الفصل الحادي والثلاثون
أخذتْ دولةُ بريطانيا في معاملة الشرقيين لهذه الأيام طريقًا غير طريقها المعروف، وهي تعلم أن نجاحها في أعمالها لديهم، وبسطة ملكها فيهم، واقتطاف ثمرات جنانهم؛ إنما كان بذاك الطَّرِيق المعهود، كأني أراها اليوم اكتنهتْ حقائقَهم، وسبرتْ خلائقَهم، ووصلتْ إلى مكنوناتِ صدورهم، تجاوزتْ من ظواهرهم إلى ضمائرهم، وأدلت بخراطيمها إلى قلوبهم، فأحستْ سكوتًا، فحسبتْه يبسًا من شدة الجبن، وسرت بدقتها في أوعيةِ دمائهم، فشعرتْ منها بفتور ظنتْه وقوفًا من شدة الضعف، فكان من حسبانها أنهم في نهاية العجز عن أعمالهم، والقيام بشئونهم.
أو أَنِسَتْ منهم الركونَ إلى المراتب التي نقلت عن معانيها الأصلية، وجُردت عن مدلولاتها: كناظر، ووزير، ووالٍ، وأمير، وهي أشبهُ بقباب عالية، إلا أنها خاويةٌ خالية، فكان مِن زَعْمها أن أمراء الشرق شغلتْهم بهرجةُ هذه الصور الظاهرية حتى أنستْهم منافعَهم الحقيقية، وضرورات حياتهم الجنسية أو الملية، وقنعوا بما يشيده الوهم ويزينه الخيال، هكذا ظنتْ كما تدل عليه أعمالُها، ولم يكن ذلك معهودًا منها.
دخلتْ دولةُ الإنجليز بلادَ الهنديين، ومَدَّتْ عينها إلى ما مَتَّعَهم الله به من أراضيهم، وطمحتْ إلى اختطافها من أيدي المسلمين، إلا أنها ذهبتْ مذهبَ اللين واللطف، وخفض جناح الذل، والظهور في ألبسة الخضوع والخشية، وصابرتْ على هذا السير أزمانًا تقطع مسافات كثيرة في مُدَّةٍ طويلة.
نعم، كانت تَتَدَرَّج في نقض أساس السلطنة التيمورية حجرًا حجرًا، وتتملك أراضيها قطعة بعد قطعة، لكن بدون تعرُّض للسلطنة الظاهرية ولا مَسٍّ لنفوذها، كانت تغري الولاة من النوابيين والرجوات بالخروج على السلطان التيموري، ثم تنوب عنه بالعساكر الإِنجليزية والصينية للتغلُّب على الخارجين تحت اسم الملك، ولا تمس رسومه الملوكية بل تقلب نفسها خادمة مأمورة، هكذا كان سيرها، وهو المألوف من عوائدها.
أما في مصر فقدْ أظهرتْ مقاصدها لأول خطوة، باكورة أعمالها بعد دخول تلك البلاد غل أيدي الحكومة، ومعارضتها في جميع أعمالها، وصدها عن تعاطي شئونها، وربما كان يُخَيَّل للناظر في حركات تلك الدولة أيام كانتْ تهيئ أسباب الفتنة السابقة ومساعيها لتقوية ثورة السودان، أنها تسلك سبيلَها في الهند، ولكن يرى منعها السلطان العثماني عن المداخلة في إصلاح بلاده المصرية والسودانية، مع ما له فيها من الحقوق الشرعية والقانونية منعًا صريحًا، وفي معارضة ولاة مصر وحكامها في كليات الأمور وجزئياتها أنها انحرفتْ عن مشربها وأخذتْ مذهبًا غير مذهبها.
