الفصل السابع
مضت سنَّة الله في خلقه بأن للعقائد القلبية سلطانًا على الأعمال البدنية، فما يكون في الأعمال من صلاح أو فساد، فإنما مرجعُه فسادُ العقيدة وصلاحُها على ما بَيَّنَّا في بعض الأعداد الماضية، ورُبَّ عقيدة واحدة تأخذ بأطراف الأفكار فيتبعها عقائدُ ومدركاتٌ أُخرى، ثم تظهر على البدن بأعمال تلائم أثرها في النَّفس، ورب أصل من أُصول الخير وقاعدة من قواعد الكمال إذا عرضت على الأنفس في تعليم أو تبليغ شرع يقع فيها الاشتباهُ على السامع فتلتبس عليه بما ليس من قبيلها أو تصادف عنده بعض الصفات الرديئة أو الاعتقادات الباطلة فيعلق بها عند الاعتقاد شيءٌ مما تُصادفه، وفي كلا الحالين يتغير وجهها ويختلف أثرُها.
وربما تتبعها عقائدُ فاسدةٌ مبنيةٌ على الخطأ في الفهم، أو على خُبث الاستعداد، فتنشأ عنها أعمالٌ غيرُ صالحة، وذلك على غير علم من المعتقد كيف اعتقد، ولا كيف يصرفه اعتقاده، والمغرور بالظواهر يظن أن تلك الأعمال إنما نشأتْ عن الاعتقاد بذلك الأصل وتلك القاعدة.
ومن مثل هذا الانحراف في الفهم وَقَعَ التحريفُ والتبديل في بعض أُصول الأديان غالبًا، بل هو علةُ البدع في كل دين — على الأغلب — وكثيرًا ما كان هذا الانحراف وما يتبعه من البدع منشأ لفساد الطباع وقبائح الأعمال، حتى أفضى بمن ابتلاهم الله به إلى الهلاك وبئس المصير، وهذا ما يحمل بعض مَن لا خبرة لهم على الطعن في دين من الأديان، أو عقيدة من العقائد الحقة؛ استنادًا إلى أعمال بعض السذج المنتسبين إلى الدين أو العقيدة.
من ذلك عقيدة القضاء والقدر، التي تُعد من أصول العقائد في الديانة الإِسلامية الحقة، كثر فيها لغط المغفلين من الإفرنج وظنوا بها الظنون، وزعموا أنها ما تمكنت من نفوس قوم إلا وسَلَبَتْهم الهمة والقوة، وحكمت فيهم الضعف والضعة، ورموا المسلمين بصفات ونسبوا إليهم أطوارًا، ثم حصروا علتها في الاعتقاد بالقدر؛ فقالوا: إن المسلمين في فقر وفاقة وتَأَخُّر في القوة الحربية والسياسية عن سائر الأمم، وقد فشا فيهم فساد الأخلاق فكثُر الكذب والنفاق والخيانة والتحاقُد والتباغُض، وتفرقت كلمتهم وجهلوا أحوالهم الحاضرة والمستقبلة، وغفلوا عما يضرهم وما ينفعهم، وقنعوا بحياة يأكلون فيها ويشربون وينامون، ثم لا ينافسون غيرهم في فضيلة، ولكن متى أمكن لأحدهم أن يضر أخاه لا يقصر في إلحاق الضرر به، فجعلوا بأسهم بينهم والأمم من ورائهم تبتلعهم لقمة بعد أخرى.
رَضُوا بكل عارض، واستعدوا لقبول كل حادث، وركنوا إلى السكون في كسور بيوتهم، يسرحون في مرعاهم، ثم يعودون إلى مأواهم، الأمراء فيهم يقطعون أزمنتهم في اللهو واللعب ومُعاطاة الشهوات، وعليهم فروضٌ وواجباتٌ تستغرق في أدائها أعمارَهم ولا يؤدُّون منها شيئًا.
يصرفون أموالَهم فيما يقطعون به زمانهم إسرافًا وتبذيرًا، نفقاتُهم واسعةٌ ولكن لا يدخل في حسابها شيء يعود على ملتهم بالمنفعة، يتخاذلون ويتنافرون، وينوطون المصالح العمومية بمصالحهم الخصوصية، فرب تنافر بين أميرين يضيع أُمة كاملة، كل منهما يخذل صاحبه، ويستعدي عليه جاره، فيجد الأجنبي فيهما قوةً فانيةً وضعفًا قاتلًا فينال من بلادهما ما لا يكلفه عددًا ولا عدة.
