الفصل الثامن والأربعون
دخل الإنجليزُ مصرَ فزعموا أن ما كان موجودًا من الجُند الأهلي نفخت فيه روح العصيان فلا يصلح للأعمال العسكرية فطردوه، ثم اختاروا من الأهالي جُنْدًا جديدًا في عدد قليل واستلم الرئاسة عليه ضباطُهم البارعون، وبعد أشهُر أثنَوا عليه بحسن النظام وسرعة النجاح وطنطنتْ بالإطراء عليه جرائدُهم، ولم نلبث بعد هذا أن رأيناهم يسارعون إلى طرد الجند الجديد، فهموا بذلك مرارًا مع العزم على عدم استبداله بآخر من أبناء الوطن، وكلما صَدَّتْهم بعضُ الموانع السياسية عن هممهم، كتموا أمرهم زمنًا ثم عادوا للإشارة إليه تعلُّلًا بما ينسبونه إلى بعض العساكر وهو من دسائسهم، وآخر الأمر خفتتْ أصواتهم وأَحَسُّوا بعجزهم عن الاستبداد بطرد الحامية الوطنية وعلموا أن لا بد فيه من مشورة الدول.
في هذه الأيام رغبوا إلى الدول في عقد مؤتمر للنظر في قانون التصفية وتحويره ووضع نظام للمالية المصرية يخفف عنها بعض أثقالها، فصَرَّحُوا في لائحتِهم المرسلة إلى حكومات أوروبا بضرورة طرد الجند الوطني رعايةً للاقتصاد وبلزوم تخفيض فائدة الديون المصرية.
إن الإنجليز من ست سنوات جعلوا بعض الضيق في المالية المصرية ذريعةً للانقلاب العظيم الذي حصل في مصر، وألزموا الدولة العثمانية بمجاراتِهم في ذاك الانقلاب، ودافعوا عن الدائنين، وزعموا من المحال تنقيص شيء من الفوائد، وطلبوا من الحكومة المصرية إذ ذاك تقليل عدد حاميتها ليتوفر من النقود ما يصرف لحقوق الدائنين، واليوم عطفوا على المصريين (عطفة الأب الرحيم) وبسطوا أيديهم إلى الدول يلتمسون مساعدتها لتخفيف الفائدة مع محو حاميتهم الوطنية، أليست البلاد المصرية كسائر بلاد العالم تحتاج إلى حامية تحفظ حدودها من الخارج وتصون داخلها من الغوائل التي لا يأمن طروقها حكومة من الحكومات، إن في تلك القسوة الأولى والمرحمة الثانية لَسرًّا عظيمًا.
للإنجليز في مصر مطامعُ من زمن قديمٍ يعدون سلطتهم عليها من ضروريات شوكتهم في الهند، وفي خلدهم أن المصريين لو كانت لهم ثروة مالية وقوة عسكرية عظيمة فإنهم يمانعون فيما يريدون ببلادهم، فضيقوا على المالية في تلك الأوقات وألجئوا الحكومة لتمزيق قوتها العسكرية ليحصل الضعفُ في القوتين المالية والجندية، فتمد لهم طريق ما طمحوا إليه.
وكان هذا التدبير سببًا في الانقلاب الذي تبعتْه هذه الحوادث الهائلة، وبعدما فتح لهم بضعف الحكومة سبيلُ المُدَاخَلة في مصر طفقوا يسعون بما جُبلوا عليه من الهوينى في المضيِّ إلى مقاصدهم لإيجاد عنوان غير التملُّك يعنون به إقامة عساكرهم ومأموريهم في تلك البلاد زمنًا طويلًا، ويكون وضع ذلك العنوان برأي الدول تملصًا من الوعد الذي وعدوها به، مع ترقُّب حوادث السياسة في أوروبا لعل حادثة منها تساعدهم على إبدال العنوان بما هو المطلوب لهم، ورأوا من أحسنِ الوسائل لدعوة الدول إليهم عرضُ المسألة المالية.
