الفصل السابع والعشرون
نوهنا مرارًا للمسلمين عمومًا، والمصريين خصوصًا، من الانقباض عن حرب إخوانهم وإراقة دماء أبناء مِلَّتِهِمْ بمجرد أوامر تصدر إليهم من مخالفهم في الجنس والاعتقاد، لا يعلمون لها عاقبة، ولا يدرون من يجتني ثمرتها، بل يوقنون أنهم إنما يقتلون إخوانهم ليورثوا أرضهم لقومٍ آخرين، ربما كانوا أعداءَهم أو يكونون أعداءهم، ولهذا لم يأخذنا عجب من خذلانهم لهكس في السودان الغربي ولا لباكر في السودان الشرقي، ولا مما بلغنا في هذه الأيام من خذلان جوردون في الخرطوم، ولم يختلج في صدرنا ولا في خطرات أنفسنا أن انهزامهم في هذه المواقع منشؤه الجبن والخور، أو الاختلال والنقص في الآداب العسكرية، ولكن نعلم أنهم يفضلون الموت بيد إخوانهم على الظفر بهم لتكون أموالهم وديارُهُم غنيمة لصاحب أمرهم من الأجانب، أما الجرائدُ الإِنجليزية وقُوَّاد الإنجليز فهم يُبالغون في جبن العساكر المصرية واختلالها؛ ليتطرقوا بذلك إلى ما في عزم حكومتهم من طَرْد الجيش المصري الوطني وإقامة جيش إنجليزي مقامه، حتى يتمكنوا بجيشهم أن ينالوا ما تطمح إليه أنظارُهم في المستقبل.
ومن هنا لا يَستغرب عارفٌ بحقيقة الأمر ما ذكره مراسل التايمس في الخرطوم، من أن جوردون باشا عندما اشتد عليه الحصرُ من أشياع محمد أحمد، خرج بألفَي جندي من الجنود المصرية وبعض العساكر غير المنظمة «الباشبوزق» ليفرق المحاصرين ويُبعدهم عن أبواب المدينة، فلم تثبتْ الجنود لأول المُلاقاة وانحاز منهم خمسةُ ضُبَّاط إلى قبائل العرب وعمد اثنان من أمرائهم «بشاوات» إلى قتل من كان على المدافع منهم ليطلقها على إخوانهم التابعين لمحمد أحمد.
ويقال: إن جوردون قبض على الأميرين ووضعهما تحت المحاكمة العسكرية، وآخرُ الأمر اضطر جوردون إلى الدخول وراء الحصون بعد أن تَبدد جيشه وقتل منه مائتان على ما رووا، ولم يقتل من الثَّائرين إلا أربعة وغنم العرب من ذخائر جيش جوردون مقدارًا وافرًا، مع أن المهاجمين منهم كانوا فئة قليلة لا سلاح لهم إلا الرماح والحراب، وجيش جوردون كان ألفي رجل شاكي السلاح من الطرز الأوروبي الجديد.
هذا يكون من المصريين؛ لأنهم تحت قيادة أجنبي يأمرهم بأوامر دولة أجنبية، ولو كانوا في إمرة أمير مسلم مصري ولهم ثقة بعاقبة ظفرهم أن تكون لبلادهم وملتهم، لرأينا منهم ما رأى العالَم وشهد به الكون لهم من الشجاعة والإقدام أيام محمد علي وإبراهيم باشا.
وبالجملة: فقد أرجع جوردون بعد تغلُّب الثَّائرين حاميته إلى مأمنه في الخرطوم يوم السادس عشر من شهر مارس (الماضي)، ويقول مراسل التايمس: إنه يمكنه التمنُّع في الحصون بعض أيام إلا أنه لم يجرؤ على الخروج مرة ثانية.
•••
الجرائد الإِنجليزية تحكي ما هال أهل بريطانيا من مصيبة جوردون، وتنذر بخطر عظيم يحل به، وفي جريدة «الديلي تلغراف»: أن هلاك جوردون أو وقوعه في أسر محمد أحمد يذهب بالأعمال الحربية التي قامتْ بها تلك العساكر الإِنجليزية في السودان، ويجعلها هباءً كأنْ لم تكن، ويُزيل أثر تلك المواقع الدموية فتكون نسيًا منسيًّا، وقالت جريدةُ «ألستاندرد»: ليس من الممكن لنا أنْ نتأخر دقيقةً واحدة إلا إذا أردنا أن نلقي بجوردون إلى هاوية الهلاك، وبالسودان إلى الفوضى (نعم، لا بد أن يخافوا على السودان من الفوضى كما خافوا على مصر منها)، وفي التايمس: لا بُدَّ لإنجلترا أن تُظهر عزيمتَها في الأحوال الحاضرة، وتأخذ في عملها بالشدة حتى يُعلم ذلك منها عند الكافة من الإنجليز، ومن آمالها أَنَّ الأُمَّة الإِنجليزية تؤيد الحكومة فيما تعزم عليه وأنه لاسبيل لإنقاذ جوردون إلا تصميم الحكومة الإِنجليزية على ما تريد، (ولم تفصح التايمس عن تلك العزيمة ما هي ولا ما تصمم عليه الحكومة ما هو لعل كل ذلك هو هذا، لا بد أنْ نفعل ولا بد أن نترك ولا بد أن نكون ولا بد أن لا نكون).
قالت جريدة التان الفرنسية: إن هذا الخطب الجديد أحدث من القلق في إنجلترا ما لا مزيدَ عليه، وعمومُ النَّاس فيها يَعتقدون أنه إِنْ لم تُرسل الحكومة جنودًا لإنجاد جوردون فهو هالكٌ لا محالة، وجميعُهم يعلمون مقدار التبعة التي تحملها الوزارة (الإِنجليزية) إذا مات أو أُسِرَ جوردون، فإنها هي التي ألقتْ به في هذه التهلكة، والجرائدُ عمومًا — على اختلاف مشاربها — متفقةٌ على القول بأن موت جوردون باشا يكون وصمة في شرف إنجلترا لا تمحوها الأيام.
إن وزير الحربية الإِنجليزية يحاور سائليه من الحزب المضاد في مجلس النواب ويُراوغُهم في الجواب، ويتعلَّل بأن الحكومة لم تَعِد المجلس وعدًا صريحًا بأن تبين مقاصدها في السياسة المصرية، ويزعم أنه لا يُمكن أن يفيده بتفاصيل عن أحوال الخرطوم لانقطاع الأخبار، لكنه يعترف بهزيمة الجنرال جوردون وبما هو فيه من الشدة والضيق، إلا أن اللورد نورثبورك لم يزل مُصِرًّا على طلبه من الحكومة بيان سياستها في المسائل المصرية والسودانية بالتفصيل، وقال للورد جرانفيل في مجلس اللوردات: إنه لا يرى من السَّهل في هذه الأوقات أن تُفتح الطَّرِيق بين سواكن وبربر، وخَطَّأَ القائلين بسهولته، وأفاد المجلس بالفشل الذي حل بالجنرال جوردون.