شملهم الخوف وعَمَّهم الجبن والخور، يفزعون من الهمس، ويألمون من اللمس، قعدوا عن الحركة إلى ما يلحقون به الأُمم في العِزَّة والشوكة، وخالفوا في ذلك أوامر دينهم، مع رؤيتهم لجيرانهم — بل الذين تحت سلطتهم — يتقدمون عليهم ويباهونهم بما يكسبون، وإذا أصاب قومًا من إخوانهم مصيبة أو عَدَتْ عليهم عادية لا يسعون في تخفيف مصابهم، ولا ينبعثون لمناصرتهم، ولا توجد فيهم جمعيات ملية كبيرة لا جهرية ولا سرية، يكون من مقاصدها إحياة الغيرة، وتنبيه الحمية، ومساعدة الضعفاء، وحفظ الحق من بغي الأقوياء وتسلُّط الغرباء.
هكذا نسبوا إلى المسلمين هذه الصفات وتلك الأطوار، وزعموا أن لا منشأ لها إلا اعتقادهم بالقضاء والقدر وتحويل جميع مهماتهم على القدرة الإلهية، وحكموا بأن المسلمين لو داموا على هذه العقيدة فلن تقوم لهم قائمة، ولن ينالوا عزًّا ولن يعيدوا مجدًا، ولا يأخذون بحق، ولا يدفعون تعديًا، ولا ينهضون بتقوية سلطان، أو تأييد ملك، ولا يزال بهم الضعف يفعل في نفوسهم، ويركس من طباعهم، حتى يؤدي بهم إلى الفناء والزوال — والعياذ بالله — يفني بعضهم بعضًا بالمنازعات الخاصة، وما يسلم من أيدي بعضهم يحصده الأجانب.
واعتقد أولئك الإفرنج أنه لا فرق بين الاعتقاد بالقضاء والقدر وبين الاعتقاد بمذهب الجبرية، القائلين: بأن الإنسان مجبور محض في جميع أفعاله، وتوهموا أن المسلمين — بعقيدة القضاء — يرون أنفسهم كالريشة المعلقة في الهواء، تقلبها الرياح كيفما تميل، ومتى رسخ في نفوس قومٍ أنه لا خيار لهم في قول ولا عمل، ولا حركة ولا سكون، وإنما جميع ذلك بقوة جابرة، وقدرة قاسرة؛ فلا ريب تتعطل قواهم، ويفقدون ثمرة ما وهبهم الله من المدارك والقوى، وتُمحى من خواطرهم داعيةُ السعيِ والكسب، وأجدرُ بهم — بعد ذلك — أن يتحولوا من عالم الوجود إلى عالم العدم.
هكذا ظنت طائفةٌ من الإفرنج، وذهب مذهبها كثيرون من ضعفاء العقول في المشرق، ولست أخشى أن أقول: كذب الظانُّ، وأخطأهُ الوهم، وبطل الزاعم، وافتروا على الله والمسلمين كذبًا؛ لا يوجد مسلم في هذا الوقت من سني وشيعي، وزيدي وإسماعيلي، ووهابي وخارجي؛ يرى مذهب الجبر المحض، ويعتقد سلب الاختيار عن نفسه بالمرة، بل كل من هذه الطَّوَائِف المسلمة يعتقدون بأن لهم جزاء اختياريًّا في أعمالهم، ويسمى بالكسب، وهو مناط الثواب والعقاب عند جميعهم، وأنهم محاسبون بما وهبهم الله من هذا الجزء الاختياري، ومطالبون بامتثال جميع الأوامر الإلهية، والنواهي الربانية، الدَّاعِيَة إلى كل خير، الهادية إلى كل فلاح، وأن هذا النوع من الاختيار هو مورد التكليف الشرعي، وبه تتم الحكمة والعدل.
