صدفة
في منتصف شهر يونيو من عام ١٩٦٥، كان الفصل الدراسي قد انتهى في تورانس هاوس، ولم تُعرض على جولييت وظيفة دائمة — فالمدرس الذي كانت تحل محله تماثل للشفاء — وبمقدورها الآن أن تعود إلى منزلها. بَيْدَ أنها قررت قبل عودتها أن تعرِّج على صديقتها التي تعيش بالقرب من الشاطئ.
منذ شهر تقريبًا، كانت قد ذهبت مع مُدرِّسة أخرى — تُدعى خوانيتا، وهي الوحيدة من ضمن فريق العمل التي تقاربها في العمر، وهي أيضًا صديقتها الوحيدة — لمشاهدة معالجة جديدة لفيلم قديم وهو فيلم «هيروشيما مون أمور»، وقد اعترفت خوانيتا فيما بعد أنها كانت — مثلها مثل المرأة التي في الفيلم — تحب رجلًا متزوجًا؛ وهو والد أحد الطلاب. ثم قالت جولييت إنها وجدت نفسها في مثل هذا الموقف أيضًا إلى حدٍّ ما، لكنها لم تسمح للأمور أن تتطور؛ وذلك بسبب داء زوجته المأساوي. لقد كانت زوجته ميئوسًا من شفائها وعلى شفا الموت الدماغي. فعلَّقت خوانيتا أنها كانت تتمنى أن تكون زوجة حبيبها في مثل هذه الحالة من الموت الدماغي، ولكنها لم تكن كذلك، بل كانت مفعمة بالحيوية والقوة، وكان من الممكن أن تتسبَّب في فصل خوانيتا من عملها.
عزيزتي جولييت
كنت قد نسيت اسم المدرسة التي تعملين بها، لكنني، فجأة تذكرتها من دون سبب، فتراءى لي الأمر وكأنه إشارة لكي أكتب لك. آمل أن تكوني ما زلت في المدرسة؛ فإنه من الصعب أن تتركي الوظيفة قبل انتهاء الفصل الدراسي، وعلى أي حال لا أظن أنك شخصية انهزامية.
ما رأيك في طقس الساحل الغربي لدينا؟ إن كنت تعتقدين بأن الأمطار تهطل بغزارة في فانكوفر، فعليك أن تتوقعي إذن ضعف ما تتخيلين، وهذا هو الحال لدينا هنا.
دائمًا ما أتخيلك وأنت جالسة تتطلعين إلى التخوم، النجوم. أرأيتِ لقد كتبتُ تخوم، إنه وقت متأخر من الليل، وهو الوقت الذي اعتدت فيه الدخول إلى الفراش.
ما زالت آن كما هي. عندما عدت من رحلتي اعتقدت أنها قد أخفقت إخفاقًا كبيرًا، ولكن ذلك راجع بدرجة كبيرة لأنني رأيت التدهور الذي حدث لها في السنتين أو الثلاث الأخيرة مرة واحدة. ولكني لم أكن ألحظ تدهورها عندما كنت أراها كل يوم.
أظن أنني لم أخبرك بتوقفي في ريجينا لرؤية ابني الذي أصبح يبلغ من العمر الآن أحد عشر عامًا. إنه يعيش مع أمه. لقد لاحظت تغيرًا كبيرًا طرأ عليه هو الآخر.
أنا سعيد الآن لأنني تذكرت اسم المدرسة، لكني أخشى أني ما زلت لا أذكر الاسم الأخير لك، ولكني سأضع طابع البريد وأرسل الخطاب هكذا على أي حال، وآمل أن يصلني الاسم.
أفكر فيك دائمًا.
أفكر فيك دائمًا.
أفكر فيك داااااااااااائمًا.
