الفصل الخامس والعشرون
نقلت الجرائدُ الإِنجليزية برقيةً وردتْ إلى جريدة ألستنداراد من دونقلا، ثم كررت ذكره وثبتت مفاده أيامًا متواليات، ومحصله: أن الألسن تلهج في مدينة دونقلا وفيما بين الجيوش الإِنجليزية بقدوم جيش محمد أحمد، والحديث مستفيضٌ في جميع المعسكرات بأنه زاحفٌ إليهم بجيشين أحدهما يأتي من الصحراء والآخرُ على شطوط النيل، وأنهم لا بُدَّ أن يلاقوا منه صدمةً شديدة لا قِبل لهم باحتمالها.
وقد استولى بذلك الإضراب والتشويش على أفكار العساكر خصوصًا عساكر مدير دونقلا؛ خوفًا وفزعًا، ولكن لَمَّا أيقنوا به واطمأنوا إليه مِن أن السلطان راضٍ عن أعمال محمد أحمد، بل صدرتْ منه التنبيهات إلى جميع المؤمنين في تلك الأطراف بأنْ يتجنبوا محاربةَ هذا القائم، وأن يعتبروا الإنجليزَ في منزلةِ العدوِّ الأَلَدِّ ويقاوموهم مقاومة الآيسين. ا.ﻫ.
كنا نعلم أن جميع المسلمين وعموم الوطنيين يرون من فروض ذمتهم السعي في معاكسة سير الإنجليز وإقامة الموانع في طريقهم بقدر الطاقة والإمكان؛ قيامًا بما يوجبه الدين والوطنُ، ولا يحتاجون في الانبعاث لهذا العمل الشريف إلى أمرٍ سلطاني؛ فإن الشريعة الإلهية والنواميسَ الطبيعية في كل ملة وكل قطر من أقطار الأرض تُطالب كُلَّ شخصٍ بصيانة وطنه والذَّوْد عن حوزته وتُبيح الموت دونه، بل تُوجبُه في مدافعة الباغِين عليه، وتدعو كل ذي عقل لأخذ الحذر من حِيَل المحتالين، والتوقِّي من الأرواح الشريرة الخبيثة التي تَتَجَلَّى في أشكال من الصور، منها ما يخطف بِرَوْنَقِهِ الظاهرِ لُبَّ الألباب ويهذب بهوه الصوري بنور الأبصار، وهي منابع الشر ومصادر الفساد ومهبُّ رياح الفتن والاختلال، تلك أرواح الأجانب ونفوس الأباعد الذين يهتكون حرم البلاد ويخفضون شئون العباد ويغمطون الحقوق ويفسدون الأخلاق ويذلون النُّفُوس.
المدافعة عن الوطن أمرٌ طبيعيٌّ، وفرضٌ معاشيٌّ يكاتف في دعوة الطبيعة إليه الميل إلى الطعام والشراب، فليس يمدح القائمون به ولا يثنى عليهم في أدائه. نعم، تتجلى صورُهم الجميلةُ محلاة بأوصافها الفاضلة في مزايا التواريخ عندما يمر النظر إليها على تماثيل الخائنين الذين جاوزوا تخوم الطبيعة وصيغتْ لهم هياكلُ من اللعن الأبدي مسربلة بالخزي والعار السرمدي، هكذا يُعرف الشيء بضده.
لسنا نعني بالخائن مَن يبيع بلاده بالنقد ويسلمها للعدو بثمنٍ بخس أو بغير بخس — وكل ثمن تباع به البلاد فهو بخس — بل خائن الوطن مَن يكون سببًا في خطوة يخطوها العدوُّ في أرض الوطن، بل مَنْ يدَع قدمًا لعدوٍّ تستقر على تراب الوطن وهو قادر على زلزلتها، ذاك هو الخائنُ، في أَيِّ لباس ظهر وعلى أي وجه انقلب.
القادر على فكر يبديه، أوتدبير يأتيه، لتعطيل حركات الأعداء ثم يقصر فيه؛ فهو الخائن، من لم يستطع عملًا وأمكنه أن يرشد العامل وتهاون في النصيحة؛ فقد خان، من سوَّف عمل اليوم إلى الغد وتوانى في تضليل كيد الأعداء بقول أو فعل؛ فقد ارتكب خطيئة الخيانة. وكل خائن لوطنه أو مِلَّته فهو ملعونٌ على ألسنة الأنبياء والمرسلين وممقوتٌ في نظر العالم أجمعين.