نعم، كان بين المسلمين طائفةٌ تسمى بالجبرية ذهبتْ إلى أن الإنسان مضطرٌّ في جميع أفعاله اضطرارًا لا يشوبُه اختيارٌ، وزعمتْ أنْ لا فرق بين أن يحرك الشخص فكه للأكل والمضغ وبين أن يتحرك بقفقفة البرد عند شدته، ومذهب هذه الطائفة يعده المسلمون من منازع السفسطة الفاسدة، وقد انقرض أرباب هذا المذهب في أواخر القرن الرابع من الهجرة ولم يبق لهم أثرٌ، وليس الاعتقاد بالقضاء والقدر هو عين الاعتقاد بالجبر، ولا من مقتضيات ذلك الاعتقاد ما ظنه أولئك الواهمون.
الاعتقاد بالقضاء يؤيدُه الدليل القاطع، بل تُرشد إليه الفطرة، وسهلٌ على مَنْ له فكر أن يلتفتَ إلى أَنَّ كل حادث له سببٌ يُقاربه في الزمان، وأنه لا يرى من سلسلة الأسباب إلا ما هو حاضرٌ لديه، ولا يعلم ماضيها إلا مبدعُ نظامها، وأن لكلٍّ منها مدخلًا زاهرًا فيما بعده بتقدير العزيز العليم، وإرادة الإنسان إنما هي حلقةٌ من حلقات تلك السلسلة، وليست الإرادة إلا أثرًا من آثار الإدراك، والإدراك انفعالُ النَّفس بما يعرض على الحواس وشعورها بما أُودع في الفطرة من الحاجات، فلظواهر الكون من السلطة على الفكر والإرادة ما لا ينكره أَبْلَهُ، فضلًا عن عاقل، وإن مبدأ هذا الأسباب التي ترى في الظواهر مؤثرة إنما هو بيد مدبر الكون الأعظم الذي أبدع الأشياء على وفق حكمته، وجعل كل حادث تابعًا لشبهه كأنه جزاء له، خصوصًا في العالم الإنساني.
ولو فرضنا أن جاهلًا ضل عن الاعتراف بوجود إله صانع للعالم، فليس في إمكانه أن يتملص من الاعتراف بتأثير الفواعل الطبيعية والحوادث الدَّهْرية في الإرادات البشرية، فهل يستطيع إنسانٌ أن يخرج عن هذه السنَّة التي سنها الله في خلقه؟ هذا أمرٌ يعترف به طلاب الحقائق فضلًا عن الواصلين. وإن بعضًا من حكماء الإفرنج وعلماء سياستهم التجئوا إلى الخضوع لسلطة القضاء، وأطالُوا البيان في إثباتها، ولسنا في حاجة إلى الاستشهاد بآرائهم.
إن للتاريخ علمًا فوق الرواية عُني بالبحث فيه العلماءُ من كل أُمَّة، وهو العلم الباحث عن سير الأمم في صعودها وهبوطها، وطبائع الحوادث العظيمة وخواصها، وما ينشأ عنها من التغيير والتبديل في العادات والأخلاق والأفكار، بل في خصائص الإحساس الباطن والوجدان، وما يتبع ذلك كله من نشأة الأُمم، وتكوُّن الدول، أو فناء بعضها واندراس أثره.
هذا الفن الذي عدُّوه من أَجَلِّ الفنون الأدبية وأجزلها فائدة بناء البحث فيه على الاعتقاد بالقضاء والقدر، والإذعان بأن قوى البشر في قبضة مُدَبِّرٍ للكائنات ومصرِّف للحادثات، ولو استقلت قدرة البشر بالتأثير ما انحط رفيع، ولا ضَغُفَ قويٌّ، ولا انهدم مجد، ولا تقوض سلطان.
الاعتقاد بالقضاء والقدر إذا تجرد عن شناعة الجبر يتبعه صفة الجراءة والإقدام، وخلق الشجاعة والبسالة، ويبعث على اقتحام المهالك التي توجف بها قلوب الأسود، وتنشق منها مرائرُ النمور، هذا الاعتقاد يطبع الأنفسَ على الثبات، واحتمال المكاره، ومقارعة الأهوال، ويحليها بحلى الجود والسخاء، ويدعوها إلى الخروج من كل ما يعز عليها، بل يحملها على بذل الأرواح، والتخلي عن نضرة الحياة؛ كل هذا في سبيل الحق الذي قد دعاها للاعتقاد بهذه العقيدة.
