الفصل الرابع
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا.
•••
إن للمسلمين شدة في دينهم، وقوة في إيمانهم، وثباتًا على يقينهم، يباهون بها مَنْ عداهم من الملل، وإن في عقيدتهم أوثق الأسباب لارتباط بعضهم ببعض، ومما رسخ في نفوسهم أن في الإيمان بالله وما جاء به نبيهم ﷺ كفالةٌ لسعادة الدارين، ومن حُرم الإيمان فقد حرم السعادتين، ويُشفقون على أحدهم أن يمرق من دينه أشد مما يشفقون عليه من الموت والفناء، وهذه الحالة — كما هي في علمائهم — متمكنةٌ في عامتهم، حتى لو سمع أي شخص منهم في أي بقعة من بقاع الأرض عالمًا كان أو جاهلًا أن واحدًا ممن وسم بسمة الإِسلام في أي قطر ومن أي جنس صبأ عن دينه؛ رأيت مَن يصل إليه هذا الخبر في تحرُّق وتأسُّف يلهج بالحوقلة والاسترجاع، ويعد النازلة من أعظم المصائب على مَن نزلت به، بل على جميع من يشاركه في دينه، ولو ذكرت مثل هذه الحادثة في تاريخ وقرأها قارئهم بعد مائين من السنين؛ لا يتمالك قلبه من الاضطراب ودمه من الغليان، ويستفزُّه الغضبُ ويدفعه لحكاية ما رأى كأنه يحدث عن غريب أو يحكي عن عجيب.
المسلمون — بحكم شريعتهم ونصوصها الصريحة — مطالبون عند الله بالمحافظة على ما يدخل في ولايتهم من البلدان، وكلهم مأمورٌ بذلك لا فرق بين قريبهم وبعيدهم، ولا بين المتحدين في الجنس ولا المُخْتَلِفين فيه، وهو فرضُ عين على كل واحد منهم، إن لم يقم قوم بالحماية عن حوزتهم كان على الجميع أعظم الآثام، ومن فروضهم في سبيل الحماية وحفظ الولاية، بذلُ الأموال والأرواح، وارتكاب كل صعب، واقتحام كل خطب، ولا يُباح لهم المسالمة مع من يغالبهم في حال من الأحوال حتى ينالوا الولاية خاصةً لهم مِن دُون غيرهم، وبالغت الشريعة في طلب السيادة منهم على مَن يُخالفهم إلى حد لو عجز المسلم عن التملُّص من سلطة غيره؛ لوجبت عليه الهجرة من دار حربه، وهذه قواعدُ مثبتَةٌ في الشريعة الإِسلامية يعرفها أهل الحق، ولا يغير منها تأويلاتُ أهل الأهواء وأعوانُ الشهوات في كل زمان.
المسلمون يحث كل واحد منه بهاتفٍ يهتف من بين جنبيه يُذَكِّره بما تُطالبه به الشريعةُ، وما يفرض عليه الإيمان، وهو هاتفُ الحق الذي بقي له من إلهامات دينه، ومع كل هذا نرى أهل هذا الدين في هذه الأيام بعضُهم في غفلة عما يُلِمُّ بالبعض الآخر، ولا يألمون لما يألم له بعضهم، فأهل «بلوجستان» كانوا يرون حركات الإنجليز في «أفغانستان» على مواقع أنظارهم ولا يجيش لهم جأشٌ، ولم تكن لهم نعرة على إخوانهم، والأفغانيون كانوا يشهدون تداخُل الإنجليز في بلاد فارس ولا يضجرون ولا يتململون، وإن جنود الإنجليز تضرب في الأراضي المصرية ذهابًا وإيابًا وتقتل وتفتك، ولا ترى نجدة في نفوس إخوانهم المشرفين على مجاري دمائهم، بل السامعين لخريرها من حلاقيمهم، الذين احمرت أحداقهم من مشاهدها بين أيديهم وتحت أرجلهم وعن شمائلهم.
تمسُّك المسلمين بتلك العقائد وإحساسهم بداعية الحق في نفوسهم، مع هذه الحالة التي هم عليها؛ مما يقضي بالعجب ويدعو إلى الحيرة، ويسبق إلى بيان السبب، فخذ مجملًا عنه: إن الأفكار العقلية والعقائد الدينية وسائر المعلومات والمدركات والوجدانيات النَّفسية، وإن كانت هي الباعثة على الأعمال وعن حكمها، تصدر بتقدير العزيز العليم؛ لكن الأعمال تُثبِّتها وتقوِّيها وتطبعها في الأنفس عليها حتى يصير ما يعبر عنه بالملكة والخلق، وتترتب عليه الآثار التي تلائمها.
نعم، إن الإنسان إنسانٌ بفكره وعقائده إلا ما ينعكس إلى مرايا عقله من مشاهد نظره ومدركات حواسه يؤثر فيه أشد التأثير، فكل شهود يُحدث فكرًا، وكل فكر يكون له أثر في داعية، وعن كل داعية ينشأ عمل، ثم يعود من العمل إلى الفكر، ولا ينقطع الفعل والانفعال بين الأعمال والأفكار، ما دامت الأرواح في الأجساد، وكل قبيل هو للآخر عماد.
