الفصل الثالث والعشرون
(اللهم اكشف عن بصائرنا ستار الأوهام حتى نرى الحقائق كما هي كي لا نضل ونشقى.)
أَلَا قاتل الله الوهم؛ الوهمُ طورًا يكون مرآة المزعجات، مجلي المفزعات، وطورًا يكون ممثلًا للمسرات، حاكيًا للمنعشات، وهو في جميع أطواره حجابُ الحقيقة، غشاءٌ على عين البصيرة، لكن له سلطانٌ على الإرادة وحكمٌ على العزيمة، فهو مجلبة الشر، ومنفاة الخير.
الوهم يمثل الضعيف قويًّا، والقريب بعيدًا، والمأمن مخافةً، والموئل مهلكًا، الوهمُ يذهل الواهم عن نفسه، ويصرفه عن حسه، يخيل الموجود معدومًا، والمعدوم موجودًا، الواهم في كونٍ غيرِ موجود، وعالمٍ غير مشهود، يخبط فيه خبط المصروع، لا يدري ماذا أدركه وماذا تركه، الوهمُ روحٌ خبيثٌ يُلابس الروحَ الإنسانية، وهي في ظلام الجهل، إذا خفيتْ الحقائقُ تحكمت الأوهام، وتسلطت على الإرادات، فتقود الواهمين إلى بيداء الضلالة، فيخبطون في مجاهيلَ، لا يهتدون إلى سبيلٍ، ولا يستقيمون على طريق.
كان الإنجليز أُمة مجتمعة القوى، مستكملة العدد مستعدة للفتوحات، وذلك في زمان بُليتْ فيه الأُمم الشرقية بتفريق الكلمة، واختلاف الأهواء، وحُجبتْ بالجهل عن معرفة أحوال الغربيين وصنائعِهم وعوائدِهم، فكان الشرقيون يعدون كل غريبة معجزةً، وكل بديع من الاختراع سحرًا أو كرامة، فانتهز الإنجليز تلك الفرصة واندفعوا إلى الشرق وبسطوا سُلطتهم على غالب أرجائه، وما دهموا سكانه إلا ببعض غرائب الصنعة الأوروبية التي أثارتْ فيهم خواطرَ الأوهام.
ثم زاد الوهمَ قوةً ما نصبه الإنجليز من حبائل الحيلة والمكر، حتى خلبوا قلوب المساكين وأذهلوهم عمَّا في أيديهم، بل أخذوهم عن عقولهم وخطرات قلوبهم، فسلبوا أموالهم، وانتزعوا منهم أراضيهم، وأجلوهم عن أملاكهم، فاستغنت الأمة الإِنجليزية بما سلبت، وأثرت بما نهبت، وترفهت بما ملكت، واليوم تراها حاكمة على أقطار واسعة، وأنحاء شاسعة، وقواها منقسمةٌ على تلك الأقطار، متوزعةٌ فيها، فلا ترى في كل إيالة من إيالاتها الشرقية إلا نزرًا من العدة والعدد، وهي في جميعها ضعيفة واهنةٌ، لا تستطيع ذودًا ولا دفاعًا.
وإنَّ أخف حركة في تلك الأنحاء توجب زعزعة في تلك القوة أو هدمها بالمرة، وقد ظهر هذا الأمر على الأمة الإِنجليزية، فهي دائمًا في رَجْفَة على أملاكها، في خيفة مِن تمزُّقها وضياعها، تتوجس من كل حادثةٍ في العالم، وتقلق لأَيَّةِ حركة تحدث في الوجود، وكل ملمة تلم بالشرق أو الغرب توجب بحدوثها زلزلةٌ في قوى الإنجليز المتوزعة في الأنحاء الضعيفة في جميع الأرجاء.