ما أعظم جريمة الخيانة (المساهلة في شئون الأوطان) يأتي الزمان بطوله على كل شيء فيمحو أثره ويطمس رسمه إلا وصمة الخيانة، فلا تطويها الأدهارُ، ولا يخفيها تطاوُل الأعصار، مُحيتْ أسماء العظماء والملوك والسلاطين، ولكن لم تمح أسماء الخائنين، لوث على وجه الزمان ودرن في صفحة الإمكان مكتنفة باللعنة محفوفةٌ بالمقت إلى أبد الآبدين، لا يحيط القلمُ بوصف الخائن وما يتبعه من الشنائع، ولكن النُّفُوس مهما تدانتْ في الإدراك تشعر بعظم جرمه، فلنرجعْ إلى موضوع كلامنا.
كُنَّا على يقين ولا نزال عليه، أن الذات الشاهانية وهي الأبُ الأكبرُ لعموم المسلمين، وهي الكافلةُ للشريعة الحافظةُ للدين؛ هي أجدرُ النَّاس بالالتفاتِ إلى حركة الأعداء في البلاد الإِسلامية، وهي لا تألو جهدًا في تعويق سيرهم وإحباط أعمالهم، ولا يُمكن أن يطمئنَّ للسلطان قلبٌ وهو يرى أن أمة عظيمة من أخلص الأُمم في الولاء له والخضوع لشوكته سقطتْ تحت السلطة الأجنبية، وإنه لحرج الصدر من أعمال الحكومة الإِنجليزية وعدوانها على الحقوق العثمانية والإِسلامية والمصرية بلغت غشمرة الإنجليز إلى حدٍّ لا يحتمل، فليس من الغريب أن تضيق بها الصدورُ وتفيض بالغيظ منها القلوبُ وتبلى منها دروعُ الصبر وتذوبُ سابغات الجلد.
فيا أيها المصريون، هذه ديارُكم وأموالُكم وأعراضكم وعقائدُ دينكم وأخلاقكم وشريعتكم، قبض العدوُّ على زمام التصرف فيها غيلةً واختلاسًا، زحف العدو إليكم تحت راية المحبة، ثم قلب لكم ظهر المِجَنِّ، وتناول بيده الظالمة شئونكم العامة، من عسكرية ومالية وإدارة وقضاء، ولم يُبقِ لكم شيئًا إلا الحرمان من خدمة أوطانكم، وأنتم أحقُّ بها وطالما دافعتم عنها في الأيام السابقة.
هذا، وهو لم يأمن طوارق السياسة الخارجية ولم يمح القوى الداخلية، يطلب استمالة القلوب إليه، وجمع النُّفُوس عليه، فكيف به إذا رسخت أقدامُه، وارتكزت أعلامه، وخلا له الجو من المعارضين؟! ماذا ترجون من مطاولته، وماذا تؤملون في إرخاء العنان له، وماذا تَهابون في معارضته والأخذ على يده؟!
أما رجاءُ الخير منه فوهمٌ فاسدٌ وخيالٌ باطلٌ؛ فقد رأيتم أنه أفسد شئونكم، وأقلق راحتكم، وحرم رجالكم من الخدم، وأفقر آلافًا مؤلفةً من العائلات، ووهب من بلادكم لأعدائكم، وأضرَّ بمنافعكم العامة من زراعة وتجارة وصناعة، فأغلق أبواب الكسب في وجوهكم، وقصد إلى التدخُّل فيما يختص بأُمُور دينكم (كالأوقاف)، وعمد إلى خرق سياجكم وإزالة قوتكم بطرد جنودكم، وهذه أوائل أعماله، فكيف تكون نهايتها؟! فماذا تخشون منه؟
هل تخشون أن تنقص أموالكم، وثمرات كسبكم إذا أديتم حقوق وطنكم وحاربتم عدوكم؟! ربما يختلج هذا بخاطر بعضكم، وهو مِن عجيبِ الخواطر، أنتم واقعون بسكونِكم فيما تخافون منه، انتقصت الأموال والثمرات، وفاضت العبرات وزادت الحسرات، وإن زدتم في الخضوع زادكم عدوكم خسارًا وأوسعكم خرابًا ودمارًا، إن رسخت قدم العدو بينكم لا يبقى منكم غنيٌّ إلا افتَقر، ولا عظيمٌ إلا احتُقر، وإن شئتم فانظروا مستقبلكم في مرآة حاضركم، واقرءوا حالكم في تواريخ من سبقكم.
هل تخشون إذا قمتم بفروضكم أن يأتي الخطر على حياتكم؟! يمكن أن يعرض هذا الوهم بخيال طائفة منكم، ولكن فلْتعلموا أن عدوكم في هذا الوقت ضعيفُ العزيمة خائر القوة، الدول مُتَأَلِّبة عليه يترقب منها في كل آنٍ مُطالبتَه بنتائجِ أعماله ومحاسبتَه على عواقب تصرفه، ثم هو يخشاكم كما يخشى الدول أو أشد خشية، إنه مسرع في سيره منطلق إلى مقصده بغاية ما يمكنه؛ ليتخذ لنفسه قرارًا مكينًا، ومقرًّا أمينًا، ولا يخفى عليكم أن المسرع في جريه يكبه على وجهه عثرة في مدرة، فلو ظهرت منكم في هذا الوقت مقاومة خفيفة، أو مؤاخذة طفيفة، أو تظاهرتم بالنفرة وعدم الرضاء عن سيره فيكم، وجهرتم بذلك، لرأيتهم أن ماءه سراب، وسحابه جهام، وسيفه كهام، وأوقفتم سيره واستعليتم بقوتكم على ضعفه، وأقمتم للدول حجة قوية في كبحه ورد جماحه، وإلزامه باحترام الحقوق العامة والخاصة، ونزع قوة العمل من يد استبداده، وتخويلها لسلطة تحفظ بها الموازنة بين حقوقكم وحقوق أوروبا كافة.
