الفصل التاسع والثلاثون
أخبر مراسل التايمس في الخرطوم أن تلك المدينة أصبحتْ معسكرًا لأعوان الثورة، ومضاربهم محيطة بها من جميع الجوانب، والمقذوفات من نيران أسلحتهم تنقضُّ على دار الحكومة بلا انقطاع، والمئونة في نقصان، والخطر يشتد يومًا بعد يوم، وبعد إفراغ الوسع في اختراق صفوف الثَّائرين بالمراكب تسير إلى بربر لفتح طريق المخابرة مع حاميتها، حبط العمل وخاب السعي؛ فإن قوة العربان على شواطئ النيل تصول على المراكب بأسلحتها القاتلة وتفتك بمن فيها.
وأتبع هذا الكلام بقوله: إن الجنرال جوردون عقد العزيمة على أن ينجو بنفسه من طريق إفريقيا الوسطى حيث تحقق أن حكومته غير مهتمة بإنقاذه، ويرى أنه لا سبيل إلى الاتفاق مع القبائل التي أخذت عليه طريق بربر إلا بمساعدة زبير باشا (اليوم يضطر لمساعدة زبير باشا) وهو من أعدائه، ولا نرى الزبير إلا مسلمًا لو سمحت ذمته بإنقاذ حياة جوردون فلا تسمح أن يكون السودان ولاية إنجليزية، وفي جريدة «الأكسترابلات» أن الحكومة الإِنجليزية ورد إليها كتاب من جوردون مفاده:
«ليس في طاقة أحد من البشر أن يُنجينا من الخطر؛ لأننا محاطون من جميع الأطراف بالقبائل الثَّائرة، فلم يبق لنا سوى التضرُّع إلى الله بتبديد شملهم، فإن لم تسعفنا العناية الإلهية بإجابة دعوتنا فلا ريب أن تلك القبائل تنهب وتفتك بجميع سُكَّان الخرطوم قبل وصول نجدة إنجليزية إلينا.» (وليته سأل الله تعالى حل المسألة السودانية وفوَّض إليه الأمر فيها وأراح نفسه من السفر إلى الخرطوم).
وجاءت الأخبار الأخيرةُ بأن مدينة شندي، وهي على النيل في منتصف الطَّرِيق بين بربر والخرطوم، وقعتْ في أيدي رجال محمد أحمد، هذا بعد أن طلب الجنرال جوردون من حكومته أن ترسل فريقًا من الجيوش لتخليص حامية تلك المدينة وموظفي إدارتها، ورأتْ الحكومة من الصواب أن لا ترسل، فلما ضاق الأمرُ على الحامية ويئسوا من القدرة على الدِّفَاع؛ ركن فريقٌ منهم يبلغ ثلاثمائة شخص إلى الفرار واندفعوا على صفوف محاصريهم لعلهم يجدون من بينها سبيلًا، فلم يستطيعوا ونزل بهم من أمر الله ما لا محيد عنه، بعث الجنرال جوردون ببرقية إلى القاهرة يشكو فيها عدم وصول الأخبار إليه من السير بارين (وكيل إنجلترا السياسي في مصر).
قالت التايمس: «ولعل البرقيات التي بعث بها بارين إليه تناولها الثَّائرون»، ومن كلام هذه الجريدة أن الحكومة الإِنجليزية أرسلت الجنرال إلى السودان وفوَّضت إليه الأمر فيما يفعله ليصيب بتدبيره غاية حسنة، ونرى أن هذه الحكومة غلت يديها بترك الجنرال وشأنه مما يلحق بها عارًا عظيمًا.
اشتدتْ حملةُ القبائل على بربر وخارتْ عزائمُ حاميتها وسكانها وأخذ اليأس بقلوبهم، ووردت برقية من مدير بربر إلى الوزارة المصرية يشكو بها تلك الحالة، ويقول: إنه لا يمضي بضعةُ أيام حتى يفتحها الثَّائرون ويحل بها من أيديهم ما حل بمدينة شندي، وبعد هذا جاءت برقية من القاهرة مفادها أن نوبار باشا يخشى أن يمتد لسان الفتنة إلى أسوان في وقت قريب، وإنَّا نشاركه في هذا الخوف ونزيد عليه الإشفاق من التهاب النيران في القاهرة وأطراف القطر المصري — ولا حول ولا قوَّة إلا بالله.