ومع هذا كله نرى الأمرَ لم يزل خفيًّا على الشرقيين، محجوبًا عنهم بحجاب الوهم، يمثل الوهم لكل شرقي أن الإنجليز على ما كانوا عليه في ماضي زمانهم، فمَثَل الشرقيين مع الإنجليز كمَثَل مَارٍّ في مفازة يرى بها جثة أسد مطروحة على طريقه فاقدة الحياة عديمة الحراك، فيتوهمها سبعًا ضاريًا ومفترسًا قويًّا فينكب عن الطَّرِيق وهمًا وريبةً بدون تحقيق لما تخوَّف منه، يرتعد ويسقط ويموت خوفًا أو يضل بعد ذلك عن الجادة، وتختلط عليه مسالكُ الوصول إلى غايته، وربما صادف مهلكة في ضلاله ومتلفةً في غيه.
بل لا نخطئ إن قلنا: إن هذا الوهم كان متسلطًا على الغربيين كما هو متسلط على الشرقيين، فالأوروبيون كانوا ينظرون إلى إنجلترا في أملاكها البعيدة كما ينظرون إليها في جزائر بريطانيا، وكانت حكومة إنجلترا متحصنة ممتنعة في هذه القبة الوهمية، متربعة على عرش هذه العظمة الخيالية، يحسُّ الإنجليزُ بضعف قوتهم فيجتهدون دائمًا في ستره ولا ستار أكثف من الوهم.
ولهذا نراهم في كل حادثة يجلبون ويصيحون ويزأرون ليثيروا بالضوضاء هواجس الأوهام، فتحول أنظار الناظرين، وتغشى بصائر المستبصرين، فتحول دون استطلاع الحقيقة، وإلا فقليلٌ من الالتفات يكشفها فتقوم قيامةُ الخراب على الإنجليز.
ذهب الإنجليز إلى الهند في قوى مجتمعة وتسابقوا مع فرنسا وهولندا والبرتغال في ميدان الأراضي الهندية الواسعة، فحازوا في هذه المباراة قصب السبق بما امتازوا به من الدهاء والمكر، وبما ساعدهم على ذلك من غفلة الهنديين لذاك العهد أو طيب قلوبهم، فمالت النُّفُوس إلى الإنجليز اغترارًا، وتغلبوا على تلك البلاد واستقلوا بأمرها شيئًا فشيئًا، وما أبقَوا لغيرهم من الدول إلا مضائق من الأرض لا تُذكر، وأول ما استمالوا به القلوب السالمة قولهم: إننا نريد تخليصَكم من هذه الدول الظالمة (فرنسا، وهولندا والبرتغال) فإنها تريد التسلُّط على ممالككم، أما نحن — الإنجليز — فلا نريد إلا تحريركم واستقلالكم.
ثم إنا نرى للإنجليز الآن في الهند والهند الصينية وبورما سلطةً على نحو مائتين وخمسين مليونًا من النُّفُوس جميعها كارهٌ لتلك السلطة الإِنجليزية، طالِبٌ للتخلص منها، يفضل أيَّة سلطة سواها، ظالمة كانت أو عادلة، كَأَنَّما يتصور كل واحد من أفراد تلك الأُمم أنه لا توجد حكومة في العالم تبلغ في ظلمها مبلغ الإنجليز، ولا تصل إلى ما وصل إليه الإنجليز في الكبرياء والجبروت، ولكن مع هذه البغضاء الآخذة بقلوب أولئك الرعايا، ومع سعة ديارهم وتباعُد أرجائها، وشدَّة ميلهم للتملُّص من تلك السلطة الظالمة؛ لا يوجد فيهم قوةٌ تقهرهم على الخضوع لتلك الحكومة المبغوضة إلا خمسون ألف جندي إنجليزي، مع أنه يوجد من الممالك الصغيرة التي لها نوعٌ من الاستقلال وتخشى زوال ما بقي لها، ما لو جمعت قواها لبلغتْ أكثر من ثلاثمائة ألف جندي، هذا فضلًا عمَّن يمكنه حمل السلاح من أهالي البلاد التي دخلت في الحكومة الإِنجليزية وزال استقلالها بالمرة.
