الفصل الثامن والثلاثون
إن للحكومة الإِنجليزية شأنًا في المسألة المصرية، يخال للناظر فيه أنها في تردد بين إحجام وإقدام، وأن مقارعة الآراء واختلاف الأهواء يزداد بين سكان بريطانيا كلما ازدادت الخطوب شدة في مصر، نعم، إن أرباب الرأي في الأُمة الإِنجليزية فريقان: فريق منهم يدفع حكومته إلى الإعلان بسيادتها على الديار المصرية واستلام إدارتها، وبعبارة أُخرى إلى ضمها لأملاكها، ويحملها بذلك على غمط حقوق الدولة العثمانية وأهالي القطر المصري والاستهانة بحقوق الدول جميعًا، وهذا فريق الجمعيات والشركات المالية، ويذهب مذهبهم بعض الوزراء، وينصر آراءَهم عدةٌ من الجرائد أشهرُها جريدة التايمس.
واشتدادهم في صخبهم ونعيرهم نَبَّهَ الأفكارَ وأقلق الخواطرَ في الأمة الفرنسية، فانطلق لسان جرائدها بالوعيد والتهديد، وصرحت الجرائد الوزارية منها وجرائد الأحزاب الجمهورية، وهي ذات السلطة في البلاد الفرنسية، بأن حكومة فرنسا وإن كانت غَضَّتْ طرفها عن أعمال إنجلترا في القطر المصري من يوم حملتها عليه إلى الآن، ولكنها لا تهمل شيئًا من مصالحها وحقوقها وجميع الدول الأوروبية تعززها.
وليس لإنجلترا في مصر ما تمتاز به عن بقية الدول، ومن الجهل أن يظن سياسي في المسألة المصرية أنها مصرية أو إنجليزية أو فرنسية، فإنما هي مسألة أوروبية، وقد اقتربت الساعة التي تجهر فيها الدول في المدافعة عن حقوقها في الأقطار المصرية، إن للدول حقًّا في التداخُل لحل هذه المشكلات بعدما عجزتْ إنجلترا عن القيام بما تعهدت به من إقرار الراحة في مصر، فإن الفوضى في هذه الأيام أشد منها في زمن الحركة المعروفة بالعسكرية، وفتنة السودان تلاطمتْ أمواجُها على حدود مصر، والهواء الأصفر (الكوليرا) أن تكون له رجعة إلى تلك البلاد السيئة الحظ.
وما هذا كله إلا من آثار الحلول الإِنجليزية في وادي النيل، أما إن أرادت دولة إنجلترا أن ترسم بسيادتها أو ترفع أعلام حمايتها على القطر المصري، فما للدول من حق التداخل يصير فرضًا لازمًا وضربة لازب لا محيص عنها، إلا أن كل هذه التهويلات لم تعدل بذلك الفريق الإنجليزي عن مقصده ولم تتحولْ به عن مشربه، فلا تزال جرائدُهُم تنعق بطلب الحماية على مصر، وهم في عَمًى عن العوائق والموانع التي تصد حكومتهم عن الانصياع إليهم.
أما الفريق الآخر من الأمة الإِنجليزية، ومنهم وزير داخلية إنجلترا ومستر جلادستون — فيما يقال، فيظهرون التعفُّف والنزاهة، بل يصرحون في خطبهم بأن حكومة بريطانيا لا تستطيع احتمالَ إدارة البلاد المصرية، وليس في إمكانها ضَمُّها إلى أملاكها، ولو هَمَّتْ بذلك لرأت من الدول أشد الممانعة، وربما رجعت بالخيبة، على أنها تكون قد سنت سنَّة سيئة في نقض العهود، وإخلافِ الوعود، وفتحت للدول هذا الباب، باب الشر والعدوان، هذا ما ينطقون به على منابرهم ويزعمونه نبأ عما في خواطرهم.