ولَمَّا كان من المحتوم في آرائهم بقاءُ عساكرهم في الديار المصرية، فلا بد من طلب وسيلةٍ لطرد الجند المصري حتى تكون الحاجةُ إلى عساكرهم قائمةً، هذه طريقةٌ ربما خفيتْ على المصرين وغَفَلَ عنها كثيرٌ من الأوروبيين إلا أنها من الطُّرُق المتعارفة عند الإنجليز، وهي التي سلكوها في البلاد الهندية ونالوا بسلوكها السلطةَ المطلقةَ على تلك الأقطار الواسعة بدون سفك دماء غزيرة ولا مقاومة فتن شديدة.
دمر الإنجليز (دخلوا بلا استئذان) على الهنديين في أراضيهم وانبثُّوا بينهم، فتمكنوا من تفريق كلمة الأمراء وإغراء كل نواب أوراجا بالاستقلال والانفصال عن السلطنة التيمورية، فتمزقت المملكة إلى ممالك صغيرة، ثم أغروا كل أمير بآخر يطلب قهره والتغلب على ملكه فصارت الأراضي الهندية الواسعة ميادين للقتال، واضطر كل نواب أوراجا إلى المال والجنود ليدافع بها عن حقه أو يتغلب بها على عدوه.
فعند ذلك تقدم الإنجليز بسعة الصدر وانبساط النَّفس ومَدُّوا أيديَهم لمساعدة كل من المتنازعين وبسطوا لهم إحدى الراحتين ببدر الذهب وقبضوا بالأخرى على سيف الغلب، بدأوا قبل كل عمل بتنفير أولئك المُلُوك الصغار من عساكرهم الأهلية ورموها بالضعف والجبن والخيانة والاحتلال، ثم أخذوا في تعظيم شأن جيوشهم الإِنجليزية وقوادها وما هم عليه من القوة والبسالة والنظام، حتى اقتنع كل نواب أوراجا بأنْ لا ناصر له على مغالبه إلا بالجنود الإِنجليزية، فأقبل الإنجليز على أولئك السذج يضمنون لكلٍّ صيانةَ ملكه وفوزه بالتغلب على عيره بجنود منتظمة تحت قيادة قُوَّاد من الإنجليز، ويكون بعض الجنود من الهنديين وبعضها من البريطانيين، وما على الحاكم إلا أن يؤدي نفقتها، ثم خلبوا عقول أولئك الأمراء بدهائهم وبهرجة وُعُودهم ولِين مقالهم، حتى أرضوهم بأنْ يكون على القُرْب من عاصمة كل حاكم فرقةٌ من العساكر؛ لتدفع شر بعضهم عن بعض، وصار الإنجليز بذلك أولياء المتباغضين، وسموا كل فرقة من تلك الجنود باسم يُلائم مشرب الحكومة التي أعدوها للحماية عنها: ففرقة سموها «عمرية»، وأخرى سموها «جعفرية»، وغيرها سموها «كشتية»، إرضاءً لأهل السنَّة والشيعة والوثنيين.
وفي أثناء استغلالها يؤسسون بها قلاعًا حصينة وحصونًا منيعة كما يفعلون ذلك في ثكن (أماكن إقامة العساكر) عساكرهم على أبواب العواصم الهندية، وفي خلال هذا يفتحون للأمراء أبوابًا من الإسراف والتبذير ويُقرضونهم ويقتضون قرضهم بالقيام على أراضٍ أُخرى يضمونها إلى الأولى، ثم يحضون نار العداوة بين الحكام لتنشب بينهم حروبٌ فيتداخلون في أمر الصلح فيُجبرون أحد المتحاربين على التنازُل للآخر عن جزء من أملاكه ليتنازل لهم الثاني عن قطعةٍ من أراضيه، وهم في جميع أعمالهم موسومون بالخادم الصادق والناصح الأمين لكلٍّ من المتغالبين.
