الفصل الثاني والسبعون
- الأولى: أن يستمر حلول الجيش الإنجليزي في الأراضي المصرية إلى أول يناير سنة
١٨٨٨ (ثلاث سنوات ونصف)، ثم لا يخليها إلا بعد انعقاد مؤتمر جديد من
نواب الدول العظام يتفقون فيه على أن الإخلاء لا يضر بالنظام الداخلي
لمصر ولا بالعلاقات السياسية بين الدول، فإنْ حصل اختلافٌ ولو مِن دولة
واحدة ترى ضرورة إطالة المدة كان الخيار لدولة إنجلترا في الجلاء أو
البقاء.
دولة إنجلترا هي الدولة التي أطلقت مدافعها على مدينة الإسكندرية والمؤتمر منعقد١ في الأستانة من رجال الممالك العظيمة وفيهم نائب فرنسا، ولم توقر المؤتمر ولم تُراعِ حرمة الدولة ولم تتفق مع واحدة منها على العمل الذي باشرته، فهل يعجزها في خلال هذه المدة الطويلة أن تستميل دولة من الدول إليها، حتى إذا انعقد المؤتمر بعد ثلاث سنوات ونصف ذهبت إلى أن إخلاء القطر المصري من العساكر الإِنجليزية يُخشى منه على نظام البلاد أو سلم أوروبا، فيكون حجة لإنجلترا في إطالة المدة وإن خالفها بقية الدول ومنطوق الشرط يؤيد حجتها.
وكيف يمكن لبقية الدول إذا خالفت إحداها أن تلزم دولة بريطانيا بالخروج من ديار مصر بعدما غلت أياديها بتقرير هذا الشرط وكتبت على نفسها أن الجلاء لا يكون حتمًا إلا إذا اتفقتْ عليه جميعُ الدول!
السياسات في أوروبا سريعة الانقلاب، والمنافساتُ لا تقف عند حد يحيطُ به النظر، ومطامع كل من الدول لا تنتهي عند غاية، فليس ببعيد — بل هو أقربُ من كل قريب — أن توجد دولة في دول أوروبا تشد عضد إنجلترا على دعوى أن إخلاءها لمصر يُحدث هزة في سلام أوروبا، وربما تكون تلك الدولة هي الدولة القوية التي يصعب على سائر الدول مخالفتها، ولا تجد فرنسا عند ذلك موئلًا تلجأ إليه سوى الرضاء والتسليم.
إذا فرضنا عجز إنجلترا عن استهواء دولة أوروبية توافقها على المكابرة في أحوال مصر، وأن سياسة أوروبا وقفتْ على حالتها في وقتنا الحاضر، وأن جميع الدول تحالفتْ على قول الحق، فهل تعجز دولة بريطانيا وهي هي عن أَنْ تُثير شغبًا في بعض الأرجاء المصرية بأن تغري مالطيًّا بقبطي أو روميًّا بفلاح أو حمار، فتسيل قطرات من الدماء تخيل كل قطرة منها بحرًا وتنادي أن للفتن مثارات وللعصيان أمارات والنظام في خطر ولها حق المحافظة عليه، إلى أن تنقلب أرض مصر جنة يكون فيها أمم العالم إخوانًا على سرر متقابلين؟!
ولو اعتبر المسيو جول فري بالمعاهدات التي عقدتها إنجلترا مع السلطنة التيمورية وغيرها من ممالك الهند، وكيف أقدمت تلك الدولة على نقضها ولم تُبالِ فيه بعهد ولا ذمة؛ لَظهر له أن نقض روسيا لعهدها مع بولونيا ليس شيئًا يذكر بالنسبة إلى حفظ إنجلترا لذممها مع تلك الممالك العظيمة.
لو تأمل هذا الوزير في الأعمال الإِنجليزية؛ لَلامَ نفسَه في الاحتجاج بشرف إنجلترا على خلو غرضها وإخلاصها فيما واثقته عليه.
إن لم يكن في خاتمة الشرط سر فلِمَ اهتمت بها الوزارة الإِنجليزية وألحت على تثبيتها؟! إن لم يكن لها غرض في استعمالها وقتها فلِمَ أصدرت أوامرها بمد سكة الحديد من سواكن إلى بربر على نفقة الحكومة البريطانية؟!
إن كان لمسيو جول فري ثقة بمسيو جلادستون واعتماد على عفته وطهارة ذيله، فمن يضمن له بقاءه في رئاسة الوزارة إلى نهاية المدة حتى يوفي بعهده؟! فإذا استعفت وزارة جلادستون لعلة داخلية أو أزمة خارجية وخلفتْها وزارة تحت رئاسة اللورد تشرشل أو اللورد سالسبوري، وهُمَا من الطالبين الاستيلاء على مصر أو إعلان السيادة الإِنجليزية عليها، فأي مانع يمنعهما من الاستفادة من هذه الخاتمة السيئة في مقصدهما المعروف؟!