ولكن هؤلاء المتعفِّفِينَ لهم في كل وقت عملٌ لتمكين أقدامهم في مصر، ولا يخالفون الفريق الأول إلا في شقاشق الألسن. هؤلاء هم الذين حَوَّلُوا الإدارات المصرية ودوائر حكومتها العليا إلى السيرية، واستلموا زمام العسكرية والمالية وإدارة الداخلية والمحاكم القضائية وتصرفوا في أعمالهم تصرُّف الملاك، فاستبدُّوا على المتوظفين من المصريين، وغَلُّوا أيديهم عن تعاطي أشغال وظائفهم، حتى آل بهم الأمرُ إلى ما صرحتْ به الجرائدُ الإِنجليزيةُ من أنهم أشباحٌ ورسومٌ تلوح بين جدران الدواوين غدوةً وعشيًّا.
هؤلاء هم الذين يحاول نوابُهُم ومأموروهم في القطر المصري أن يُلزموا أهاليه بتحرير محضر يلتمسون فيه حماية إنجلترا وسيادتها عليهم وإن لم تنجح الحيلة، هؤلاء هم الذين هموا الآن بتغيير نظام المالية المصرية ورغبوا إلى الدول في عقد مؤتمر بلندن لتغيير قانون التصفية، ويريدون أن يجعلوا ذلك ذريعة للاتفاق مع الدول، على أن تكون الديون المصرية بأسرها تحت ضمانتهم، لتقوم لهم الحجة في الاستيلاء على مصر بعد زمن قصير أو طويل، أو ليمهدوا به طريقًا لمن يخلفهم في الوزارات الإِنجليزية ينتهي بالسير فيه إلى تلك الغاية بعينها، وما طلبوا الماجور بارين وَكِيلَهم السياسيَّ في القطر المصري إلا ليحضر هذا المؤتمر.
هذا ما يهيئه الإنجليزُ لأنفسهم ولكن ماذا تعد الحوادث لهم، وكتبوا على أنفسهم تخفيف مصائب الحكومة المصرية في السودان، وعقدوا لقُوَّادهم الألوية، وأعدوا لهم العدد، وكتبوا الكتائب؛ فسفكت دماؤهم بعدما ضَلَّ سعيهم، ظنوا أن بعض رزاياهم في سواحل البحر الأحمر فرصة للاستيلاء على السودان الشرقية، فبعد الجهد ومعاناة الكفاح من عراة العرب تَمَكَّنُوا من الرجوع بالخيبة، قنعوا بالاعتصام في حصون القاهرة وما يليها فأزعجهم دوي السيل المندفع عليهم من الجهة الجنوبية، وإغارة ثائرة السودان على شندي وافتتاحها، واشتداد الحملة منهم على بربر والخرطوم.
وزادهم خوفًا ورهبةً انتقاصُ كثير من القبائل على مقرُبة من وادي حلفا وأبي حمد، وأوشكتْ طائشةُ الفتنة أن تأخذ بقُلُوب الأهالي فيما تحت أُسوان، وأفزعهم ما أَحَسُّوهُ من أهالي القاهرة ومصر السفلى مِن تحول القلوب وضيق الأنفس، حتى اضطروا لزيادة الحرس فيها، مع أن زيادة المعهود في المصريين أنهم أهل السلم والراحة.
قصدوا بكل هذه حماية طريق الهند خوفًا على الهند، فبعدما ورد إلينا من أصدقائنا في لاهور أن لدعوة محمد أحمد في قلوب الهنديين منزلة، وأنه لو لم يكن مهديًّا فالضرورةُ قاضية عليهم باعتقاده كذلك عسى أن يكون في هذا الاعتقاد جمعٌ لكلمتهم على التخلُّص مِن رقِّ الإنجليز، جاءت البرقيات شاهدةً على صدق ما كتب إلينا.
ففي الأخبار البرقية أن رجال الشرطة في سملا وجدوا إعلانات ملصقة على جدران المدينة مما كتب فيها إغراء المسلمين بإجابة دعوة محمد أحمد والقيام بنصرته، وسملا هي في آخر الممالك الهندية الإِنجليزية من جهة الشمال الشرقي على القرب من لاهور، وهذا ما كنَّا نخشاه ونبهنا عنه مرارًا، وربما تكون هذه الصدمات الشديدة التي صدعت إنجلترا بعد استفحال أمر محمد أحمد كافيةً في إذعانها بأن عاقبة الثورة السودانية أشد خطرًا عليها من عاقبة الحركة التي سموها عرابية.