استقلَّت جولييت الحافلة من قلب مدينة فانكوفر إلى هورس شو باي، ثم استقلت إحدى العبَّارات، ومرَّت بعد ذلك من شبه الجزيرة بالبر الرئيسي، ثم عبَّارة أخرى ثم إلى اليابسة ثانية، وهكذا حتى بلغت المدينة التي يقطن بها الرجل الذي أرسل الخطاب، وهي مدينة ويل باي. ويا لها من سرعة كبيرة تلك التي ينتقل بها المرء من المدينة إلى البرية، حتى قبل بلوغ هورس شو باي! وكانت جولييت طوال فترة الفصل الدراسي تعيش وسط المروج والحدائق بكيريسديل بما فيها من جبال الشاطئ الشمالي، التي تبدو أشبه بستارة المسرح عندما تنقشع عنها الغيوم، ويصبح الطقس صافيًا. لقد كانت ملاعب المدرسة محمية، وحضارية تحيط بها الأشجار والزهور اليانعة طوال العام، وتحتضنها الجدران الحجرية، وكانت أراضي البيوت المحيطة تشبه ملاعب المدرسة. وقد تمثَّلت تلك الوفرة والجمال في زهور: الوردية، البهشية، والغار والحلوة. ولكن قبل أن تتوغل بعيدًا لتصل هورس شو باي، تقترب الغابات من الرائي، وهي غابات حقيقية وليست حدائق الغابات، وانطلاقًا من هذه المنطقة وعلى امتداد البصر لا توجد سوى مناظر المياه والصخور، والأشجار الداكنة، والطحالب المعلقة. وبين الحين والآخر، تجد آثار الدخان متصاعدة من بعض المنازل الصغيرة المتهدمة والرطبة والتي تحيط بها أفنية مليئة بالحطب، وألواح الخشب، والسيارات، وبعض أجزاء من السيارات، والدراجات المستعملة أو المكسورة، وبعض اللعب، وسائر الأشياء الأخرى التي يضعها الأشخاص بالخارج عندما يفتقرون إلى وجود مرأب أو قبو بالمنزل.
ولم تكن المدن التي توقفت بها الحافلة بالمدن المنظمة على الإطلاق. وفي بعض الأماكن، شُيدت بعض البيوت المتجاورة المتشابهة — التابعة لشركة ما — وعلى مقربة شديدة بعضها من بعض، غير أن معظم تلك البيوت كانت مشابهة للبيوت التي تقع في الغابات؛ حيث تجد كل منزل يحيط به فناؤه الذي تتراكم فيه أشياء متناثرة، كما لو أن هذه البيوت بُني كل منها على مرأًى من الآخر من قبيل المصادفة فقط. لم تكن هناك طرق ممهدة، فيما عدا الطريق السريع الذي يمتد بينها، ولا أرصفة جانبية، ولم توجد مبانٍ ضخمة متراصة لتضم «مكاتب البريد»، أو «مكاتب البلدية»، ولم تحتوِ هذه المدن أيضًا على أي أبنية بها متاجر مزيَّنة ومنمقة، ولا يوجد بها أثر لتماثيل تخلِّد ذكرى الحروب، أو أي نافورة للشرب، أو حتى متنزه صغير تكسوه الزهور. قد ترى في ناحية ما أحد الفنادق، ولكنه عادة ما كان يشبه الحانة الصغيرة، أو تجد مدرسة حديثة أو مستشفًى … قد يتسم أيٌّ منهما بالوقار والاحترام، لكنه بسيط ومتواضع كالحظيرة.
وقد شعرت في لحظة ما — وخاصة عند العبَّارة الثانية — ببعض الشكوك التي قلبت لها معدتها حول الأمر برمته.
«أفكر فيكِ دائمًا.»
«دائمًا ما أفكر فيكِ.»
هذه هي دومًا الأشياء التي يعمد بعض الناس لقولها لإراحة الآخرين، أو بدافع رغبة قوية لإحكام السيطرة على شخص ما.
ولكن لا بد وأن هناك فندقًا ما، أو كبائن للسائحين على الأقل، في ويل باي. ستذهب إلى هناك. كانت قد تركت حقيبتها الضخمة في المدرسة، على أن تعود لإحضارها لاحقًا؛ فهي لا تحمل سوى حقيبة ترحال صغيرة تضعها على كتفها، حتى لا تكون لافتة للنظر. ستمضي ليلة واحدة فقط. ربما تهاتفه.
