الفصل الخامس
إن جوردون باشا بعدما نصب نفسه للمدافعة عن حرية السودانيين زمانًا طويلًا، وكثر ما توسل بذلك لعودته حاكمًا للسودان؛ نال في هذه الحوادث بغيته، وأرسل من قِبَل دولته لعمل سوداني فوصل الخرطوم وافتتح أعماله بمخالفة مشربه، فأعلن إباحة بيع الرقيق وإلغاء معاهدة سنتي ١٨٧٧–١٨٧٩، ثم تَعَدَّى على حقوق السلطان بدعاوى مختلفة، منها أنه جاء نائبًا عنه، وتضاربتْ أقوالُه في مأموريته، فادعى أنه حاكمٌ عامٌّ على الأقطار السودانية بأمر دولته والحكومة المصرية، مع تصريحه بأن الحكومة المصرية لا دخل لها من الآن في إدارة السودان رأسًا واعترافه بإمارة الشيخ محمد أحمد على كوردفان.
هذه كل وسائله لامتلاك قلوب السودانيين، ولم يلبث أنْ ظهر ضعفُ سياسته عند جميعهم؛ لعلمهم السابق بأطواره، فكان ما أجمعتْ عليه الجرائدُ الإِنجليزية والفرنسية من عدم نجاحه في مأموريته، فإن الأخبار الخصوصية الواردة من الخرطوم متفقةٌ في أن ما أُشيع من البهجة بقدوم جوردون مُحي أثرُه وتحول إلى اضطراب وقلق وتشويش في الأفكار، وأن القبائل فيما وراء الخرطوم تسخر بمنشوره وتهزأ بوعده ووعيده.
وهذا الضرب من السياسة ربما يستغربُهُ مَن لا يعرف حال جوردون، أما المصريون جميعًا والسودانيون خصوصًا فلا يعجبون منه لوقوفهم على أحواله من قبل، وإنما العجيب من كون الحكومة الإِنجليزية ذهلت عن أن ثورة دينية لا يُمكن إطفاؤها بيد مَن يخالف الثَّائرين دينًا وشكلًا ولغةً وإن كان عاقلًا سياسيًّا.
يثبت هذا الذي قلناه ما ورد إلى «الديلي نيوز» من أن الجنرال جوردون بعث برقية أثبت فيها أنه عاجز عن مساعدة الحامية المصرية في السودان ما لم يكن تحت إمرته جيوشٌ على النيل الأبيض والنيل الأزرق، وما جاء من مكالمته لمراسل التايمس حيث صرح له أنه لم يعد في إمكانه أن يفعل أَزْيَدَ مما فعل (وما فعل شيئًا) لتقرير الراحة بين السكان، وأن العزم على إخلاء السودان فَتَحَ للشيخ محمد أحمد سبيلًا لإثارة القبائل بين بربر والخرطوم، وفي أثناء المحادثة أظهر احتياجه لفرقتين من العساكر تُرسَل إليه من جيش الجنرال جراهام، ومما قاله: إنه من الضروري تعيين زبير باشا خلفًا له في الخرطوم ويفوض إليه إعادة الراحة ومقاومة الثَّائرين، وهذا من عجيب تدبيره؛ فإن هذا الباشا إن لم يكن معتقدًا بصاحب دعوة المهدوية، فعنده أعظم باعث للاتفاق معه، فإنه لم ينس ما حل بأولاده وأقاربه من القتل صبرًا، وما سُلب من أمواله نهبًا وغصبًا، فكيف يميل لمساعدة الحكومة المصرية على إخضاع الثَّائرين عليها؟!