الذي يعتقد بأن الأجل محدودٌ، والرزق مكفول، والأشياء بيد الله يصرفها كما يشاء، كيف يرهب الموت في الدِّفَاع عن حقه وإعلاء كلمة أمته، أو ملته، والقيام بما فرض الله عليه من ذلك؟ وكيف يَخْشَى الفقرَ مما ينفق من ماله في تعزيز الحق وتشييد المجد، على حسب الأوامر الإلهية، وأُصول الاجتماعات البشرية؟
امتدح الله المسلمين بهذا الاعتقاد مع بيان فضيلته في قوله الحق: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ ۗ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. اندفع المسلمون في أوائل نشأتهم إلى الممالك والأقطار يفتحونها ويتسلَّطون عليها، فأدهشوا العقول وحَيَّرُوا الألباب بما دوخوا الدول وقهروا الأُمم، وامتدت سلطتُهم من جبال بيريني الفاصلة بين إسبانيا وفرنسا إلى جدار الصين، مع قلة عدتهم وعددهم، وعدم اعتيادهم على الأهوية المختلفة، وطبائع الأقطار المتنوعة، أرغموا الملوك وأذلُّوا القياصرة والأكاسرة في مدة لا تتجاوز ثمانين سنة، إن هذا لَيُعد من خوارق العادات وعظائم المعجزات.
دمروا بلادًا، ودكدكوا أطوادًا، ورفعوا فوق الأرض أرضًا ثانية من القسطل، وطبقة أخرى من النقع، وسحقوا رءوس الجبال تحت حوافر جيادهم، وأقاموا بدلها جبالًا وتلالًا من رءوس النابذين لسلطانهم، وأرجفوا كل قلب وأرعدوا كل فريصة، وما كان قائدُهم وسائقهم إلى جميع هذا إلا الاعتقاد بالقضاء والقدر.
هذا الاعتقاد هو الذي ثبتتْ به أقدامُ بعض الأعداد القليلة منهم أمام جيوش يغص بها الفضاء، ويَضيق بها بسيط الغبراء، فكشفوهم عن مواقعهم، ورَدُّوهُم على أعقابهم.
بهذا الاعتقاد لمعتْ سيوفهم بالمشرق، وانقضَّت شهبها على الحيارى في هبوات الحروب من أهل المغرب، وهو الذي حملهم على بذل أموالهم وجميع ما يملكون من رزق في سبيل إعلاء كلمتهم، لا يخشون فقرًا ولا يخافون فاقة، هذا الاعتقادُ هو الذي سَهَّلَ عليهم حمل أولادهم ونسائهم ومن يكون في حُجُورهم إلى ساحات القتال في أقصى بلاد العالم، كَأَنَّما يسيرون إلى الحدائق والرياض، وكأنهم أخذوا لأنفسهم بالتوكل على الله أمانًا من كل غادرة، وأحاطوها من الاعتماد عليه بحصن يصونهم من كل طارقة.
وكان نساؤهم وأولادهم يتولون سقاية جيوشهم، وخدمتها فيما تحتاج إليه، لا يفترق النساء والأولاد عن الرجال والكهول إلا بحمل السلاح، ولا تأخذ النساءَ رهبةٌ، ولا تغشى الأولادَ مهابةٌ.
هذا الاعتقاد هو الذي ارتفع بهم إلى حد كان ذكر اسمهم يُذيب القلوب، ويُبدد أفلاذ الأكباد، حتى كانوا يُنصَرون بالرعب، ويقذف به في قلوب أعدائهم فيهزمون بجيش الرهبة قبل أن يشيموا بروق سيوفهم ولمعان أَسِنَّتهم، بل قبل أن تصل إلى تخومهم أطراف جحافلهم.