وبعد هذا فلهم شئونٌ لا يهملونها في إيقاعِ الشقاق بين سائر الأهالي؛ لتضعف قوة الوحدة الداخلية ويُخرِّب بعضهم بيوت بعض، حتى إذا بلغ السيرُ نهايته واضمحلَّت جميع القوى من الحاكم والمحكوم وغلبت الأيدي فلا يستطيع أحدٌ حراكًا؛ ساقوا الحاكم إلى المجزرة بسيوف تلك العساكر التي كانتْ حاميةً له واقيةً لبلاده، وكانت تشحذ لجز عنقه من سنين طويلة وينفق على صقالها من ماله ثم خلفوه على ملكه.
وكانوا يميلون بقوتهم إلى أحد أعضاء العائلة المالكة ليطلب الملك فيخلعون المالك ويولون الطالب على شريطة أن يقطعهم أرضًا أو يمنحهم امتيازًا، فيحولون الملك من الأب للابن ومن الأخ لأخيه ومن العم لابن أخيه، وفي الكل هم الرابحون. هذا سيرهم في الهند وهو على بعد من مراقبة أوروبا، ما فاجئوا أحدًا بحرب وما اختطفوا ملكًا بقوة مغالبة، بل ما أعلنوا سيادتهم على مملكة صغيرة ولا كبيرة إلا بعدما أيقنوا أنْ لا قوة لحاكمها ولا أهليها ولا بما تطرف به أجفانُهم.
أما المؤتمر فالداعي إليه أن العدوان في هذه الأزمان لا يأتيه المعتدون كما كان في الأحقاب الخالية مشوه الوجه منكَر الصورة يعرفه الذكي والغبي، بل مَن أراد عدوانًا فلا بد أن يحفَّه بمواكب من الأدلة وحفال (جمع) من البراهين، وهو ما يعبرون عنه بالحقوق والمصالح. وما أصعب الوقوف على كنه العدوان وهو في هذه الحيلة وتلك الهيئة الجميلة.
يريد الإنجليزُ عقد المؤتمر ويرغبون قصر المداولة فيه على المسألة المالية ليضمنوا ديون القطر المصري ويكفلوا للدائنين أداءَ حقوقهم ويأخذوا على أنفسهم عهدةَ الإنفاق على الإدارات المصرية مدة من الزمان، لترخص لهم الدول الإقامة في وادي النيل إلى أمد، فيكون تفويض الدول حجة لهم في التصرُّف وإدارة شئون الحكومة المصرية ما دام السلم مظلًّا بلاد أوروبا، فإذا حدث حادثُ حرب في الدول الأوروبية — وما هو ببعيد الوقوع — تربعوا في تلك البلاد وأناخوا بكلاكلهم وضربوا بجرانهم على أراضيها وألقوا عصاهم، هذا سر شفقة الإنجليز على المصريين وهو سر رغبتهم في وقوف المؤتمر عند شئون المالية.
هذه المصيبةُ العُظمى والداهيةُ الدهماء التي تتحفز لتنقضَّ على المصريين، هل تمس بحفيفها جانب ألمانيا؟ كلا؛ فإن منافع ألمانيا الحقيقية لا تعلُّق لها بالمسائل المصرية وهي في الشغل بما هو أهم منها، وليست دولة أستراليا بأقرب المصائب المصرية من ألمانيا، على أن كلًّا من الدولتين ليس في استطاعتهما تأييدُ فكرها بالعمل، لو مست الحوادث المصرية شيئًا من مصالحها؛ فإن مواقع الدولتين لا تساعدهما على الإضرار بدولة الإنجليز، أما إيطاليا فهي ساكنة الجأش بما تؤمل نوالَه في إفريقيا بمساعدة إنجلترا، نعم، لهذا السيل الجارف تدفق على بيت محمد علي باشا، فيخشى على أركان ذلك البيت لو لم يتدارك أمره!
