الفصل التاسع
وردت برقيةٌ من تاشكند إلى جريدة الساندر الإِنجليزية مفادها أنه حصل اضطرابٌ عظيم في أفكار المسلمين سكنة بُخارى عندما سمعوا بانتصار أعراب السودان وظفرهم الأول، وظهر فيهم داعٍ جديد يحثُّ على الحرب ومقاتلة الذين ينتهبون الأراضي الإِسلامية لتوسيع ممالكهم، ويهدد صاحب السلطة العامة بين المسلمين بخلعه من مغرسه إذا لم ينشر اللواء الأخضر (المغالبة ومصادَمة المعتدى عليهم).
هذا برهان جلي على ما أنذر به سابقًا من أن دعوى المهدوية في السودان لهذه الأوقات التي صدم المسلمين فيها أشباه الحوادث الماضية في القرن الخامس والسادس من الهجرة، ستدعو إلى حركة عامة يصيح فيها الشرقي بالغربي، ويصعب على الإنجليز وهو في مجراها أن يتنكب عنها دون أن تعروه هزَّة من مفزعاتها، خصوصًا والمظاهرة الدينية في البلاد المحكومة بسلطة أقوى وأظهر.
إن بلاد بُخارى بينها وبين السودان مسافاتٌ متطاوِلة وأبعادٌ متنائية، ويظن الناظرُ في لوح الجغرافيا أن المواصلات بينها منقطعة، ومع ذلك سرى التنافُسُ بين القطرين في الغيرة بغاية السرعة، فما ظنك ببلاد هي أقرب إلى مبعث الدعوى وأدنى منها منالًا؟! يغلب على الظن أن الروح هبطت إليها ولكن تتحرك بحركة العقل وتنمو على القوانين الطبيعية والشرائع السياسية والاعتقادية، فلا يشعر الأقوياء إلا وقد بات بحلاقمهم المستضعفون، والأرض أرض الله يورثها مَن يشاء مِن عباده الصالحين.
إذا سهَّلت الحوادثُ ظهورَ الكوامن ومهدت بروز المغيبات ماذا يمكن أن يؤخذ به من الوسائل لوقاية العد القليل من غيلة الجمهور الأغلب الذي لا يقاوم، وما أمكنتْ مقاومته في الأزمان الخالية؟!
نظن أنْ لا وسيلة لهذا إلا بتسليم الأمر لأربابه والدخول إليه من بابه، وتركه للمسلمين يُرضي بعضهم بعضًا ويدافع بأسُهم بأسَ بعض، فإن كان هذا هو نهاية السير، فمن الخطأ السياسي أن لا يبدأ به قبل اشتداد الكرب، وعظيم الخطب — والله الهادي إلى طريق الرشاد.