الفصل الخامس عشر
روتْ جريدة التان عن جريدة سان بترسبورج أن إمبراطور روسيا أظهر رغبته في السفر إلى برلين في الصيف القادم مع الإمبراطورة، ولم يعلم تاريخ توجهه بالتحديد إلى الآن، ويظن أن سفره هذا يكون قبل سفر إمبراطور ألمانيا (أمس) حسب عادته.
وتُعد هذه الزيارات من مؤكدات المواصلات بين دولتَي الروس وألمانيا، وهو مما يوسع لروسيا ميدان الجولان في آسيا — كما بينا سابقًا.
•••
وردتْ إلى الديلي نيوز برقيةٌ من القاهرة مفادها أن قبيلة تراشي في بربر انضمتْ إلى قبائل كوردفان المعتقدين بمحمد أحمد … وهذا مما يقنع الناظرين في الحركات السودانية بأنَّ هذه المبالغات التي يُذيعها الإنجليزُ في انتصارهم لم تؤثر شيئًا في نفوس القبائل، ولم توهِن اعتقادهم بذلك المدعي السوداني، ويقيم دليلًا على ما قلناه من أن هذه النيران الملتهبة لا يطفئها إلا رجلٌ من عظماء المسلمين.
•••
نشرتْ في عدة مُدُن من أيرلندا إعلاناتٌ ثوريةٌ وجدها أعوانُ الشرطة ملصقةً على جُدران الشوارعِ والأماكن العمومية، مكتوبٌ فيها هذه الكلمات: «حرب أهلية في شهر مارس ١٨٨٤»، وهو الشهر الحالي فتناول الشرطيون تمزيقَها بغاية السرعة، وكان الأيرلنديون مِن قبل وضعوا الديناميت في محطات السكك الحديدية من جملة جهات، وهذا الاضطراب الداخلي الشديد ثالثة الأثافي للمسألة المصرية ودخول مرو في حوزة الروس، وهذه الثلاثة، إن لم يكن لها رابعة، فهي كافيةٌ للمتبصِّر في تقدير الارتباك الذي أَلَمَّ بالحكومة الإِنجليزية في هذه الأيام.
•••
إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ورد تلغراف من القاهرة أن جريدة ألستاندرد نشرت ما يفيد أن السجون ضاقتْ بالمسجونين حتى اضطرت الحكومة (المصرية أو الإِنجليزية) إلى إطلاق ألف ومائتين منهم من أرباب الجنايات الخفيفة، وسبب هذه البلبلة عدمُ قدرة المجالس على محاكَمة جميع المتهمين! لهذا تذوب المُقَلُ بكاءً وتتفتت الأكباد حزنًا.
ورد من سواكن إلى ألستاندرد
أن المنشور الذي نشره هفت الأميرال الثاني بتعيين جعالة لمن يأتي برأس عثمان دجمة وصل إلى مشايخ عرب ثمانية، فأحرقوه؛ علامةً على رفضه وعدم قبوله.
برلين في ١٨ مارس
أن جريدة البوست، وهي جريدةٌ لها علاقاتٌ مع السفارات في برلين، من فكرها أن استعفاء توفيق باشا وهو قريبُ الوقوع يفتح للدول الأوروبية بابًا لإعادة المراقبة المشتركة في مصر؛ لأن إنجلترا لم تنجح كل النجاح في مأموريتها لإقرار الراحة في تلك البلاد.
باريس في ٢٧ مارس
اشتدت خطوبُ المسائل المصرية، واشتبهتْ مناهجُها، وعظمتْ أخطارها، والتبست وجوهُها على ذوي الشئون وأرباب المصالح فيها، حتى على السياسيين من رجال حكومة إنجلترا. كلٌّ يتصور غايةً ويطلب حظًّا يناله منها وقد شد رحالَه للوصول إليه، ولكن ضلَّ أعلام الجادة وتاه في مجاهيل، وليل المشكلات مظلم وديجورها مُدْلَهِمٌّ، وتعاكست مذاهب السالكين، هذا يشرِّق والآخر يغرِّب، وكلٌّ في وحشة يطلب المعين ويخاف العادي، وكلما فرح لنبأ رمى بسهمه من الجزع لا يدري أصاب خصمًا أو قتل منجدًا.
إن دولةً عظيمةً كان لها من القوة ما اعترف به دولُ العالَم أجمع، ولها من الحقوق في مصر ما لا ينازعها فيه أحدٌ، ترى رجالها اليوم يهتزون لدهدهة الرعود الإِنجليزية، وإن كان سحابها جهامًا، ويفزعون من هزيم تلك الأصوات فيحارون ماذا يفعلون، وريما يأتون ما لا يريدون.
