الفصل السادس والأربعون
نُقل إلينا وذكرت الجرائدُ خبر مجلسٍ انعقد في سراي توفيق باشا بالقاهرة، حضره وزراء الحكومة المصرية، ودُعي إليه شريف باشا ورياض وسلطان باشا وعمر باشا ولطفي باشا وخيري باشا وثابت باشا. وأغلب الجرائد الفرنسية المهمة أَتْبَعَت روايةَ الخبر بالثناء على رياض باشا وأتتْ من وصفه على أفضل ما يوصف به رجل في أُمته، ومما ذكرتْ من صفاته أنه أَقْوَمُ أميرٍ في الديار المصرية وأشدهم حرصًا على الاستقامة، وأنه أَبْصَرُ أهل بلاده بعواقب الحوادث التي أَلَمَّتْ بمصر وما تئول إليه، وكان يرى من بداية تلك الحوادث أنه سيكون مصيرُها إلى ما لا خير فيه للبلاد، وسكتتْ تلك الجرائدُ عما يتعلق ببقية أعضاء المجلس، وإننا نذكرُ الخبر أولًا ثم نعقبه بما تدعو خدمة الحق لذكره.
بعد انعقاد المجلس قام نوبار باشا وافتتح الكلام بخطابٍ وَجَّهَهُ إلى الحاضرين فقال: ماذا ترون من التدبير إذا فرضنا أن مدينة الخرطوم وبربر ودنقلا دخلت في حوزة محمد أحمد وأشياعه؟ وأي طريقة يُمكن الأخذُ بها لحفظ الأمنية وتقرير الراحة في مصر العليا (الصعيد)؟ فأعجب الحاضرون بالسؤال وظهرت على وجههم علائمُ الاستغرابِ لمفاجأته لهم بما لم يكونوا يتوقعونه، ثم أجابوه بصوتٍ واحد: أنْ لا سبيل إلى تأمين البلاد من خطر الفتنة إلا باستعمالِ القوة، فقال نوبار باشا: إنَّا نرومُ منكم التصريحُ بنوع القوة التي يجب استخدامُها (أي قوة إنجليزية أو مصرية)؟
فأجابه رياض باشا: إن تعيين القوة من خصائصكم وليس مِن شأننا أن نتكلم فيه، فأبدع في الجواب بعضُ الحاضرين (لا نعرفه وربما يكون من مُحِبِّي أوطانِهِم) وأحسن في التشبيه حيث قال: الذي نعرفه أن العجة لا تكون بدون بيض (العجة طعام يُصنع من البيض مع بعض النبات يُعرف اسمُهُ عند المصريين وأغلب العرب، فمادة هذا الطعام إنما هي البيض)، فأراد العضوُ المحترمُ أنه لو أُريد استخدام قوة فلا بد أن يكون جوهرها عساكر إنجليزية ولا بأس بإضافة بعض من الجنود المصرية لتكون ترسًا يدفع به في وجوه المحاربين وتنصب إليه قوته، فإن حصل العجز ودَعَت الضرورة للفرار أَمْكَنَ للجيوش الإِنجليزية أن تعود سالمةً، أو إذا أُضيف مصريون فلا بد أن يكونوا حمالين وخدمًا أو حرسًا وحفظةً لمن يكون معهم من ساداتِهِم (هذا ما أراد جناب العضو من تشبيهه البليغ).
بعد هذا قال رياض باشا: إنكم تسألوننا تعيين القوة ولكني أسألكم: ما هي القوة الموجودة عندكم وبأي حق يؤدى لكم ٤٨ ألف جنيه في كل شهر، أأنتم حكومة أم لا؟! أما شريف باشا فقال: إنه بذل جهده مدة طويلة في إرضاء الحكومة الإنجليزية بأنْ تُرسل جيشًا إنجليزيًّا إلى السودان (وهذا مما يقضي بالعجب) ولكنه عَلِمَ أَنَّ نوبار باشا أراد أنْ ينهي المسألة بإخلاء الأقطار السودانية، فقال نوبار باشا: إن المباحثة خرجتْ عن موضوعها وتحولتْ عن وجهها، ولكني أذكر بالأعضاء المجتمعين بأنهم ما طالبوا إلا لإبداء آرائهم فيما يجب العمل به.
