛ فإن البلاد واسعةٌ أطرافها شاسعة تحتاج في إداراتها والمحافظة عليها إلى ملايين من النَّاس يعسُر عليها جذبهم من بلادها البعيدة، نعم إن الإنجليز تسلطوا على الهند ولكن في أحقاب، فدولة روسيا ملجأٌ بحكم الضرورة إلى تشكيل ممالكَ في الهند يُديرها رجالٌ من العائلات الملكية والقديمة من أولاد سلاطين المغول وذرية سيبو سلطان وأمراء السند و«أوده» و«كارناتك» والمرتيين وغيرهم، وتكتفي دولة الروس بعقد محالفات تجارية بينها وبين تلك الممالك، وربما كانتْ هذه السيرة توافقُ بعض الإمارات الإِسلامية المستقلة وبعض ممالك المسلمين، وقد يكون من مصلحة دولة إيران وإمارة أفغانستان أن تتفقا مع الروسية اتفاقًا يفيد كلًّا من المتحالفين.
إن الروسية ما جاءتْ إلى «مرو» لتهلك عساكرها في قفارها، ولا يصدها عن سيرها إخلاصُها في محبة الإنجليز ولا ارتباطُها معهم بعهد، مع علمها أنْ لا عهد لهم، إنما جاءتْ لتفتح باب التجارة مع أثرى قطر في الشرق وتهدم سلطان الإنجليز فيه؛ فإن الأثرة الإِنجليزية ما تركت مصلحة تجارية تتمتع بها أمةٌ من الأمم.
هذا عارض سوء على حكومة بريطانيا، ولكنه سحابُ رحمة على الهنديين بما انتقم الله لهم من عدوهم، فبذلك فليفرحوا، وليعد الأمراء أنفسهم لما أعد الله لهم من العِزَّة بعد الذلَّة، والحرية بعد العبودية، والخلاص من قهر حكومة لا ترحم صغيرًا ولا توقِّر كبيرًا.
لا نظن ولن نظن أن يجد الإنجليز لهم يوم التصادم نصيرًا من دول أوروبا ولا من دول المشرق ولا من الهنديين ولا من صنف البشر؛ لأنه لا توجد نفسٌ تشعر بوجود حكومة الإنجليز على سطح الأرض إلا وقد مسها منهم شيء من الضرِّ.
إن حكومة الإنجليز تشعر بقربها من هذا الخطر العظيم، وتعلم أن ما ينزل بها من المصائب في الهند لا يقصر ضرره على حالها فيه، ولكنه يزلزل جزائر بريطانيا، فإن حياتها ومجدها ليس إلا بالهند، كيف لا يشعر الإنجليز بسوء عاقبتهم وهم يحسون بضعفهم في القوى العسكرية، وانحراف قلوب رعاياهم الهنديين عنهم، واحتدامها غيظًا عليهم، عجَّل الله لهم ما فيه خير الضعفاء.