فلولا الوهم الذي استولى على المشاعر والحواس حتى أذهلها عما بين يديها، بل عما هو موجود فيها؛ ما بقيت هذه النُّفُوس الكثيرة العدد الفائقة القوة في قبضة قوم ضعاف يسومونهم عذاب الذل والهوان، ولو لمح أولئك المساكين أنفسَهم لمحة اعتبار، وأدركوا ما آتاهم الله من القوة الطبيعية، ونظروا إلى ضعف الإنجليز في الحالة الحاضرة؛ لرأوا موئل الخلاص بين أيديهم، وملجأ النجاة تحت أرجُلهم، وعلموا أن استقلالهم لأنفسهم وبلادهم لا يحتاج إلى تجشُّم تعب ولا تكلف مشقة، ولا يدعو إلى بذل أموال وافرة، ولا سفك دماء غزيرة.
يوجد في الدول الأوروبية مَن يهاب دولة الإنجليز اعتبارًا لما في سلطتها من الممالك الواسعة والأُمم العظيمة مما لم يبلغ عددُه رعيةَ دولة من الدول، ويقيس شأنها وقوتها في تلك الأطراف القاصية بما يراه في جزائر بريطانيا، ويظن أن لها قدرة على الدِّفَاع عن تلك الممالك تساوي قدرتها عليه في بريطانيا أو تقرب منها، ولم يلتفت إلى أن جسم الإنجليز قد مد في الطول والعرض إلى حدٍّ لو حصلت فيه أدنى هزَّة لتقطعت أوصاله (رق حتى انقطع).
تفرقت قواهم في بسيط الأرض حتى لم تبق لهم في موضع قوة، ورعاياهم في كل صقع في ضجر لا مزيد عليه يترقبون في كل آن زحفًا من خارج يعينهم على ما يقصدون من النكاية بحكامهم الظالمين.
لو التفتت تلك الدولة التي تهاب إنجلترا إلى حقيقة الأمر لَمَا احتاجت في معارضتها ومنازلتها إلى تدبُّر ولا مشورة، فقد وصل الأمر من الظهور إلى حدٍّ لا يحتاج إلى دِقَّة الفكر لولا حجاب الوهم، قاتل الله الوهم!
إن العثمانيين ينظرون إلى دولة الإنجليز كما ينظرون إلى دولة الروس، مع ملاحظة أن دولة إنجلترا تحكم على مائتين وخمسين مليونًا من النُّفُوس، فيظنون، لهذا النظر، أن معارضة هذه الدولة ربما تجلب الضرر، وليتهم مَدُّوا أنظارهم إلى ما وراء ذلك؛ ليتبين لهم قوتها العسكرية، وماذا يمكنها أن تسوق من الجنود إلى ميادين القتال، ويتضح لهم أن هذه الملايين الكثيرة لا اعتداد بها في قوة دولة إنجلترا، فإنما هي في الحقيقة قوة لأعدائها عليها، وهي في ارتقاب الفرص لخلع طاعتها، فمتى ارتكبت دولة إنجلترا بالحرب مع دولة أخرى رأيت مائتين وخمسين مليونًا تقاتل عساكر الإنجليز، خصوصًا خمسين مليونًا من المسلمين في حكومة إنجلترا يعدون الدولة العثمانية قبلة لهم وملاذًا يلجئون إليه، وهم أول قوم حربيين في البلاد الهندية.
ليت العثمانيين يعلمون أن دولة إنجلترا إنما تستميل المسلمين في الهند بكونها حليفة الدولة العثمانية ونصيرة لها ومدافِعة عن حقوقها، أما والله لو علم العثمانيون ما لهم من السلطة المعنوية على رعايا الإنجليز، واستعملوا تلك السلطة استعمال العقلاء؛ لَما تجرعوا مرارة الصبر على تحكُّمات الإنجليز وحيفهم في أعمالهم، وتعدِّيهم على حقوق السلطان في مثل المسألة المصرية، التي هي في الحقيقة أهمُّ مسألة عثمانية أو إسلامية.
إن سكنة مصر كانوا أيام عرابي على قسمين، قسم يروم حفظ الحالة القديمة والوقوف عند ما يرسم به توفيق باشا، وقسم كان يميل بأحد جانبيه إلى عرابي، ويهاب بالجانب الآخر سلطة الرسم القديم، فكان هذا القسم الثاني في ريبة من أمره، ولا عزيمة من الريب، والقسم الأول مخلِد إلى الفشل، فدخل الإنجليز بلا حرب حقيقية وإنما بنوع من الترهيب وقليل من الترغيب وخفيف من الدَّسَائِس، صادف قلوبًا مستعدة فأخذ منها مقامًا، فانحلت الرابطة وتفرَّق النَّاس عن عرابي بزوال جانب الميل إليه من قلوبهم، ومع ذلك ما كان يعتقد واحد منهم أن الإنجليز يبتغون من البلاد شيئًا سوى أنهم يؤيدون توفيق باشا وينقذونه من الثَّائرين عليه.
