الفصل السبعون
الركون إلى العدالة والسكون إلى الأمن والراحة؛ من الأمور الطبيعية في الإنسان، وهذه حقيقةٌ أدركها الجنس الإنجليزي الشريف، لهذا تراه يجوب الأقطار ويتقلَّب في الأمصار حاملًا على أحد عاتقيه علم العدالة وعلى العاتق الآخر لواء الأمن والراحة، رجاء أنْ يملك أهواء العالم أجمعين، وينال الكرامة في جميع أنحاء المسكونة.
إلا أنا نعجب غاية العجب لجفلة النَّاس من ألوان هذه الأعلام، وفزعهم من الاستظلال بظلها، ومن تفيأه يومًا فزع للانتباذ عنه في آخر ولو لفحه لهيب جهنم، هؤلاء الأيرلنديون من جنس الإنجليز وعلى دينهم، وينطقون بلغتهم ولا يوجد بينهم وبين سُكَّان بريطانيا العظمى فرقٌ إلا فيما لا يُعدُّ الاختلاف فيه خلافًا حقيقيًّا من عقائد المذهب الكاثوليكي والبروتستنتي، ويصح أن يقال: إنه خلاف في فروع الدين لا في أصوله.
وجزيرة أيرلندا تعد جزءًا أصليًّا من مملكة بريطانيا، وسكانها يعدون عنصرًا داخلًا في قوام الأمة، وعليهم بسط جناح المرحمة الإِنجليزية من أجيال طويلة حتى حسب الجميع أمَّة واحدة، ومع ذلك ترى آلافًا مؤلفةً من الأيرلنديين يهجرون أوطانهم ويهاجرون إلى أمريكا ويتخذونها سكنًا لهم؛ فرارًا من عدالة الإنجليز.
وكل يوم ترى المحترقين بنيران الحمية منهم يخاطرون بأنفسهم في أعمال يقصدون بها هدم السلطة الإِنجليزية وإهلاك القائمين بها، وفي كل يوم يخدون الأخاديد ويدفنون المواد الملتهبة (الديناميت) في أماكن مختلفة من مراكز الحكومة وطرق مسير الكافة من الإنجليز، تارة تحت قصر الملكة، وأخرى في مقاعد الوزراء، وطورًا تحت دار الندوة، وآخر في جسور السكة الحديدية؛ ليدمروا كل مكان بمن يُقِلُّه.
وزاد ذلك حتى أفزع الحكومة في هذه الأيام، وما من مدة تمضي إلا وتسمع بمواقع بين عساكر المحافظة الإِنجليزية في أيرلندا وبين الأهالي، ومنها ما حدث في ثامن هذا الشهر (يونيو) من معركة بين العساكر والعامة جُرح فيها كثير.
هل جلاء الأيرلنديين وتهافتُهم على الموت وسآمتهم من الحياة في معاندة السلطة الإِنجليزية ناشئ عن نفرتهم من العدل وكراهتهم للراحة والميل إليهما طبيعي في فطرة البشر؟! أظن لو كان عدلًا حقيقيًّا يعرفه بنو الإنسان لَما نبتْ عنه الطباع، ولا آثرت الأنفسُ الموتَ على التمتع به، ولا طَلَبَ الخلاص منه أقوامٌ يتحدون مع أرباب السلطة في الجنس واللغة والدين، ولا فضلوا عليه مهاجرة الأوطان واحتمال آلام الغربة، ومشاق التطوح في أراضٍ لا يجدون فيها من العيش إلا لماجا (أدنى ما يؤكل).
ولكنه عدل تفرد به الإنجليز من بين الحيوانات الناطقة، من أحكامه أن توضع الجزية على كنائس الكاثوليك تؤديها إلى كنائس البروتستانت عن يدٍ وهي صاغرة، واستمر ذلك إلى عهد قريب، ومن مقتضياته أنْ يكون الأيرلندي خادمًا بل عبدًا رقًّا لأمراء البريطانيين لا يتركون له من لوازم الحياة إلا ما يشتغل به لتنمية ثروتهم وتوفير لذتهم.
إن كان هذا العدل لا يوافق أذواق المتفقين معهم في الصفات السابق ذكرها، فكيف تُرجى ملاءمته لأذواق الذين لا نسبة بينهم وبينهم، ولا صلة تجمعهم، لا في لغة ولا جنس ولا دين؟ هذا النوعُ البهيجُ من العدل ظهرتْ له آثارٌ في البلاد الهندية: دخلها الإنجليز وهي أغنى أرض في العالم، وأخصب تربة في المسكونة، وسكانها أنعم النَّاس عيشًا، وأوسعهم ثروة، فإذا هي اليوم بسر العدالة كأنها صفاصف وأمرات (أرض لا نبات بها).