وكان للظنون مجالٌ لحسن الظن بدولة بريطانيا، غير أن جريدة التايمس كشفت القناع، ولم تبال بما يخدش خواطر الأمراء الشرقيين ازدراءً وامتهانًا، ومزَّقت الستار الذي أقامتْه حكومتها حجابًا لمقصدها في إلزام كليفور لويد بما ألزمتْه، فقالت: إن وزارة نوبار باشا مؤلفةٌ من دمى (صور وتماثيل) نُظمتْ في أسلاك، أطرافُها بيد الحكومة الإِنجليزية تحركها كيفما شاءت، فعلى كليفور لويد أن يُدير الشئون المصرية بواسطة هذه الألاعيب، تريد أن الحل والعقد في جميع الأحوال إنما هو للوزارة الإِنجليزية لكن من وراء الحجاب … ثم اعترضتْ هذه الجريدةُ على إقامة هذا الحجاب فقالت: إنه وإن كان مفيدًا إلا أنه يضر بمصالح إنجلترا ومصر معًا (وكان على الحكومة الإِنجليزية أن تجهر بولاية الأحكام في مصر كما صرحت بذلك مرارًا).
أسرعتْ دولة إنجلترا في سيرها إلى ما تروم في الأقطار المصرية، بل تهورتْ على خلاف عادتها، وقد يكون مع المستعجل الزلل، لا نظن من الحكمة ما أتتْه من الأعمال في مصر وربما وجب عليها تدارُك ما فرط منها، إن محمد أحمد شمخ أمرُه وعَظُمَ خطره وهو من ورائها لا عائق له في سيره، والقوى تجتمع إليه يومًا بعد يوم، وبعدما تراه في غير هذا المحل من أخباره جاءت أواخر الأخبار بأن المواصلات انقطعت بين القاهرة وبين بربر بالمرة، وأن جماهير الثَّائرين يزيد عددهم حول مدينة بربر وقتًا بعد وقت لقصد محاصرتها، ويغلب على ظن الكافة أنهم لا بد أن يُغيروا على المدينة بعد قليل ويلتحموا مع حاميتها بموقعة يكون فيها الفصلُ، وأن مدير بربر أعياهُ الإلحاح على الحكومة لتنجده بعساكر إنجليزية ليفرجوا عن المدينة وينقذوا حاميتها، وإلا هلكوا.
فما ركبته إنجلترا من طريق التصرف في الإدارات المصرية يخلف ظن المصريين فيها ويقطع أملهم مِن وفاء وُعُودِها، ويُوجِد عليها نفوسَ الأمراء منهم ويوغر صدورهم، ويُحقِّق لدى العلماء أن من قصدها التصرف في ولاية بلادهم كما يتصرف الملاك، فيلتجئون بحكم الضرورة إلى تلبية محمد أحمد في دعوته أو مساعدته على بعض أعماله، أو تخاذلهم بين يديه وفتح الأبواب له.
ولا نظن أن إنجلترا يخفى عليها أن علماء مصر هم أساتذة لعلماء المسلمين شرقًا وغربًا، وأن الجامع الأَزْهَر معهد العلوم الشرعية تسيرُ إليه الركاب من جميع الأقطار، ويقصده المسلمون من كل ناحية لدراسة الدين وروايته، فلو حزبهم الأمرُ وأعوزهم الصبر ورأوا ولاية الدين في قبضة مَنْ ليس منهم، فبمجرد إشارة خفيفة وإيماء إلى موافقة محمد أحمد، سرًّا كان أو جهرًا؛ كافٍ لإيقاد نار الفتنة في جميع أرجاء البلاد الإِسلامية، وتسابق القلوب إلى الاعتقاد بالمدعي والتفاني تحت رايته، وليس في استطاعة دولة إنجلترا أن تتصرف في أهواء القلوب ولا حركات الأفكار، وإن أسلحتها الجديدة لا تبدد جحافل الخواطر، وشتان بين هذه الفتنة وبين التي يسمونها فتنة عرابية — نسأل الله العافية وحُسْن العاقبة.