فأجابه رياض باشا: إن لكم مجلس شورى فكان أحق أن تذاكروه، وإن للآن لا نعرف سببًا لاستدعائنا مع وجود ذلك المجلس، فحاول نوبار باشا دفع ذلك بقوله: إن مجلس الشورى ليس من خصائصه النظر في مثل هذه المسائل، فقال رياض باشا: إنه لا يُرجى إصلاحٌ ما دام العمل جاريًا على ما وضعه اللورد دوفرين مما سماه نظامًا، وإنه لا ثقة له بأصل من أُصُول ذلك النظام وليس في الإمكان إجراءُ ولا واحد منها، وإن الأغلاط التي كانتْ منشأً للضعف والاختلال لم يرتكبها إلا دولةُ الإنجليز، وإن ما نراه من الفوضوية وارتكاب المنكَرَات وكثرة التعدِّي والسرقات لم تكن له علة إلا السياسة الإِنجليزية، فعلى إنجلترا أن تُعالج هذا الداء وليس ذلك علينا، ولقد قُلْتُ هذا مرارًا وبلغته للورد دوفرين وشريف باشا، وكنت أَوَدُّ أنْ أرى اللورد دوفرين مرة أُخرى لأذكره بما جرى من الحديث بيننا وأعرض عليه مصره المنتظمة، إلا أن شريف باشا أتى بما لم يكن يرجى منه، حيث دافع عن نظام دوفرين بقوله: إن الإصلاح يحصل تدريجيًّا، كأنه يريد بما يقول أن ما حوته شريعة اللورد دوفرين يصلح أن يكون شريعة يعود من العمل بها على أهالي القطر المصري شيء من الفائدة، وما كنَّا نظن أن مثل شريف باشا يرى مثل هذا الرأي بعد وصول الأمر إلى ما وصل إليه.
وليس بعجيبٍ أنْ يصدر مثلُ هذا الكلام من رياض باشا، فعَهْدُنا به رجلٌ ذو حياة وطنية وإحساس بما يلزم لحفظ حياته هذه، وهي أشرف أنواع الحياة، فإن تكلم فإنما ينثر الكلام منه إرادة ناشئة عن فكر تُثيره قوةٌ حيوية، وكان أملُنا أنْ يوجَد مِن طرازه كثيرٌ في الأقطار المصرية يصدعون بما يصدع به خُصُوصًا بعدما نزلتْهم هذه الحوادث المُرِيعة ومثلتْ لهم مستقبل بلادهم في حاضرها، ولقد أدى الرجل حقًّا واجبًا عليه والقائم بأداء الفريضة قد يُشكر إذا أهملها المكلفون بها حتى صارتْ عندهم من نوافل الأعمال أو في منابذ المكاره، ولكن يأخذنا العجب من بقية أعضاء هذا المجلس الموقَّر كيف مجمجوا أو تلكئوا أو سكنوا، وكيف وسِعَتْهُمُ القدرة على إمساك ألسنتهم عن التعبير بما في ضمائرهم.
إنا لا نعلم أحدًا منهم تَجَنَّسَ بالجنسية الإِنجليزية وحاشا جميعهم من ذلك، ولا يختلج في صدورنا أَنَّ مصريًّا أو تركيًّا أو شرقيًّا — أيًّا كان — يميل ميلًا صادقًا إلى تسلُّط الأمم الأجنبية على بلاده، أو يخلص في خدمة الإنجليز ومُجاراة رغائبهم إخلاصًا صحيحًا، خصوصًا أولئك الأمراء المصرح بأسمائهم، بل لو كُشف الحجاب عن قلب كل واحد منهم لرأيناه ذائبًا من الأسف في ما حل ببلاده وفانيًا من الحزن على ما نزل بوطنه من تردُّد جيوش الأجانب بين أطرافه، ومضمحلًّا من الكدر على ما عَقَّبَه حلولُ القوة الأجنبية من انقباض الأنفُس وانقطاع الآمال وعموم الاختلال وشمول الفقر والفاقة وبطلان حركة الأعمال.