أهاليها حُفاة عراة أذلاء، رضوا من المعيشة بالشظف، ومن القوت بالعلف، وما يجدون ما به يقنعون، تراهم بعد ما سلبوا أملاكهم، وابتزوا ثروتهم، واستأثر الإنجليز بجميع ما كان لهم، يطلبون التعيش في المهن الدنيئة ولا يصلون إلى ما يطلبون، يكون منهم الكاتب المنشئ البليغ الحاسب يقطع الأرض سعيًا من بلد إلى بلد ومن ولاية إلى ولاية ليحصل خدمة ينال من أجرها ثلاثين فرنكًا في الشهر، ولا يسعده الحظ بنوالها!
ومن سنتين دخلوا مصر وهي أرضُ الراحة والسلام، وأهلوها في رغد من العيش، وأمن من الغوائل، فإذا هي اليوم — ببركة العدل الإنجليزي، وحسن الإدارة البريطانية — أرضُ الفتن، ومجالات الحروب، ومضارب الخلل والفساد، قضت العدالة بحرمان آلافٍ من الوطنيين وطردهم من وظائفهم في الحكومة، وهم ذوو أهل وعيال لا عيش لهم إلا مِنْ رواتب الخدم الوطنية، وحل محلهم في الوظائف أخلاطٌ من الإنجليز.
وكسدت أسواق التجارة، وغلت أيدي الزارعين عن العمل في الفلاحة بفقد الأمن وعموم الاضطراب، وامتنعت الأرض عن الإنبات بإهمال الأعمال العامة، واستولى الفقر على الفَلَّاحين حتى عجزوا عن وفاء ديونهم وقصرت أيديهم عن أداء ما عليهم من الضرائب لحكومتهم.
ومع كل هذا ترى الإنجليز لا تأخذهم ريبة في أنهم عادلون قوامون بالقسط، وأن حلولهم في أي قُطر وسلطتهم على أي شعب مقرونةٌ بالسعادة والرفاهة والأمن والراحة، ويعجبون كل العجب من انحراف المصريين عنهم ونفرة قلوبهم منهم، ويقولون: يا سبحان الله! كيف يوجد بين جمعيات سرية أو جهرية تتخالف على بعضهم وتجتمع الألفة من العبودية لهم؟! وكيف يختلج في خاطر مصري أن ينقم على الإنجليز؟!
ولما أحسوا بحركة الخواطر واشتعال الحمية في نفوس بعض المصريين وتوجسوا الخيفة من إقدامهم على كلمة الحق، وهي بلادنا لنا، ونحن أعلم بمصلحتنا من غيرنا، ولا نريد أن نكون طعمة للإنجليز؛ أرادوا أن يقيموا برهانًا على عدلهم ويوطنوا النُّفُوس على الرضا بحكمهم ويمحوا كل ضغينة من قلوب المصريين، بالقوة العسكرية، كأنهم بإطلاق النيران وسل السيوف يودعون في القلوب محبة، وفي النُّفُوس رضاية، وهي طريقةٌ جديدة في إزالة التنافُر وإيجاد التآلُف، وربما كانت سنة قديمة عند الإنجليز.
وجاء في برقيةٍ من مراسل التايمس في القاهرة أن العساكر الإِنجليزية انتشرتْ في شوارع القاهرة شاكية السلاح لتعزيز قوة حفظ الأمن، والحامل على ذلك ما تأكد عند حفاظ الأمن من الإنجليز أن في تلك المدينة جمعيات جهرية أو سرية، أو أن فيها أشخاصًا مصريين يُحبون بلادهم ولا يَوَدُّون أن يكون السلطان في حكومتها لأجنبي عنهم، خصوصًا إن كان ظالمًا فيهم.
أو أن في تلك المدينة من يخطر بباله أن يقول كما يقول أدنى رجل من الإنجليز: إن مصلحة وطننا مقدَّمة على كل مصلحة، أو أن فيها من يحدث نفسه بأن الإنجليز لا خير في ولايتهم، ويرى شقاء بلاده في سوء إدارتهم.
فهاج غيظ مأموري الإنجليز وبعثهم على الشدة في طلب الوقوف على مكامن أولئك الذين لا يميلون إليهم ليؤاخذوا كل ذي سريرة بما اختلج في صدره من الانتقاد على أعمالهم، ومن عزمهم أن يستعملوا من أجهزة الإضاءة ما يشرق به النور ليلًا في كل شوارع المدينة وأَزِقَّتِها، من القلعة إلى أضيقِ حارة فيها، ليحققوا ما ظنوه ويكشفوا ما توقعوه (وهم في عملهم هذا يراعون مصلحة المصريين ويأسفون على حالهم، حيث كفروا نعمة النظام ولم يعترفوا للإنجليز بهذا الإحسان الذي تفضلوا به عليهم من مدة سنين ويأسفون)، ويرون من العدل أن تشرب قلوب المصريين مودتهم بقوة السلاح حتى تكون سيئاتهم حسنات، وربما لا يتم لهم من ذلك ما يقصدون.