الفصل الثاني والثلاثون
لو نادينا الغافلين: أن انتبهوا، والنائمين: أن استيقظوا، واللاهين بحظوظهم أو أمانيهم أو أوهامهم: أن التفتوا، ولو أنذرنا أهل مصر بأن الإنجليز لو ثبتت أقدامهم في ديارهم لَحاسبوا النَّاس على هواجس أنفُسهم، وخطرات قلوبهم، بل على استعداد عقولهم، ولما عساه يخطر ببالهم؛ لقال النَّاس إننا نبالغ في الإنذار، ونغرق في التحذير.
ولو بيَّنا لهم أن الإنجليز يؤاخذون الأبناء بذنوب الآباء، والأحفاد بجرائم الأجداد، ويطالبون الذراري بدفائن أسلافهم، وإن لم يكن للخلف علم بما ترك السلف؛ لَعدوا هذا البيان منا شطًّا في المقال، وميلًا عن الاعتدال.
ولو روينا لهم أن في قلوب الإنجليز حقدًا وضغينةً على كل إيراني سواءٌ كان من الأفراد أو الوجوه، ويسيئون معاملتهم حيثما وُجدوا من بلاد الهند، ويمقتونهم مقتًا شديدًا؛ لأن نادر شاه — من ملوك العجم — جاء إلى الهند فاتحًا على عهد السلطنة التيمورية، واستولى على خزائن الأموال في دلهي، وأخذها إلى بلاده قبل استيلاء الإنجليز على تلك المملكة بما ينيف عن قرن، ويعضون الأنامل من الغيظ، ويحرقون الأرم من الأسف على ما أخذه نادر من أموال دلهي، وحرمانهم من تلك الأموال، ويحملون هذا الوزر على عاتق كل إيراني؛ لحسبوا ذلك منَّا تعاليًا.
ولو قصصنا عليهم ما يعامل به الإنجليز رعاياهم في الهند عمومًا والمسلمين خصوصًا، وأنه يكفي لنفي عالم من علماء المسلمين إلى جزائر أندومان أن يعترف بأنه معتقد ببعض آيات من القرآن؛ لأنكروا علينا ما نقول، لبعدهم عن تلك الأقطار وعدم وقوفهم على أحوالها.
ولسنا الآن بصدد إقناع المصريين بما نعلم من أحوال الإنجليز ولا نريد إقامة الدليل على ما نعرفه من أحكام سلطتهم، فلا نذكر ولا نبين ولا نحكي ولا نقص، ولكن نعرض عليهم نموذجًا من المعاملة لعله يكون للمتبصرين مرآة تحكي ما غيب عنهم من لوازم السلطة الإِنجليزية.
عزمنا على إنشاء جريدتنا هذه فعَلِمَ بعضُ مُحَرِّرِي الجرائد الفرنسية، فكتبوا عنها قبل صدورها غير مبينين لمشربها، ولا كاشفين عن حقيقة سيرها، فلما وقف على الخبر محررو الجرائدِ الإِنجليزية المهمة أخذتهم الحدة، واحتدمتْ فيهم نارُ الحمية، وأنذروا حكومتهم بما تؤثر هذه الجريدة في سياسة الإنجليز ونفوذها في البلاد الشرقية، ولَجُّوا في إغرائها بها، وألحُّوا عليها أن تعد كل وسيلة لمنع الجريدة عن الدخول في البلاد الهندية والبلاد المصرية، بل تَطَرَّفُوا فنصحوها أن تلزم الدولة العثمانية بالحجر عليها.
كل هذا كان منهم قبل صدور أول عدد من جريدتنا، وقبل أن يقف ولا واحدٌ منهم على مذهبها السياسي، مع أن هذه الجريدة لم تنشأْ لإثارة الخواطر ولا لإيقاد الفتن، وإنما أُنشئت للمدافعة عن حقوق الشرقيين عمومًا، والمسلمين خصوصًا، وتنبيه أفكار بعض الغافلين منهم لِمَا فيه خيرٌ لهم، ولقد صدرت سالكةً جادة الاعتدال، ذاهبةً مذهب الاستقامة والعدل، كما يظهر لكل من اطلع عليها، فليعتبر المعتبرون بهذا الإجحاف والاعتداء والقصاص قبل الجناية، ومن كان سمندري الطبع فليهنأْ له العيش في ظلٍّ ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يُغني عن اللهب. ولكن فلتعلم الحكومة الإِنجليزية أننا لا يعجزنا بث أفكارنا في البلاد الشرقية، سواء كان بهذه الجريدة أو بوسيلةٍ أخرى، إذا دعا الحال؛ فإن أنصار الحق كثيرون.