بكائي على السالفين ونحيبي على السابقين، أين أنتم يا عصابة الرحمة وأولياء الشفقة، أين أنتم يا أعلام المروءة، وشوامخ القوة؟ أين أنتم يا آل النجدة وغوث المضيم يوم الشدة؟ أين أنتم يا خير أُمة أُخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر؟ أين أنتم أَيُّها الأمجاد الأنجاد القَوَّامون بالقسط الآخِذون بالعدل الناطقون بالحكمة، المؤسسون لبناء الأمة؟ ألا تنظرون من خلال قبوركم إلى ما أتاه خلفكم من بعدكم، وما أصاب أبناءكم ومن ينتحل نحلتكم، انحرفوا عن سنتكم، وجاروا عن طريقكم فضلوا عن سبيلكم وتفرقوا فرقًا وأشياعًا، حتى أصبحوا من الضعف على حال تذوب لها القلوب أسفًا، وتحترق الأكباد حزنًا، أضحوا فريسة للأمم الأجنبية لا يستطيعون ذودًا عن حوضهم، ولا دفاعًا عن حوزتهم، ألا يصيح من برازخكم صائحٌ منكم ينبه الغافل، ويوقظ النائم، ويهدي الضال إلى سواء السبيل؟ «إنا لله وإنا إليه راجعون.»
أقول، وربما لا أخشى واهمًا ينازعني فيما أقول: إنه من بداية تاريخ الاجتماع البشري إلى اليوم ما وُجد فاتحٌ عظيم، ولا محارب شهير، نبت في أوسط الطبقات، ثم رُقِّيَ بهمته إلى أعلى الدرجات، فذَلَّتْ له الصعاب، وخضعت الرقاب، وبلغ من بسطة الملك ما يدعو إلى العجب، ويبعث الفكر لطلب السبب؛ إلا كان معتقدًا بالقضاء والقدر، سبحان الله! الإنسان حريصٌ على حياته شحيحٌ بوجوده على مقتضى الفطرة والجِبِلَّة، فما الذي يهوِّن عليه اقتحامَ المخاطر، وخَوْض المهالك، ومُصارعة المنايا، إلا الاعتقادُ بالقضاء والقدر، وركونُ قلبه إلى أن المقدر كائن ولا أثر لهول المظاهر.
أثبتتْ لنا التواريخ أن كورش الفارسي «كيخسرو»، وهو أول فاتح يُعرف في تاريخ الأقدمين؛ ما تَسَنَّى له الظفرُ في فتوحاته الواسعة، إلا لأنه كان معتقدًا بالقضاء والقدر، فكان لهذا الاعتقاد لا يهوله هولٌ، ولا توهن عزيمته شدةٌ، وإن إسكندر الأكبر اليوناني كان ممن رسخ في نفوسهم هذه العقيدة الجليلة، وجنكيز خان التتري صاحب الفتوحات المشهورة كان من أرباب هذا الاعتقاد، بل كان نابليون الأول بونابرت الفرنساوي من أشد النَّاس تمسكًا بعقيدة القضاء، وهي التي كانت تدفعه بعساكره القليلة على الجماهير الكثيرة، فيتهيأ له الظفر، وينال بغيته من النصر.
فنِعْم الاعتقادُ الذي يطهِّر النُّفُوس الإنسانية من رذيلة الجبن، وهو أولُ عائق للمتدنس به عن بُلُوغ كماله في طبقته أيًّا كانت، نعم، إننا لا ننكر أن هذه العقيدة وقد خالطها في نفوس بعض العامة من المسلمين شوائبُ من عقيدة الجبر، وربما كان هذا سببًا في رزيئتهم ببعض المصائب التي أخذتْهم بها الحوادثُ في الأعصُر الأخيرة، ورجاؤنا في الراسخين من علماء العصر أن يسعَوا جهدهم في تخليص هذه العقيدة الشريفة من بعض ما طرأ عليها من لواحق البدع، ويذكِّروا العامة بسنن السلف الصالح وما كانوا يعملون، وينشروا بينهم ما أثبته أئمتنا — رضي الله عنهم — كالشيخ الغزالي وأمثاله مِن أن التوكل والركون إلى القضاء إنما طلبه الشرع منا في العمل، لا في البطالة والكسل، وما أمرنا الله أن نهمل فروضَنا، وننبذ ما أوجب علينا، بحجة التوكل عليه، فتلك حُجة المارقين عن الدين، الحائدين عن الصراط المستقيم، ولا يرتاب أحدٌ من أهل الدين الإِسلامي في أن الدِّفَاع عن المِلَّة في هذه الأوقات صار من الفروض العينية على كل مؤمن مكلَّف، وليس بين المسلمين وبين الالتفات إلى عقائدهم الحقة التي تجمع كلمتهم، وترد إليهم عزيمتهم، وتنهض غيرتهم لاسترداد شأنهم الأول؛ إلا دعوة خير من علمائهم، وإن جميع ذلك موكولٌ إلى ذِمَّتِهم.
