الفصل الثاني والستون
هذا أمرٌ طبيعيٌّ وحكم بديهيٌّ متى كانت الغارة على الأمة، نعم يسهل للقوة الأجنبية أن تتغلب على أُمَّةٍ عظيمة بدون تناحُر إن كان لهذه الأمة حاكمٌ أو رئيس روحيٌّ تجتمع عليه قلوبُها، وتدين له رقابها، لمنزلة له في أفئدة أبنائها، ولِمَكَان آبائه من الكرامة في نفوسِهم، فلا تحتاج القوةُ الغالبة إلا لإيقاع الرعب في قلبه، فيجبن ويقبل ما تحكم به، أو نصب حبالة الحيل له فتخدعه بالأماني والآمال، فيُذعن لما تقضى به، فإذا خضع للقوة الغريبة خضعت الأمة تبعًا له.
ولهذا ترى طلاب الفتح وبُغاة الغلب ينصبون قبل سوق الجيوش وقواد الجنود على قلوب الأمراء وأرباب السيادة في الأمة التي يريدون التغلب عليها فيخلعونها بالتهديد والتخويف، أو يملكونها بالخدعة وتزيين الأماني، فينالون بغيتهم ويأخذون أراضي الأمم.
وهذا الطَّرِيق هو الذي سلكه الإنجليز مع السلطان التيموري في الهند، ولولا ما كان للهنديين من عُقدة الارتباط بسلطانهم التيموري، وقبض الإنجليز أول الأمر على تلك العقدة؛ لما تيسر للبريطانيين أن يخضعوا الأمم الهندية في أحقاب طويلة.
هذه قبائلُ الأفغان عندما انحلتْ ثِقَتُها بأميرها، وصار الأمرُ إلى الأمة، قامتْ كل عشيرة، بل كلُّ فرد للدفاع عن نفسه، بعدما تمكنتْ عساكرُ الإنجليز في قلاعهم وحصونِهم، واستولتْ على قاعدة مُلْكِهِمْ، وفتكوا بالعساكر الإِنجليزية وهزموا قواتها وأجلَوها عن بلادهم، وهي ستون ألفًا من الجيوش المنتظمة، المسلحة بأحدث الأسلحة، واضطر الإنجليز أن يتركوا تلك البلاد لأهلها.
لا ريب أنه يسهل على الإنسان أن يأخذ شخصًا واحدًا وأشخاصًا محصورين بالترغيب والتهديد، ويتيسر له أن يقف على طباعهم، ويدخل عليهم من مواقعِ أهوائهم، ويأتيهم من أبواب رغائِبِهم، لكن يتعسر بل يتعذر عليه أن يأخذ أُمة بتمامها، وعقولها مختلفةٌ عليه ونفوسها في وحشة منه، إلا بالإبادة والتدمير.
من هذا نجد الملوك العظام لا يرهبون الاشتباك في حرب مع أمثالهم بل ومَنْ هو أشدُّ منهم قوة، ولكنهم يفرقون، بل تذهب أفئدتُهم هواءً، إذا أحسوا بميل الأُمة عنهم، وما هذا إلا لأن قوة المغالبين داخلةٌ تحت الضبط، وأما آحادُ الأمم وقُواها فلا تُضبط ولا يمكن مقاومتُها إذا تغاضت وشحت بنفسها عن الذل لسواها.
إن الأمراء كما يكونون في دور من أدوار الأمة قوًى فَعَّالة لنموها وعلوها وعظمتها واشتداد عضدها، كذلك يكونون في بعض أطوارها علةً فاعلةً في سُقُوطها وهبوطها وانحلالها، وإنا نخاف — ولا حول ولا قوة إلا بالله — أن يكون أمراؤنا والأعلون منا آلةً لاضمحلالنا وفنائنا؛ لما غلب عليهم من الترف والانهماك في اللذائذ، والانكبابِ على الشهوات، مع سقوط الهِمَّة، وتغلُّب الجبن، والحرص والطمع على طباعهم — إنا لله وإنا إليه راجعون.