أما لو تركتم عدوكم حتى ينتهي لمقره، ويقوى على أمره، ويدوخ السودان، ويحيط بجيوشه أعالي البلاد المصرية — لا أناله الله ذلك — صعب بعد هذا تعريفه بقدره، وإيقافه عند حده، وضعفتْ حجة الدول في معارضته، إن أقوم حجة للدول عليه هي عجزُه عن القيام بما كَتب على نفسه من تقرير الراحة وإصلاح ما كان يظن من الخلل في مصر، فلو تمكن عدوكم بسكونكم من إظهار قدرته وإقامة الدليل على كفاءته للولاية عليكم، فقد فاز بالسيادة فيكم وأصبحتْ دماؤكم وأموالكم وجميع شئون حياتكم في قبضة جوره.
في إمكانكم الآن أن تضروا بعدوكم وليس في إمكانه أن يضرَّ بكم، فإذا مضى زمنٌ انعكست القضية وأصبحتُم في عجز عن مقاومته وأصبح وفي يده عصا الجبروت لإذلالكم.
إن كنتم تخافون من الموت أو التذليل فهل هو الآن على بُعد منكم؟! أليس يؤخذ منكم الأبرياء بالشُّبه الباطلة، ويهانون ويذلون وكثير منهم يقتلون؟! إن عدوكم هذا سيحاسبكم على خطرات قلوبكم وحركات دمائكم في أبدانكم، ويفعل بإخوانكم في ديار غير دياركم، ثم لا يُبقي على أحد منكم، فأنتم اليوم أصحاب أمركم وهذا قصده إليكم، وفي إمكانكم أن تستعينوا الله في التحصُّن من خطرٍ آجلٍ، بدون ضرر عاجل، فإن شئتم فارحموا أنفسكم، وإلا فأنتم ساقطون، فيما منه تخافون.
يا قوم يؤثر في كتبكم من كلام سلفكم: الشجاع محب حتى لعدوه، والجبان مبغض حتى لأبيه وأُمه، تعلمون أنه ما عَزَّ قوم بالخضوع، ولا استُهين شعب بالإباء، لماذا تعدون أنفسكم في الدَّرَجَة الدنيا عمَّن سواكم؟! ألستم تتشابهون في الخلقة مع أعدائكم؟! ألستم تمتازون عنهم بالإيمان الصادق، والعقائد الصحيحة؟! ألستم تنتسبون إلى أولئك الأبطال الذي دوخوا البلاد وسادوا العباد؟! ألستم تَدَّعُون أنكم أشرف عنصرًا وأكرم جوهرًا، فإن قمتم بطلب حقوقكم فهل يصيبكم أكثر مما يصيب أعداءكم؟ إن كان الموت فهم يخشونه، إن كان الخسار فهم يرهبونه، إنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون.
لأي شيء يخاطر عدوكم بماله ودمه للتغلب على ما ليس له؟ ولأي سبب لا تقدمون بشيء من شهامتكم في حفظ ما هو لكم؟! إن هذا لشيء عجاب! هل نذكركم بقول شاعركم:
ليس هذا مقام التذكير، وليس المكان مكان المُباراة في المجد والمسابقة إلى معالي الأُمور، إنما الكلام الآن في الدِّفَاع عن الحياة وصيانة ضروريات المعيشة، فإن لم يستفزكم طلب العُلا وسموُّ الهمم فليستفزكم تصوُّر الشقاء المنتظر، الذي رأيتم بوادره ونعوذ بالله أن تدرككم أواخرُه، أستغفر الله، لا تزال ترجى فيكم النجدة والشمم والرفعة، لا يزال دينكم يترقب منكم حمية عليه وغيرة لدفع الغائلة عنه.
إن صاحب الدين ﷺ ينتظر فيما يعرض عليه من أعمالكم نهضةً لإعلاء كلمةِ الحق وإنقاذه من مخالبِ أعدائه، وإن الله في عزة جبروته لن يدعكم على ما أنتم عليه حتى يعلم الصادقين منكم ويعلم الصابرين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللهِ (الصف: ١٤)، وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (آل عمران: ١٣٩).