أما ما زعموه في المسلمين من الانحطاط والتأخُّر فليس منشأه هذه العقيدة (ولا غيرها من العقائد الإِسلامية)، ونسبته إليها كنسبة النقيض إلى نقيضه، بل أشبهُ ما يكون بنسبة الحرارة إلى الثلج والبرودة إلى النار، نعم، حدث للمسلمين بعد نشأتهم نشوةٌ من الظفر، وثمل من العز والغلب، وفاجأهم وهم على تلك الحال صدمتان قويتان: صدمة من طرف الشرق وهي غارة التتر من جنكيز خان وأحفاده، وصدمة من جهة الغرب وهي زحف الأمم الأوروبية بأسرها على ديارهم، وإن الصدمة في حال النشوة تذهب بالرأي، وتوجب الدهشة والسبات بحكم الطبيعة، وبعد ذلك تداولتْهم حكوماتٌ متنوعة، ووسد الأمر فيهم إلى غير أهله، وولي على أمورهم مَنْ لا يُحسن سياستَها، فكان حُكَّامُهم وأمراؤهم من جراثيم الفساد في أخلاقهم وطباعهم، وكانوا مجلبة لشقائهم وبلائهم، فتمكن الضعف من نفوسهم، وقصرتْ أنظار الكثير منهم على ملاحظة الجزئيات التي لا تتجاوز لذاته الآنية، وأخذ كل منهم بناصية الآخر، يطلب له الضرر ويلتمس له السوء من كل باب، لا لعلة صحيحة ولا داع قوي، وجعلوا هذا ثمرة الحياة، فآل الأمر بهم إلى الضعف والقنوط وأدى إلى ما صاروا إليه.
ولكني أقول — وحقٌّ ما أقول: إن هذه المِلَّة لن تموت ما دامتْ هذه العقائد الشريفة آخذة مأخذها من قلوبهم، ورسومها تلوح في أذهانهم، وحقائقها متداولة بين العلماء الراسخين منهم، وكل ما عرض عليهم من الأمراض النَّفسية والاعتلال العقلي، فلا بد أن تدفعه قوةُ العقائد الحقة، ويعود الأمر كما بدأ وينشطون من عقالهم، ويذهبون مذاهب الحكمة والتبصُّر في إنقاذ بلادهم، وإرهاب الأُمم الطامعة فيهم، وإيقافها عند حدها، وما ذلك ببعيد، والحوادثُ التاريخية تؤيده، فانظرْ إلى العثمانيين الذي نهضوا بعد تلك الصدمات القوية (حروب التتر والحروب الصليبية) وساقوا الجيوش إلى أرجاء العالم، واتسعت لهم ميادين الفتوحات، ودوخوا البلاد وأرغموا أنوف الملوك، ودانتْ لسلطانهم الدول الإفرنجية، حتى كان السلطان العثماني يلقب بين الدول بالسلطان الأكبر.
ثم ارجع البصر تجد هزة في نفوسهم وحركة في طباعهم أحدثها فيهم ما توعدتهم به الحوادثُ الأخيرةُ مِنْ رداءة العاقبة وسوء المنقلب: حركة سرت في أفكار ذوي البصيرة منهم في أغلب الأنحاء شرقًا وغربًا، وتألفتْ من خيارهم عصباتٌ للحق كتبت على نفسها نصرة العدل والشرع، والسعي بغاية الجهد لبَثِّ أفكارها، وجَمْع الكلمة المفترقة، وضَمِّ الأشتات المتبددة، وجعلوا من أصغر أعمالهم نشر جريدة عربية، لتصل بما يُكتب فيها بين المتباعدين منهم وتنقل إليهم بعض ما يُضمره الأجانبُ لهم، وإنا نرى عدد الجمعية الصالحة يزداد يومًا بعد يوم، نسأل الله تعالى نجاحَ أعمالها، وتأييد مقصدها الحق، ورجاؤنا مِن كرمه أن يترتب على حسن سعيها أثرٌ مفيدٌ للشرقيين عمومًا، وللمسلمين خصوصًا.