إن للأخوة وسائر نسب القرابة صورةٌ عند العقل، ولا أثر لها في الاعتصاب والالتحام لولا ما تَبعث عليه الضرورات وتلجئُ إليه الحاجات، عن تعاون الأنسباء والعصبة على نيل المنافع، وتضافُرهم على دَفْع المضارِّ، وبعد كرور الأيام على المضافَرة والمناصرة تأخذ النسبة من القلب مأخذًا يصرفه في آثارها بقية الأجل، ويكون انبساط النَّفس لعون القريب، وغضاضة القلب لما يصيبه من ضيم أو نكبة جاريًا مجرى الوجدانيات الطبيعية، كالإحساس بالجوع والعطش والري والشبع، بل اشتبه أمره على بعض الناظرين فعَدَّهُ طبيعًا، فلو أُهملت صلة النسب بعد ثبوتها والعلم بها، ولم تدع ضرورات الحياة في وقت من الأوقات إلى ما يمكِّن تلك الصلة ويؤكدها، أو وَجَدَ صاحبُ النسب من يظاهره في غير نسبه أو ألجأته ضرورة إلى ذلك؛ ذهب أثر تلك الرابطة النَّفسية، ولم يبق منها إلا صورةٌ في العقل تجري مجرى المحفوظات من الروايات والمنقولات.
وعلى مثال ما ذكرنا في رابطة النسب — وهي أقوى رابطة بين البشر — يكون الأمر في سائر الاعتقادات التي لها أثرٌ في الاجتماع الإنساني من حيث ارتباط بعضه ببعض، إذا لم يصحب العقد الفكري ملجئ الضرورة أو قوة الدَّاعِيَة إلى عمل تنطبع عليه الجارحة وتمرن عليه ويعود أثر تكريره على الفكر حتى يكون هيئةً للروح وشكلًا من أشكالها، فلن يكون منشأ لآثاره، وإنما يعد في الصور العلمية له رسم يلوح في الذاكرة عند الالتفات إليه — كما قدمنا.
بعد تدبُّر هذه الأُصُول البيِّنة والنظر فيها بعين الحكمة؛ يظهر لك السبب في سكون المسلمين إلى ما هم فيه مع شدتهم في دينهم، والعلة في تباطؤهم عن نصرة إخوانهم، وهم أثبتُ النَّاس في عقائدهم؛ فإنه لم يبق من جامعة بين المسلمين — في الأغلب — إلا العقيدة الدينية مجردةً عما يتبعها من الأعمال، وانقطع التعارُفُ بينهم، وهجر بعضهم بعضًا هجرًا غير جميل؛ فالعلماء — وهم القائمون على حفظ العقائد وهداية النَّاس إليها — لا تواصُل بينهم ولا تراسُل، فالعالم التركي في غيبة عن حال العالم الحجازي فضلًا عمن يبعد عنهم، والعالم الهندي في غفلة عن شئون العالم الأفغاني، وهكذا.
بل العلماء من أهل قطر واحد لا ارتباط بينهم ولا صلة تجمعهم، إلا ما يكون بين أفراد العامة لدواعٍ خاصة؛ من صداقة أو قرابة بين أحدهم وآخر، أما في هيئتهم الكلية فلا وحدة لهم، بل لا أنساب بينهم، وكلٌّ ينظر إلى نفسه ولا يتجاوزها كأنه كونٌ برأسه.
كما كانت هذه الجفوة وذاك الهجران بين العلماء؛ كانت كذلك بين الملوك والسلاطين من المسلمين، أليس بعجيب أن لا تكون سفارة للعثمانيين في مراكش ولا لمراكش عند العثمانيين؟ أليس بغريب أن لا تكون للدولة العثمانية صلاتٌ صحيحةٌ مع الأفغانيين وغيرهم من طوائف المسلمين في المشرق؟
هذا التدابُر والتقاطُع وإرسال الحبال على الغوارب عَمَّ المسلمين، حتى صَحَّ أنْ يُقال: لا علاقة بين قوم منهم وقوم ولا بلد وبلد إلا طفيفٌ من الإحساس بأن بعض الشعوب على دينهم ويعتقدون مثل اعتقادهم، وربما يتعرفون مواقعَ أقطارهم بالصدفة إذا التقى بعضهم ببعض في موسم الحجيج العام، وهذا النوع من الإحساس هو الداعي إلى الأسف وانقباض الصدر إذا شعر مسلم بضياع حق مسلم على يد أجنبي عن ملته، لكنه لضعفه لا يبعث على النهوض لمعاضدته.
كانت المِلَّة كجسم عظيم قوي البنية صحيح المزاج، فنزل به من العوارض ما أضعف الالتئام بين أجزائه، فتداعتْ للتناثر والانحلال، وكاد كل جزء يكون على حدة وتضمحل هيئة الجسم.
بدأ هذا الانحلال والضعف في روابط المِلَّة الإِسلامية عند انفصال الرتبة العلمية عن رتبة الخلافة، وقتما قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة دون أن يحُوزُوا شرف العلم والتفقُّه في الدين والاجتهاد في أُصوله وفروعه كما كان الراشدون — رضي الله عنهم.
