الفصل الثاني عشر
إنْ كان البرهان يدفع غارة أو يهزم عسكرًا أو يفتح بلادًا؛ فهذا أقوى ما يكون من البرهان على أوضحِ حقٍّ يوجد.
ومنها نص الفرمان الصادر بتولية توفيق باشا؛ فإنه صريحٌ في أن مصر بحدودها الطبيعية وملحقاتها تُعد من الأملاك العثمانية وإنه لا يسمح للخديو أن يتنازل عن قطعة أرض منها — صغرتْ أو كبرتْ — لأجنبي، كائنًا من كان لأي سبب ولا بأي وجه، ولا يسوغ له أن يتخلى عن شيء من الامتيازات الممنوحة لمصر مهما كنت الأسباب والحوادث، ولا يجوز له عَقْد شرط أو عهد إلا بعد عرضه على الدولة ورضاها، ويُحظر عليه تجديد قرض مالي إلا فيما يتعلق بتسوية المسائل المالية التي كانت لذاك العهد.
ومنها أن قنال السويس لم يفتح إلا بعد استئذان الباب العالي، فكيف ساغ لإنجلترا الآن أن تتولى فصل السودان عن مصر، وأن تتداول في فتح قنال آخر، وأن تتدبر في قرض جديد تحمله على عواتق الحكومة المصرية، وأن تتناول حماية الثغور بعساكرها بدون الاتفاق مع الباب العالي ولا مشاورة الدول العظيمة؟!
وأنا في حيرة مما أراد هذا العظيم في إقامة الحجج! هل أراد إظهارَ ما كان خافيًا على دول أوروبا وهم يعلمونه حق العلم، أو بيان أن إنجلترا أخطأتْ في فهم هذه الفرمانات وتلك المعاهدات، أو حاول إقناعَها بالدليل والبرهان؟! ولَكِنَّا نعلم أن حكومة بريطانيا لا تفزع من الاحتجاج ولا ترهب الجدال؛ فإنها تمرنت على ذلك من أزمان طويلة مع الملوك والأمراء الشرقيين، وأمكنها — في أحوالٍ كثيرة — أن تُجيب عما يرد عليها من الاعتراضات، وإن بلغت مقدماتها من الظهور حدَّ البداهة.
ولولا هذا لَمَا احتدتْ جريدة التايمس عندما بلغها نبأٌ مؤداه أن جرانفيل طلب من السلطان أن يرسل حامية تركية إلى سواكن، وبالغتْ في إنكار ذلك بقولها: إنه مما لا يخطر بالبال، ثم تعللت بما لا يذهب على فطنة أحد حيث قالت: إن إنجلترا لا تريد أن تحامي عن حقوق السلطان بعدما صارت بضعفه نسيًا منسيًّا.