أما الدولة العثمانية، فلو حولنا النظر عن حقوقها الثابتة في الأراضي المصرية من وجوه كثيرة، فليس يخفى علينا أن الولاية على تلك الأراضي هي الركن الأعظم للسلطة العثمانية في سوريا، وقسم عظيم مما يتصل بها من آسيا الصغرى وفي الحجاز واليمن، فمن المفروض على العثمانيين أن يبذلوا وسعهم لصيانة مصر؛ دفاعًا عن حقوقهم المقررة وحفظًا لشوكتهم في معظم ممالكهم، ولا يسوغ لهم شرائع الملك أن يفرطوا في المسألة المصرية لا في جزئيٍّ منها ولا كلي، فإن مصر عقدةٌ تتصل بها أطراف السلطنة العثمانية، فإذا انحلتْ، فقد انحلت — والعياذ بالله — سائرُ العقد.
ليس لعثمانيٍّ أن يتوسد وسادة السيادة البسماركية الناعمة؛ فإن الحاجات الطبيعية والدواعي الجوهرية هي الحاكمةُ على الأُمم، ولا اعتبار في السياسة بالأطوار العارضة، ربما يهم بسمارك أن يشتري بمصلحة العثمانيين وداد الإنجليز لتأييد سياسته وترك فرنسا منفردةً بلا حليف، وله أنْ يلقي بمصلحة العثمانيين في أيدي الروس إذا مست الحاجة ليدفع عن نفسه شرًّا يتوقعه، وليس لبسمارك أدنى غاية في الاتصال بالعثمانيين إلا بهذا المقدار يفدي بهم منفعةً من منافعه، ومَن نظر إلى أحوال الأُمم بما تقتضيه طبائعُها؛ حكم بذلك حكمًا قاطعًا.
نعم، من الدول دولة فرنسا كانتْ لها مزايا في أرض مصر أشرفتْ على الزوال وليس بالسَّهل علينا ضياعُها، ولها أملاكٌ واسعة فيما وراء البحر الأحمر ولا تُصان سلطتها على تلك الأملاك إذا نشبت أظافرُ الإنجليز في أحشاء مصر بأي اسم كان وتحت أي عنوان؛ فأصول السياسة الفرنسية لا تسمح للفرنسيين بالتساهُل في المسائل المصرية.
ودولة الروس تسابق دولة إنجلترا في النصر والغيب بشرقي آسيا، وتُنافس الألمان في القوة بأوروبا، ولها مع ألمانيا مزاحماتٌ خفية ثابتة في عناصر الأمتين لا يزيلها هذا التآلفُ الظاهري؛ فقد يكون من أحكام سياستها الانضمام إلى دولة فرنسا لمضايَقة إنجلترا في البلاد المصرية، بل النظر في طبيعة حال الأمتين يقضي بلزوم اتحادهما في المشكلات الأوروبية أيضًا، وربما تكون هذه المسألة بداية الارتباط بين هاتين الدولتين.
ولعل هذه الفرصة لا تفوت العثمانيين ولا تحجبهم الحوادث الماضية عن إدراك هذه النكتة، وهي أن الروسيين هم أشدُّ النَّاس حاجة إلى الاتحاد مع الدولة العثمانية في هذه الأوقات؛ لما فُتح لهم من أبواب للغنم في آسيا، ويرون الإلف مع العثمانيين أعظم عضدًا لهم في نيل مطامحهم بتلك الأقطار، بما للسلطان من المنزلة العليا في قلوب مسلميها، ولا تأخذ العثمانيين رجفة من إرعاد الإنجليز وإبراقهم؛ فليس لهم سلاح يشهرونه على الدولة العثمانية سوى الترهيب، ومن المحال أن يفاتحوها بحرب وإلا تقلصت سلطتُهم عن البلاد الشرقية بأسرها، فإذا ثبتتْ الدولة في مطالبها واشتدتْ في إرجاع حقوقها لجأ الإنجليزُ للخضوع والاستكانة إليها، وهذا من البديهيات الجلية عند كل مَن وقف على أحوال الإنجليز في الهند وعلى مكانةِ السلطان العثماني في قلوب الهنديين عمومًا، والحكم لله يفعل ما يشاء.