الفصل الخامس
هذه دول أوروبا جميعًا ودولة فرنسا خصوصًا، شاخصةُ الأبصار إلى ما أصاب مصالحها وأضاع حقوقها في القطر المصري وأضر بتجارتها فيه، ولا تبدي حركة ولا يُسمع لها صوتٌ، إلا همس خفيٌّ في الجرائد، والدولة العثمانية وهي شديدة الأزر قوية العضد؛ لما لها من المكانة في قلوب الهنديين، وكل إنجليزي قلبه بين أصابع الدولة العثمانية، وأحشاه مستقرة على أناملها، وفي نظرها أن سلطتها أشرفتْ على الزوال في الأقطار المصرية، وسيادتها عليها كادت تكون اسمًا، ومع ذلك لا تأتي عملًا ولا تخطو خطوة، سوى أنها اكتفتْ بإقامة الحجج ورفع الصوت بالاستغاثة لدى الدول حتى أَبَحَّهَا الصياح، وليس من يسمع ولا من يجيب.
وذوو الحقوق في الولاية على مصر والأخذ بزمام الحكم فيها على اختلاف مشاربهم، قد شُدَّتْ أياديهم بحبالٍ من الآمال، وسلاسل من المخاوف، لا يجدون لهم قرارًا على فكر، ولا ثباتًا على رأي، وإنما هم بين إعصار من الأوهام، وتيارات من هواجس الخيال، يحملقون إلى مواقع الحوادث، حائرين لا يطرف لهم طرف، ولا يغمض لهم جفن.
وعامة الأهالي في الديار المصرية بين فقر كاد يفضي إلى قحط، واختلاف في النظام، وضعف في السلطة، وخبط في الأحكام، كادتْ تؤدي إلى يأسٍ من الإصلاح، وقد أخذهم الدوار من التلف إلى جوانبهم طورًا ينظرون إلى أحكامهم نظر الآمل في هممهم، وحسن تدبيرهم، وآخر ما وعدتهم به الحكومة الإِنجليزية من الجلاء عن أوطانهم، وتركهم وما يدبرون لأنفسهم، والقرعة تضرب عند الأمة البريطانية على ديارهم، بدون أن يجعل لهم فيها سهم، كَأَنَّما هم عنها أغرابٌ لا يؤبَه بهم، ولا يبالَى بشأنهم.
نزاعٌ بين رجال السياسة الإِنجليزية، بعضهم يدفع الحكومة للاستيلاء على مصر وإعلان السيادة فيها واستلام أَزِمَّة أحكامها، وآخرون يقولون: هذا مما يُخالف أحكام الزمن، ولا تسوغه شريعة الوفاء، وإنما علينا أن نحل بها عساكرنا زمنًا يكفي لقضاء ما نريده فيها، ثم نخليها إذا لم يوجد موجب يحتم البقاء.
عبارات مختلفة، ومعانٍ متشابهة، يتنازعون وهم متوافقون، ويتخالفون وهم متحدون، يذهبون في انتحال الأسباب لما يبتغون مذاهب مختلفة، فبعض الجرائد كجريدة «التايمز» وما على مشربها تعتل بالجنرال جوردون وتهون ما حل به من الفشل، وتتقدم إلى الحكومة الإِنجليزية بطلب إنقاذه من الخطر، ولا وسيلة لخلاصه إلا إعلان الحكومة بالسيادة على البلاد المصرية.
فلهذا الإعلان من القوة المعنوية التي تدافع عن الجنرال ما ليس لجيش عرمرم، أما إرسال الجيوش فهو محالٌ لوعرة السبل وكثرة النفقات وشدة الحرارة، ولئن همت به الحكومة فإنما يكون من أعمال اليأس والقنوط، فهذه الجرائد جعلت هذه المصالح الدولية وحقوق الدولة العثمانية وحقوق ستة ملايين من سكان القطر المصري، فداء لرأس الجنرال جوردون، وفي زعمها أن ما تراه ليس رأيًا يبديه أرباب الجرائد بل هو ما تراه الأمة البريطانية بأسرها، وربما لا يكون بعيدًا.
وبعض الجرائد — وتشاركهم جريدة «التايمز» — تتذرع فيما تطلب بما حصل لأرباب الديون المصرية من القلق على ديونهم، وليس لهم ضمانة ترفع قلقهم، وتُسكِّن اضطرابهم، إلا إعلان السيادة على القطر المصري، وقوم آخرين منهم يجعلون حجتهم مصائب الأهالي المصريين ورزاياهم وما حل ببلادهم من احتلال، ولا ينقذهم من هذا الشقاء إلا السيادة الإِنجليزية.
جميعهم على وفاق على أن هذه السيادة هي الجوهر الثمين والسر المكنون، والإكسير المضنون به على غير أهله، متى أبرزوه لم يبق مريضٌ إلا عُوفي، ولا ضعيف إلا قوي، ولا فاسدٌ إلا صلح، كأن في هذا الاسم ما في الرقى والطلاسم، يغني عن الجيوش والأموال والعدة والرجال.
ولا نظن أن يكون في هذا الاسم ما يدعيه الإنجليز من القوة، ولا أن تكون في طيه هذه الأسرار العجيبة، ولو أننا فرضنا تنازُل أرباب الحقوق عن حقوقهم من الدول الأوروبية والدولة العثمانية وأرباب الشأن والولاية، وسوغوا لحكومة إنجلترا أن تنقش أحرف السيادة في أوراقها الرسمية أو في هواء الديار؛ فليس من السَّهل عليها أنْ تزيد الحامية إلى حَدٍّ يحفظ ملكًا عظيمًا يتاخم بلاد أوروبا، وقد ظهرتْ آثارُ قوتها مدة الحلول وما عاد منها على البلاد.
على أن الأهاليَ كانوا في سُكُون تام؛ لركونهم إلى ما تعدهم به حكومةُ إنجلترا من الجلاء عن أوطانهم، فإذا أعلنت السيادة انقصمت علائقُ الآمال، وانحرفتْ القلوب ومالتْ إلى الدعوة القائمة على القرب منها، وانقلب الكافة إلى الذود عن حقوقهم الوطنية أو الملية، ولا يرهبون القوة الإِنجليزية في داخل البلاد بعدما علموا شأنها، ويكون هذا حجة جديدة لمحمد أحمد في تأييد دعواه لدى المصريين، ولا يرعبه اسم السيادة بعدما لم ترهبه جيوش الجنرال هكس وجراهام، وفتكه بالأولى وإلجائه الثانية إلى إخلاء سواحل البحر الأحمر، فأي شأن يكون لهذا الاسم الشريف، نعم يكون بداية مشكل جديد في مصر، والله أعلم بعاقبته.