الفصل الثامن والعشرون
صرح اللورد جرانفيل في مجلس اللوردات بِأَنَّ المقاومة الشديدة التي لاقوها من قبائل العرب ورئيسهم عثمان في سواحل البحر الأحمر لم يكن القصد منها إلا الرغبة في تمكين سلطة محمد أحمد في البلاد السودانية، يريد من هذا أنه لم يحملهم على الثبات والترامي على الموت عدوانُهُم للإنجليز ولا طمعُهُم في توسيع الفتح، وإنما كان الحامل هو الدِّفَاع عن شوكة محمد أحمد في السودان خاصة، وهذا من اللورد إما غفلةٌ أو تَغَفُّلٌ عن لواحق دعوى المهدوية، بل لوازمها التي لا تنفكُّ عنها؛ فإن القائم بهذه الدعوى لا يقف في سيره عند غاية، ولا يقنع بملك، وإنما يريد بسط دعوته في أقطار العالم وإحياء الأوامر الإلهية التي جاء بها صاحبُ شريعته الذي يدَّعي النيابة عنه في تبليغها وصيانتها في نفوس النَّاس كافة.
وسواء كان صادقًا في دعواه أو كاذبًا، فلن يتم له أمر ولن تتمكن له سلطة في بقعة من بقاع الأرض — السودان كانت أو مصر أو غيرها من البلدان — إلا بتقدمه إلى ما وراءها حتى يعلي كلمة دينه، ويرد إلى الحق من انحرف عنه، ويكون له التصرُّفُ التامُّ في قلوب المسلمين، ويأخذ منها مكانًا عليًّا يُشرف منه على مطامحِ دعواه في غيرهم من الأمم، وسواء يَسَّرَ الله له النجاحُ في ذلك أو بَاءَ بضده، هذا لا كلام لنا فيه الآن، ولَكِنَّا نتكلم في الخصائص الطبيعية لهذه الدعوى العظيمة.
وبعد الوقوف على ما بيَّنا يسقط من النظر قولُ اللورد جرانفيل في مجلس اللوردات إن حكومته لم يرد لها خبرٌ يحملها على الظن باستعداد محمد أحمد لقبول إمارة كوردفان والاكتفاء بها، ولا يعلم هل قبولُ محمد أحمد لتلك الولاية يكون حجابًا بينه وبين التقدُّم إلى سواه؟ فقد علمت أن محمد أحمد لم يقم بدعوى الملك، ولا طلب حقًّا له في الإمارة كان يرثه عن آبائه، وإنما قام بدعوى لا نهاية لأطرافها إلا عند حدود السطوة الإِسلامية، فليس يكافئ قوة دعوة إسلامية إلا عزمٌ إسلاميٌّ، ولن يكافح هذا المدعي ويرده إلى قدره إلا رجالٌ مسلمون، يُدافعون عن الدعوى بما يقوى على إضعافها أو محوها، فإن لم يرد لحكومة اللورد خبرٌ إلى الآن عما ذكره فليطمئنَّ قلبُهُ لعدم وروده في المستقبل، ولا نظن خبرًا يأتيه إلا بنقيض ما توهمه — نسأل الله حُسْن العاقبة.
بعد تحرير هذه الأحرف جاءت الأخبارُ مصدقة لما قلنا؛ ففي برقية من مكاتب التايمس في الخرطوم أن ثلاثة دراويش جاءوا مرسَلين من قبل محمد أحمد إلى الجنرال جوردون، وأرجعوا إليه علاماتِ الشرف التي كان بعث بها إلى مرسِلِهم، وبلَّغوه أن محمد أحمد يرفض لقب أمير كوردفان، وينصح الجنرال أن يدخل في دين الإِسلام؛ فهو خير له.