ادعتْ دولةٌ واسعةُ المطامع أنها نائبةٌ عنهم في إصلاح الأقطار المصرية وإنقاذها من الاختلال، فتبوأتْها بقُواها العسكرية وأخذت بزمام الأحكام فيها، تعزل وتولِّي، وتُعطي وتمنع، وتُعاهِد وتَنقض، وتنقص من أطرافها ما أرادت، وتحل بعساكرها من بقاعها ما شاءتْ، وأصحاب الملك الشرعي شاخصةٌ أبصارُهم، مشرئبة رقابهم، يبصرون ما لا يسر لهم خاطرًا، ولا يشرح لها صدرًا، مع خفقانٍ في القلب واضطرابٍ في الفؤاد، والتهابٍ في الأحشاء؛ فزعًا من سوء العاقبة.
يحسون بما تقتضيه مواقع الأقطار، والنسب بين بلد وما يجاوره من البلدان، وما يلزم لحمايتها من وسائل الدِّفَاع، فيحكمون بأنه إن دامت الحال على ما يرون، أصبحت الأقطار السورية والحجازية واليمنية، على خطر عظيم في زمن قريب أو بعيد، وأن تاريخ مصر من عهد الفراعنة إلى الآن ينادي عليهم نداء الناصح، بل ينفث فيهم نفثات الحق، بل يزعجهم إزعاج الحاكم القاهر بأن المحافظة على مصر، من أهم واجباتهم، إن لم يكن لذاتها فلِما يتسلط عليه موقعها من الأقطار.
أما ولاة الأمر من المصريين وأولو الرأي فيهم فقد غشيهم من هذه الدهاة ما أذهلهم عن علم حاضرهم، والفكر في مستقبلهم، طلبوا لهم عونًا قويًّا، وركنوا إليه في دفع ما ظنوه غائلة، وتوهموه نازلةً، فاستبد بالأمر عليهم، وسلبهم ما طلبوا المحافظة عليه، وهم بين نوم تطيب لهم أوائله، بما يلين لجنوبهم من الوعود الإِنجليزية، وبين أحلام مدهشة وخيالات مزعجة، تمثل لهم ما سيُصب عليهم من حميم العذاب، وما يؤخذون به من عذاب الهوان، وإن قليلًا مما يشهدونه حاضر العنوان، على كثير مما يراه بعضهم بعيدًا ونراه، والعاقلون منهم، قريبًا.
أما الإنجليز، فليسوا في حِلٍّ مما كسبوا ولم يهنأْ لهم ما طمعوا، بل دافعتْهم الحوادث وطاردتهم إلى مشكلاتٍ لم تكن في حسبانهم، وهم الآن بين أُمور ثلاثة لا يتيسر واحدها إلا بما ينفي الآخر وهم يريدونها مجتمعة، ولن يقدروا عليه إلا بقدر يأتيهم بما يخرق العادة ويفوق الإمكان: إنهاء مسألة محمد أحمد، والوفاء بعهودهم لأوروبا، وما يضمرونه لأنفسهم في مصر.
ثم هم يتشبثون لكل منها بوسيلة تضارب ما يتمسكون به في الأُخرى، تارة يُظهرون عزمهم على مبارحة مصر جنوحًا إلى الوفاء بالعهد، لكن يتبعون ما يقولون في ذلك بأن أجل الجلاء غير محدود، وتارة تنادي بأن ذمة إنجلترا توجب عليها أن تدخل مصر تحت حمايتها وتتولى إدارتها بصفة سيد حاكم لا مستشار ناصح، ويشير بل يصرح وزير حربيتهم بأن الضرورة تلجئهم إلى مثل هذا العمل ويعبر عنه أحيانًا باسم الحماية وأخرى بما لا اسم له سواها.
وطورًا يلقبون محمد أحمد أمير كوردفان ويطلبون من الخديو، كما روته جريدة «ميموريال ديبلوماتيك»، أن يكتب لهم صكًّا بأنه يفوِّض الأمر لهم في شأن المدعي، يتفقون معه كما يريدون، وأنه يسمح لهم بإحلال عساكرهم في سواحل البحر الأحمر، وأنه لا يتولى ولاية الخرطوم بعد جوردون إلا شيخ يضمن لهم حسن الاتفاق مع محمد أحمد، فلا الوفاء يروق لهم لمناقضته للغرض، ولا الحماية تسهل عليهم؛ لأن دول أوروبا بالمرصاد، وبين هذا يأخذ محمد أحمد ما يهيئه له الإمكان من القوة ويثبت دعوته إلى سائر الأقطار ويجيش الجيوش ويزحف إلى الخرطوم، وهو اليوم يحاصرها وعلى شرف افتتاحها.