وماذا تقول؟
تصادف أنها مرت من ذلك الطريق لزيارة صديقة لها؛ وهي خوانيتا صديقتها من المدرسة؛ حيث تمتلك مكانًا هنا لتمضي به الصيف … أين؟ لدى خوانيتا كوخ في الغابة؛ فهي من ذلك النوع من النساء اللواتي يتَّسمن بالجرأة ويفضِّلن الانطلاق (على خلاف خوانيتا الحقيقية التي نادرًا ما تتخلى عن حذائها ذي الكعب العالي). واتضح أن الكوخ لا يبعد عن جنوب ويل باي. وحالما أنهت زيارتها إلى الكوخ وإلى خوانيتا، أخذت جولييت تفكر … لقد كانت تفكر — بما أنها كانت هناك بالفعل — أنه ربما بمقدورها أيضًا أن …
•••
الصخور، والأشجار، والمياه، والثلوج؛ كانت هذه الأشياء، التي يتغير ترتيبها ومكانها باستمرار، هي ما تزين المشهد منذ ستة أشهر مضت وهي تطل من نافذة أحد القطارات في صباح أحد الأيام ما بين أعياد الميلاد والسنة الجديدة. كانت الصخور ضخمة، ذات بروز في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى ناعمة مثل الجلمود، وقد يتباين لونها ما بين الرمادي الداكن، أو الأسود. أما الأشجار فكانت دائمة الخضرة في أغلبها؛ سواء أشجار الصنوبر، أو الراتينج، أو الأرز. وكانت أشجار الراتينج — وخاصة السوداء منها — تحتوي على ما يشبه الأشجار الصغيرة الزائدة؛ أي شجيرات صغيرة منفصلة قائمة في الجزء العلوي منها. أما الأشجار التي لم تكن دائمة الخضرة فكانت ضعيفة وعارية؛ مثل أشجار الحور، أو الطمراق، أو جار الماء. وكان لهذه الأشجار بعض الجذوع المبقعة. وقد استقرت الثلوج بكثافة فوق قمم الصخور، والتصقت على جانبَي الأشجار ناحية اتجاه الرياح، أو كوَّنت غطاءً رقيقًا وناعمًا فوق أسطح العديد من البحيرات المتجمدة سواء الصغيرة أو الكبيرة. ولا تتحرَّر المياه من الثلوج إلا قليلًا في الجداول الضيقة المظلمة التي تنساب بسرعة شديدة.
وضعت جولييت كتابًا مفتوحًا على ركبتها، ولكنها لم تكن تقرأ، فلم ترفع عينيها عما مرت به من مناظر طبيعية. جلست وحيدة على مقعد مزدوج، وفي مواجهتها مقعد آخر كان شاغرًا، وكان هذا هو المكان الذي يتحول فيه مقعدها لفراش في المساء. وبدا الحمال في تلك اللحظة منهمكًا في إعداد عربة النوم، وإجراء بعض الترتيبات من أجل المساء. وفي بعض الأماكن من العربة كانت الأغطية الخضراء الداكنة ذات السحَّابات لا تزال تلامس الأرض، وكانت تنبعث رائحة من أقمشتها، التي تشبه قماش المخيمات، وقد انبعثت أيضًا بعض روائح ملابس النوم ودورات المياه. وكلما فُتِح الباب في أي من طرفي العربة هبَّت لفحة من هواء الشتاء البارد. وقد ذهبت الدفعة الأخيرة من الناس إلى تناول طعام الإفطار، في حين عاد آخرون.
كان هناك آثار أقدام وسط الثلوج؛ آثار أقدام حيوانات صغيرة، وكأنها أعقاد مكونة من حبات صغيرة تتحلَّق ثم تغيب عن الأنظار.
كانت جولييت في الحادية والعشرين من عمرها، وقد حصلت بالفعل على درجة الليسانس والماجستير في الكلاسيكيات، وتعكف في الوقت الحالي على تحضير رسالة الدكتوراه، ولكنها اقتطعت بعضًا من وقتها من أجل تدريس اللغة اللاتينية في مدرسة خاصة للبنات في فانكوفر. ولم تتلقَّ جولييت أي دورات تدريبية في التدريس، إلا أن ما جعل المدرسة تقدم على تعيينها هو خلو الوظيفة في منتصف الفصل الدراسي بصورة مفاجئة، وربما بسبب عدم تقدم أحدٍ للإعلان المنشور، وكان المرتب أقل بكثير مما يتقاضاه أي مدرس مؤهَّل، ولكن جولييت كانت راضية بحصولها على أي نقود، بعدما أمضت سنوات كثيرة في المنح الدراسية الشحيحة.