كثرت بذلك المذاهب وتشعب الخلاف من بداية القرن الثالث من الهجرة إلى حدٍّ لم يسبق له مثيلٌ في دين من الأديان، ثم انثلمت وحدة الخلافة فانقسمت إلى أقسام: خلافة عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر والمغرب، وأُموية في أطراف الأندلس، تفرقتْ بهذا كلمةُ الأمة وانشقت عصاها وانحطت رتبة الخلاف إلى وظيفة الملك، فسقطت هيبتها من النُّفُوس، وخرج طلاب المُلك والسلطان يدأبون إليه من وسائل القوة والشوكة ولا يرعون جانب الخلافة.
وزاد الاختلاف شدة وتقطعت الوشائج بينهم بظهور جنكيز خان وأولاده، وتيمورلنك وأحفاده، وإيقاعهم بالمسلمين قتلًا وإذلالًا حتى أذهلوهم عن أنفسهم، فتفرق الشمل بالكلية وانفصمتْ عُرى الالتئام بين الملوك والعلماء جميعًا، وانفرد كلٌّ بشأنه أو انصرف إلى ما يليه، فتَبَدَّدَ الجمعُ إلى آحاد، وافترق النَّاس فرقًا كل فرقة تتبع داعيًا إما إلى ملك أو مذهب، فضعفتْ آثارُ العقائد التي كانت تدعو إلى الوحدة، وتبعث على اشتباك الوشيجة، وصار ما في العقول منها صورًا ذهنية تحويها مخازنُ الخيال، وتلحظها الذاكرة عند عرض ما في خزائن النَّفس من المعلومات، ولم يَبْقَ مِنْ آثارها إلا أسفٌ وحسرة يأخذان بالقلوب عندما تنزل المصائبُ ببعض المسلمين، بعد أن ينفذ القضاء ويبلغ الخبر إلى المسامع على طول من الزمان، وما هو إلا نوعٌ من الحزن على الفائت، كما يكون على الأموات من الأقارب لا يدعو إلى حركة لتدارُك النازلة، ولا دفع الغائلة.
وكان من الواجب على العلماء قيامًا بحق الوراثة التي شرفوا بها على لسان الشارع، أنْ ينهضوا لإحياء الرابطة الدينية، ويتداركوا الاختلاف الذي وقع في الملك بتمكين الاتفاق الذي يدعو إليه الدين، ويجعلوا معاقدَ هذا الاتفاق في مساجدهم ومدارسهم حتى يكون كل مسجد وكل مدرسة مهبطًا لروح حياة الوحدة، ويصير كل واحد منهم كحلقة في سلسلة واحدة إذا اهتز أحدُ أطرافها اضطرب لهزته الطرف الآخر، ويرتبط العلماء والخطباء والأئمةُ والوعاظ في جميع أنحاء الأرض بعضُهم ببعض، ويجعلون لهم مراكز في أقطار مختلفة يرجعون إليها في شئون وحدتهم، ويأخذون بأيدي العامة إلى حيث يُرشدهم التنزيل وصحيح الأثر، ويجمعوا أطراف الوشائج إلى معقدٍ واحد يكونُ مركزه في الأقطار المقدسة وأشرفها معهد بيت الله الحرام، حتى يتمكنوا بذلك من شدِّ أزر الدين وحفظه من قوارع العدوان، والقيام بحاجات الأمة إذا عرض حادثُ الخلل وتطرق الأجانبُ للتداخُل فيها بما يحط من شأنها، ويكون كذلك أدعى لنشر العلوم وتنوير الأفهام وصيانة الدين من البدع، فإن إحكام الربط إنما يكون بتعيين الدرجات العلمية وتحديد الوظائف، فلو أبدع مبدعٌ أمكن بالتواصل بين الطبقات تدارُك بدعته ومحوُها قبل فشوها بين العامة، وليس بخافٍ على المستبصرين ما يتبع هذا من قوة الأمة وعلو كلمتها واقتدارها على دفع ما يغشاها من النوازل.
إلا أنا نأسف غاية الأسف إذا لم تتوجه خواطر العلماء والعقلاء من المسلمين إلى هذه الوسيلة، وهي أقرب الوسائل، وإن التفتت إليها في هذه الأيام طائفةٌ من أرباب الغيرة، ورجاؤنا من ملوك المسلمين وعلمائهم من أهل الحمية والحق أن يؤيدوا هذه الفئة ولا يتوانوا فيما يوحد جمعهم ويجمع شتيتهم، فقد دارستهم التجارب ببيانٍ لا مزيد عليه، وما هو بالعسير عليهم أن يبثوا الدُّعاة إلى من يبعد عنهم، ويصافحوا بالأكفِّ مَنْ هو على مقربة منهم، ويتعرفوا أحوال بعضهم فيما يعود على دينهم وملتهم بفائدة، أو ما يخشى أن يمسها بضرر، ويكونوا بهذا العمل الجليل قد أَدَّوْا فريضة وطلبوا سعادة، والرمق باقٍ والآمال مقبلة، وإلى الله المصير.