ومع حرص الحكومة الإِنجليزية على كتم الأخبار وتلطيف الإشاعات من جهة الخرطوم؛ اضطر وزير حربيتها أن يعترف في مجلس النواب أن المخابرات منقطعةٌ بين الخرطوم ومصر السفلى (إلى الإسكندرية)، وأن الحكومة الإِنجليزية في مخابراتها مع الجنرال جوردون إنما تعتمد على الصدفة في وجود من يقطع البراري إلى عاصمة نوبيا وكورسكو حتى يوصل الخبر إليه، وأنه لا علم للحكومة بشيء من أحوال النيل إلا على من خامس عشر الشهر، ولا تدري ماذا حلَّ بجوردون.
وأثبتت جريدة التايمس أن الجنرال في خطر عظيم، وزاد الهول عليهم أن عثمان دجمة لم يتزعزع عزمُه بما أصابه في الهزيمتين، بل لم يزل خصمًا قويًّا للحكومة الإِنجليزية، ويدل على ذلك أن الجنرال جراهام يتأهب لمنازلته، كما ذكرته جريدة التان، وفي أهم الجرائد الفرنسية أن وقوع الخرطوم في قبضة محمد أحمد يكون له رجة هائلة وأثر عظيم في تغيير الأحوال الحاضرة في البلاد الشرقية.
نعم، إذا حل محمد أحمد في الخرطوم سهل عليه جمع كلمة القبائل النازلة ما بين الخرطوم وأسوان، وتتصل أطراف جيشه ببلاد مصر العليا ولا يعدمون من العرب في جهات الصعيد، بل وفي الدلتا من يلتحق بهم وتكون الطامة الكبرى، يغلب على ظننا أن هذه النار ليستْ مما يطفئه رذاذ السياسة الإِنجليزية، ولا مما تخمده حركات عساكرها البطيئة، خصوصًا وقد وقع الخلاف بين حكومة بريطانيا وبين قواد جيشها في سواحل البحر الأحمر، فمن رأي الحكومة أن تداوم الحرب وتسرع في إنهائها، ومن رأي الأميرال هفت توقيف الحرب إلى شهر أكتوبر (بعد ستة أشهر) لئلا تهلك العساكر من الحر، وأن في ستة أشهر لسعة لما لا يهجس الآن في خاطر أحد، فلو وكل الأمر في تسكين الثورة وحسم الفتن إلى القوة الإِنجليزية وبروقها الخلب لم نكد نفكر فيما يكون منها حتى تلتهب النيران في أنحاء أخرى ويصعب على أرباب الشأن فيما بعد ذلك تدارُكها، وليس لكشف هذه الخطوب إلا عزائم المسلمين، يلقى إليهم زمام العمل فيها خالصًا من المداخلات الأجنبية التي توغر الصدور وتثير الأحقاد.
وأحست الجرائدُ الفرنسية بما في نية إنجلترا أن تفعله من التصرف في الأراضي المصرية ومنها جريدة «الريببليك فرانسيز» وجريدة «الديبا» وغيرهما، فطلبت من الحكومة الفرنسية أن تحل بعساكرها في جزيرة ديسي المتسلطة على سواحل البحر الأحمر مما يلي مصوع، محتجة على ذلك بقولها: إن صح ما ادعاه وزير حربية إنجلترا من كون شطوط البحر الأحمر تعد من طريق الهند، فلنا أن نقول: إنها أيضًا طريق تونكين وكوشنشين ومدغشقر، بل إن الحلول في تلك الجزيرة من أهم الضروريات لمراقبة منع التجارة في العبيد كما تقضي به المعاهدة بيننا وبين إنجلترا.
هذا بعض ما أنتجتْه سياسة جلادستون في مصر، وربما يسكن روع أمته ويخفف انزعاجها من هذه المباراة الجديدة بينها وبين فرنسا على سواحل البحر الأحمر بتذكار ما أعقبتْه المباراة بين الأُمتين في الهند من أزمان ماضية، ولكن شتان بين الزمانين، فتلك أوقاتٌ كانت سياسة إنجلترا خافيةً على أهالي الهند وكانوا ينخدعون لها، أما اليوم فلم يَبْقَ فيها خفاءٌ على أحدٍ من سكان الممالك الشرقية، ولعل الغيب يوافينا عن قريب بما يكون لفرنسا مع إنجلترا في هذه المسائل — وإلى الله المصير.