فتساهل المصريون في الأمر بحسن ظنهم في حكومة الإنجليز مع ما جاءهم من الحجة القوية القائمة على أن صاحب السيادة الشرعية في رضاء عن تصرفها، بهذا فاز الإنجليز واستقرت أقدامهم. أما وقد مضى الزمان الكافي لظهور غدرهم، وسوء نيَّتهم، فلا يوجد من الأهالي المصريين من يميل إليهم، بل لا يوجد إلا مَن يبغضهم ويتمنى فناءَهم، ويود لو يعمل عملًا لهلاكهم، ولكن الوهم يجسم المخافة ويكبح العزيمة.
إن أهالي مصر كأنهم ذهلوا عن الأسباب التي مكَّنت الإنجليز من بلادهم، كأنهم يظنون أن المصريين كانوا على كلمة واحدة في مدافعة الإنجليز، ثم تغلبتْ عليهم القوة الإِنجليزية وقهرتْهم جميعًا. كأن المصريين نسوا ما كان بينهم وأن الإنجليز ما دخلوا بلادهم إلا بمعونتهم، هذا هو الوهم العجيب.
إن الذين كانوا من مدة سنتين سببًا في تغلُّب العساكر الإِنجليزية وحلولها في وادي النيل وأنه لولاهم ما استقر لها قدم فيه؛ يظنون الآن أن تلك العساكر قادرةٌ على قهر الأهالي عمومًا وإخضاعهم لحكومة بريطانيا، وبهذا الظن الباطل يستسلمون لأعدائهم كرهًا ويجارونهم في أهوائهم نفاقًا.
هلا ينظر المصريون نظرة متأمل إلى القوة الإِنجليزية؛ ليعلموا أنْ ليس في طاقة بريطانيا، لو أفرغتْ جهدها، أن تبعث إلى مصر والسودان أزيد من عشرين ألف جندي! ألا يعلمون أنه إذا اشتغل الجندُ الإنجليز بالسودان وحصلتْ حركة خفيفة في الشرقية والبحيرة والفيوم لارتبك الإنجليز وخارتْ عزائمُهم والتجئوا لترك البلاد لأهلها؟! ألا قاتل الله الوهم!
إن للإنجليز قوة حربية بحرية لا تُنكر، ولكن مبلغ تلك القوة البحرية هو الذي ظهر أثره في سواكن لا يمكن أن تعمل عملًا فيما يبعد عن البحر أكثر من فرسخين، فلو فرضنا أن الإنجليز أطلقوا قنابلهم على السواحل، فهل في استطاعتهم أن يقيموا تحت ظلال القنابل إلى أبد الآبدين؟! إذا كان الأهالي في داخل البلاد يناوئونهم وليس لهم من القوة العسكرية البرية ما يقهرهم على الطاعة، ليس في الأمر شيء سوى الوهم، هذا الوهم تمزقت حُجُبُه عن بصائر الغربيين فعلموا من هم الإنجليز … ضعيف يسطو على حقوق الأقوياء، صوتٌ عالٍ وشبح بال، قامت الدول على معارضتهم؛ لعلمها أن الإنجليز صاروا للأمم كالدودة الوحيدة على ضعفها تُفسد الصحة وتدمِّر البنية، لكن بقي أن يزول هذا الوهم عن الشرقيين؛ حتى يستفيدوا من هذه الحركات ويستقلوا بأمورهم ولا ينتقلوا من عبودية إلى أخرى، ولا يستبدلوا سيدًا أجنبيًّا بسيد آخر، اللهم ارفع عنَّا حُجب الأوهام، وهيئ لنا الرشد في أمورنا، واحفظنا من الغواية، واهدنا إلى خير نهاية.