الفصل الثامن والخمسون
إذا صادفتَ ظالمًا أو قابلت فاجرًا فلا تقل له أنت ظالم أو فاجر!
وردت إلينا من حضرة الفاضل مولوي عبد الغفور شهباز بمدينة كلكتا وهذا نصها:
«ليس الأدب كما يظن بعض النَّاس مجموعة قصص تُتلى للفكاهة أو أساطير تنقل في المسامرات، أو منظوم من القريض يمتاز بحُسن الاستعارة ورِقَّة التشبيه، مع مراعاة المحسنات اللفظية والمعنوية؛ من التورية والجناسات ونحوها من فنون البديع، أو منشآت ورسائل تتضمن إطراءً في المدح أو مغالاة في القدح، فإن جميع هذا بمجرده لا يتصل بمعنًى من معانِي الأدب، وإنما الأدبُ في كل أمة هو الفن الذي يُقصد به تهذيب عاداتها وتلطيف إحساسها وتنبيهها إلى خيرها لتجتلبه وإلى ما يخشى من الشر فتجتنبه.
فالأدباء في الحقيقة هم ساسة أخلاق الأمم، بل هم أجنحتها، تطير بهم إلى ذروة فلاحها، فإنهم بما يعلمون من طرق التفهيم يمكنهم أن يقربوا إلى العقول ما يبعد عن إدراكها، ويسهِّلوا على الأذهان ما يعسر عليها النظر فيه، ويعبروا عن المعنى الواحد بالطرق المختلفة فتستفيد منه العامة ولا تنكره الخاصة، فيأخذون على الظالم ظُلمه ويَعِظُونه بسوء عواقب الظلم، وينكرون على الفاجر فجوره ويحذرونه مغبة الفجور، حتى يردوا كُلًّا عن غيه بما يرضون من طبعه بدون أن يقولوا له: إنك ظالم أو فاجر.
وإذا رأوا في أمتهم عوائدَ يأباها سليمُ الذوق أو وجدوا منها أخلاقًا وأعمالًا لا تنطبق على شريعة الفضل وقوانين الشرع؛ عمدوا إلى تغيير العوائد وتطهير الأعراق، وأخذوا في ذلك سُبُلًا متنوعة في إنشائهم: تارة بالقصص والحكايات التي تمثل شناعة الرذيلة وبهاء الفضيلة وما آل إليه أمرُ المتدنسين بالأُولى وما ارتقى إليه حالُ المتحلِّين بالثانية، وتارة بقريض الشعر يخيلون فيه ما يحرك الهِمم ويبعث الأفكار وينبه خواطر الكمال وإحساسات الشرف الصحيح، لا ما يوقظ الشهوة ويقوِّي الغرور ويُخرج الأنفسَ عن أطوارها، والأخذ به من وجهه والدخول إليه من بابه هو الذي صعدتْ به الهند الأولى إلى أوج المجد، وبلغ به العرب أقصى غايات الرفعة، وهو الذي وصل بالأُمم الأوروبية إلى ما وصلوا إليه مما لا يخفى على كل ذي بصيرة.
وإنا نتأسف على ما نراه من أدباء المسلمين وشعرائهم، فإنهم يقصرون منشآتهم وأشعارهم على ما يكون عدًّا للصفات، إما مذمومة وإما محمودة ونِسبتها إلى شخص يريد ذمه أو مدحه، ويحصرون رواياتِهم في حكايات مضحكة وقصص هزلية وبعض تواريخ ماضية بدون أن يُلاحظوا تأثير ما يكتبون وما ينقلون في أفكار الأمة وأطوارها.
ورجاؤنا فيهم أن يسلكوا مسالك أدباء الأمم المتقدمة أو المعاصرة لهم؛ حتى يكون للأمة الإِسلامية نصيبٌ من فوائد ذكائهم وفطنتهم وسعة بيانهم وطلاقة ألسنتهم، وأن يأخذوا في منشآتهم وأشعارهم طريقًا يُنهضون فيه الهمم الخامدة ويحركون القلوب الجامدة، ويحيون مكارم الشيم، ويوردون الأمة مورد سابقيها من الأمم، وإنا نرى بداية هذا المنهج الجديد في بلادنا، ونسأل الله حسن ختامه.»