- المادة الثانية: أُلغيت المراقبة الثنائية وسيعوض عنها بتوسيع السلطة لقومسيون الدين
العمومي، فيُمنح حق الاطلاع على مصاريف الحكومة والاعتراض على ما يزيد
منها عن المقرر في الميزانية، ويكون له ذلك ابتداءً من سنة ١٨٨٥،
وميزانية تلك السنة تحصرها حكومة إنجلترا وتعرضها على المؤتمر الدولي
ليقرر ما تحويه، على أن يكون قانونًا للنفقات لا يخالَف إلا لضرورة
تخرق النظام.
وفيما بعد سنة ١٨٨٥ يخول لصندوق الدين حق مساعدة الحكومة المصرية على تحضير ميزانيتها السنوية، بمعنى أنه تعرض عليه قبل تقريرها ليبدي فيها رأيه، إلا أن ما يكون له من الرأي في جميع الأحوال ليس إلا استشاريًّا محضًا لا ينقض ولا يبرم، فإذا انجلت العساكر عن مصر يكون له حق المراقبة على تحصيل الإيرادات جميعًا وضبطه على قواعد صحيحة وطرق منتظمة، وبهذا يحوز حقوق المراقبة الثنائية ما عدا الحضور في مجلس الوزراء، ورئيس القومسيون في جميع الأحوال يكون إنجليزيًّا.
إن كانت مراقبة قومسيون الدين على تحصيل الإيرادات لا تكون إلا بعد انجلاء الجيش الإنجليزي، أفلا يكون هذا أملًا من الآمال ربما يُنال وهو يكون فيه عوض حقيقي عن المراقبة، وهو من رسوم الخيال وبينه وبين الثبوت أمد غير قصير؟ إن رضيت الأمة الفرنسية بتنقيص فائدة الدين لهذا الأمل الموهوم فقد خسرتْ كما قالت جريدة «لا جوستيس» خسارة محققة لوعد لا كافل لها بوفائه.
- المادة الثالثة: إحماء مصر والمكافلة لها (ما يعبر عنه بالحياد) بأن تجعل حكومة في
إفريقيا على أصول حكومة بلجيكا في أوروبا، وتحرير القناة، أي إباحته
ممرًّا لجميع مراكب الدول من أي نوع كانت، فإن كانت الدولتان متحاربتين
ضرب لبقائها فيه مدة لا يسوغ فيها إنزال عساكر أو ذخائر على حافتيه ولا
تباح المناوشة فيه ولا على القرب منه ولا فوق شيء من المياه المصرية،
وإن كانت الدولة العثمانية إحدى المتحاربتين.
إلا أن شيئًا من هذه القيود لا يحذر أخذ الاحتياط للدفاع عن مصر نفسها إذا دعت إليه أحوال وإذا ألحقت مراكب دولة من الدولة ضررًا بالقناة ألزمت بتعويضه، وعلى حُكُومة مصر أن تهيئ ما يمكنها من تنفيذ الشروط على المراكب الحربية مدة الحرب، ولا يجوز أن يبنى على حافات القناة ولا على مقربة منه معاقل وحصون.
وهذه الشروط جميعها تقرر ويجري حكمها بعد جلاء العساكر الإِنجليزية عن وادي النيل، وفاتحة هذا الفصل تنطق بأن الإنجليز إن قصر بهم السعي عن التملك في الأراضي المصرية فقد هيئوا كلاليب لاختطافها من أيدي المسلمين والانقلاب بها إلى قوم آخرين، كما أشرنا إليه في موضع آخر.
هذا الذي صرح به من تشكيل الحكومة في مصر على مثال حكومة بلجيكا هو الأمر العظيم الذي نوهه مسيو جول فري، وقال: إنه من أجلِّ أحكام السياسة وأسماها، وصحيحُ العقل يرتاب في كونه حكمًا سياسيًّا فضلًا عن كونه ساميًّا؛ لما يلاحظ فيه من عواقب المكالبة والشحناء بين الأُمم الأوروبية إلى أجيال بعد ما تقرر لديهم أن الشرقي لا يليق به أن يستقل بحكم نفسه!
فإن خدعه الظاهر فربما يرى فيه خيرًا لفرنسا أو لأوروبا، بمعنى أنه أفضل لها من التملُّك الإنجليزي، أما المسلم فيراه نكاية لملته والشرقي يجده خرابًا لبلاده، هذا الأود الذي ظهر في سياسة مسيو جول فري لا يقومه إلا حمية الدولة العثمانية واشتدادها في حفظ مكانتها السياسية، وحرص مجلس النواب الفرنسي على حماية المصالح الفرنسية التي يسهل صونُها بشيء من العزيمة وبصيصٍ من البصيرة — ولله الأمر يفعل ما يشاء.٢