رام الإنجليزُ بكل هذه الاحتياطات المقيدة أَنْ يُقرروا الراحة في مصر فإذا الأموال تُنهب، والحقوق تضيَّع، والإدارات في فساد والتجارة في كساد، والزراعة في بوار، والظلم في اشتداد، والأمن مسلوبٌ حتى الأرواح والأعراض، كل هذا باعتراف جرائدهم ووزرائهم وشهادة الجرائدِ المصريةِ الوطنية وإجماع السياسيين في أوروبا على أن الشقاء الذي ألم بأهل مصر بعد تداخُل الإنجليز — ناشئًا عن هذا التداخل — لم يرزءوا به في زمن من الأزمان من عهد محمد على إلى الآن، فأنعمْ بهذه الوسائل التي أعدها الإنجليز لتقرير الراحة في مصر! وأجمل بالوسائط التي استعملوها لحماية الهند!
هذه بداياتُ القلاقل وبوادرُ المخاطر التي نشأتْ مِن شِدَّة احتراس الإنجليز وحِرْصهم على وقاية أملاكهم أو توسيعها، يظهر مِن جعجعتهم إذا صاح بهم داعي الحرب وحيرتهم من أين يجندون الجنود هل من الهند أم من إنجلترا؟! ومن موازينهم العسكرية أن ليس لهم قوة برية لحفظ الممالك الواسعة، فكيف يستطيعون التصرف في مصر لو سادوا عليها، وهي كما قال وزير داخليتهم: تحسب مملكة أوروبية لا تسود فيها الأوهام ولا تدوم فيها سلطة الحيل، إن لم يكن من المصريين فمن الأوروبيين، وأي قوة تصون لهم الهند من فتنة إذا امتد زمن الاضطراب في مصر؟! وقد جاءنا من أخبار الهند أن عموم المسلمين في هياج شديد ويخشى أن تثور فيهم ثائرة عندما يتقدم محمد أحمد خطوة أُخرى.
هذه العواقب السيئة وما يُتوقع من مثلها أو أسوأ منها لدولة إنجلترا إنما هي حلقات في سلسلة أغلاطها من استيلائها على قبرص، فإنها اختلست تلك الجزيرة لمراقبة طريق الهند، فنافستْها فرنسا، واستولتْ على تونس، فتخوفتْ على قنال السويس أن يُساق إليه جيشٌ بري من إفريقيا الغربية، فسعتْ في الإيقاع بين الجُند والحاكم في مصر وتذرعت بذلك للغارة عليها، فنزل بها في تلك ما نزل.
وبعث ذلك دولة فرنسا على ما بلغنا من مصدر يوثق به إلى السعي في طريق يوصلها إلى مناكبة الإنجليز في مصر على الحدود الغربية، وربما جَرَّتْ هذه المنافسات إلى فتح المسألة الشرقية، وليس بقليلٍ ما يُصيب إنجلترا من مضارِّ هذه المسألة، فأي ثمرة جنتْها إنجلترا مما غرسته في هذه السنين الأخيرة، لا هي صانتْ باب الهند من الخطر كما تروم، ولا هي سكنت قولب الهنديين، وإنما طرقت أبوابًا كانت مغلقة ويوشك أن تفتح، ولئن فتحت فإنها تُحدث زلزالًا في أركان العالم بأسره، هذا شأن الإنجليز وما يفعلون.
ويوجَد أُناس لهم مداخلُ في تقلُّب الأحوال المصرية، ولهم مذاهبُ مختلفةٌ في ترويج مقاصدهم لدى المصريين، يُمنُّونَهم بالخلاص من أيدي الإنجليز إذا آل إليهم السلطان في مصر، بل يؤكدون لهم أنه لو ثبتت أقدامهم في الديار المصرية لأحبطوا مساعي إنجلترا في عموم البلاد الشرقية، وسعوا في تقليصِ ظلها من المشرق بأسره، أخذًا بثأرهم منها، فهؤلاء سنأتي على أحوالهم، ونُبين طرق سيرهم في أعمالهم، حتى يكون ذوو الآمال فيهم على بصيرة من أمرهم.