بل لو شاء القلم أن يعبر عن حالة الأمير منهم عندما يطرق آذانَهُ أخبارُ التصرف الإنجليزي في إدارات حكومته وكف أيدي الموظفين من أبناء ملته من أداء ما يجب عليهم لبلادهم، وبسطة أيدي أولئك الأجانب في الإنفاق من ماله ومال عياله وأقاربه وأحبائه وجميع مواطنيه بدون حق شرعي ولا مصلحة وطنية، أو عندما يرى غنيًّا أعدم وعزيزًا ذل وكاسيًا عري وحِبًّا أشرف على الهلاك من ضغط المظالم، ولو نهضت قوة البيان لشَرْح ما يظهر على وجهه من ألوان الكمودة، وفي أعضائه من أنواع الرعدة، وما ينبض به قلبه وما يُحدثه فكره من هواجس الهموم وخواطرِ الغموم؛ لَمَا استطاع القلمُ تعبيرًا، ولَوقفت قوة البيان دون الإتيان على قليل من كثير.
هذا هو الذي لا يبرأ منه أحدٌ منهم ولو أقام على البراءة ألف برهان، كيف لا وهم يعلمون أن عزتهم وسيادتهم وما بلغوا من مراتب الشرف والرفعة؛ إنما كان بوصف قيامهم على أعمال البلاد، وأهليتهم لاستلام مهامها واستعدادهم لإدارة شئون الرعية؟ وهم على يقين بأنه لو ساد في ديارهم أجنبيٌّ فلا داعي يبعثه إلى حفظ ما لهم من الشرف والسيادة، بل له من البواعث القوية ما يحمله على تذليلهم وإهباطهم إلى أَحَطِّ المنازل ليخلفهم على مثل ما كانوا عليه.
فما الذي أمسك بألسنتهم عن الكلام؟! هل الخوف؟ فمِن أي شيء يخافون؟ وما الذي يخشونه على أرواحهم أو على بلادهم إذا قالوا حقًّا وثبتوا عليه؟ ماذا يصنع بهم الإنجليز إذا علموا صِدْقَهم في محبة أوطانهم واتفاق كلمتهم على الرغبة في إنقاذها؟ هل علموا من عدل الإنجليز أنهم يؤاخذون النَّاس على إبداء آرائهم إذا دُعُوا إلى المشورة؟ إن كان هذا فما يبتغون من الحياة؟ هل ظنوا أن الإنجليز إذا أحسوا باتفاق في الآراء على مصلحة من مصالح البلاد وإن كانت في خروجهم من مصر يستطيعون تحت أعيُن أوروبا أن يوصلوا ضررًا إلى المتفقين وهم أمراء البلاد وأعيانها؟
إن رياض باشا وحده لم يخش من إظهار فكره، فماذا كان يضر الأمراء الوطنيين لو عَزَّزُوه أو كَاتَفُوه على مِثْل رأيه؟ قد علم العقلاء من كل أُمة أَنَّ أشباه هذه الحوادث تكونُ سببًا في اجتماع الكلمة واتحاد الرأي على مصادمتها وما نراه اليوم من سعادة الأُمم العظيمة، إنما كان منشؤه ملمات الشقاء التي أَنْسَتْهُمُ الضغائنَ والأحقاد وحملتهم على ترك المنافرات الخصوصية، وأخذ كل بيد أخيه لدفع ما يُخشى منه على بناء الأُمة أن ينصدع وأساس المِلَّة أن ينقلع، وما سمعنا من أمة اتفقت فخابت ولا ملة افترقت فنجحت.
ألا يَعلم أمراؤنا أن أوروبا واقفةٌ بالمرصاد لإنجلترا، تترقب لها الزلل وتتمنى لها الغلط، وأن جميع الأسماع في الممالك الأوروبية مُصْغِيَةٌ لكلمة يتفق عليها وجهاء المصريين وهي: إنا قادرون على إصلاح شئوننا ولا نريد قوة أجنبية تحل في ديارنا.
امتدت أعناقُ السياسيين في أوروبا وانحنتْ إلى المصريين ليسمعوا منهم كلمة حتى كَلَّتْ رقابُهُم والتوتْ أعصابهم والمصريون يشحون بها عليهم، ماذا ينتظر الأمراء المصريين في قول الحق؟ إن الأمم لا تطلب منهم إشهار السلاح ولا بذل الأرواح، ولكن تطلب منهم قولًا صريحًا لا يجلب إليهم ضررًا ولا يقرِّب منهم خطرًا، لا حول ولا قوة إلا بالله.