كانت فتاة طويلة القامة، ذات بشرة بيضاء، ومظهر جميل، وشعر بني فاتح اللون لا ينتفش إذا ما طاله رذاذ الماء. كانت تشبه طالبات المدرسة النشيطات النابهات، رأسها دومًا مرفوعٌ عاليًا، ولها ذقن دقيق مستدير، وفم عريض ذو شفاه رفيعة، وأنف أفطس، وعينان لامعتان، وجبهة تتوهج غالبًا من فرط المجهود أو التقدير. وكان معلموها سعداء بها؛ فهم ممتنون لأي شخص يدرس اللغات القديمة هذه الأيام، وبخاصة إن كان هذا الشخص يتمتع بموهبة كبيرة، لكنهم كانوا يشعرون نحوها بالقلق في الوقت نفسه. وتكمن مشكلتها في كونها فتاة؛ فإذا ما حدث وتزوَّجت — وهو شيء قد يحدث بالطبع؛ حيث إنها لم تكن ذات مظهر سيئ بالنسبة لطالبة دراسات عليا — فإن كل مجهوداتها ومجهوداتهم ستضيع سدًى، وإذا لم تتزوج فقد تصبح بائسة ومنعزلة ووحيدة وتفقد جاذبيتها لدى الرجال (الذين هم أيضًا بحاجة إليهن؛ حيث إنه عليهم الإنفاق على عائلاتهم عكس النساء)، ولن تستطيع أن تدافع عن اختيارها الغريب لدراسة الكلاسيكيات، وأن تتقبل ما يراه الناس شيئًا عديم الفائدة وكئيبًا، ولن تنجح في التخلص من تلك الآراء مثلما يفعل الرجال؛ فالخيارات الغريبة تعد أسهل بالنسبة للرجال؛ حيث يجد معظمهم الكثير من النساء اللواتي يسعدن بالارتباط بهم، ولكن العكس ليس صحيحًا بالنسبة للنساء.
وعندما عُرضت عليها فرصة التدريس، حثَّها الكثيرون على الإقدام عليها قائلين إنه لشيء جيد بالنسبة لها أن تخرج للعالم، وتتعرف على الحياة الحقيقية.
وكانت جولييت معتادة على ذلك النوع من النصائح، ولكن الأمر المحبط بالنسبة لها هو أن تصدر تلك النصيحة من أولئك الرجال الذين لا يبدو عليهم أي أثر أنهم قد جابوا العالم الخارجي بشغف وإثارة. وفي المدينة التي نشأت بها، كان ذكاؤها يصنَّف وكأنه نوع من العرج أو كإبهام زائد لديها، وعلى الفور كان الناس يشيرون إلى العيوب والنواقص المتوقعة التي قد تصاحب هذا النوع من الذكاء — كعدم قدرتها على تشغيل آلة الحياكة، أو ربط طرد على نحو أنيق، أو ملاحظة أن ملابسها الداخلية قد تتكشف في بعض الأحيان. كانت المسألة تتعلق بما سيحل بها مستقبلًا.
وقد حدث ذلك حتى لأبيها وأمها اللذين كانا يفخران بها. أرادتها أمها أن تكون شخصية مشهورة، ولتحقيق ذلك شجَّعتها على أن تتعلم رياضة التزلج والعزف على البيانو، ولكنها لم تفعل أيًّا منهما برغبتها ولم تتفوق فيهما. وكان كل ما يريده والدها هو أن تنسجم وتتكيف مع الوسط المحيط.
وكان يقول لها دومًا: يجب أن تتكيفي مع مَن حولك، وإلا سيجعل الناس من حياتك جحيمًا (وهو بهذا يغفل حقيقة أنه هو ذاته ووالدة جولييت لا ينسجمان مع من حولهما تمامًا، ومع هذا فهما ليسا بتعيسين. ربما ساوره الشك في أن جولييت قد تكون محظوظة مثلهما).
بمجرد أن التحقت بكُلِّيتها قالت جولييت إنها تشعر بالفعل بالتوافق والانسجام، وإنها تشعر بالتوافق والانتماء مع من حولها في قسم الكلاسيكيات، وهي على ما يرام تمامًا.
ومن هذا القسم جاءتها نفس الرسالة، من أساتذتها، الذين كانوا يقدِّرون موهبتها، ومبهورين بها؛ فسعادتهم بها لم تُخفِ قلقهم؛ فقد نصحوها بالخروج للعالم، يقولون ذلك كما لو أنها لم تكن تعيش في العالم حتى الآن، وكأنها كانت في اللامكان.
ومع هذا فقد كانت تشعر بالسعادة وهي في القطار.
إنها غابة «التايجا»، هكذا حدَّثت نفسها. لم تكن تعلم إن كانت هذه هي الكلمة الصحيحة التي تُطلق على ما تتطلع إليه الآن. ربما واتتها — على صعيد ما — فكرة تخيُّل نفسها سيدة شابة في رواية روسية، تخرج إلى أرض غير مألوفة، مثيرة، باعثة على الرعب؛ حيث تعوي الذئاب في ظلمة الليل، وحيث تتقابل وقدرها، ولا تبالي إن كان من المرجح أن ينتهي المقام بذلك القدر — في الرواية الروسية — ليكون كئيبًا أو مأساويًّا أو كليهما معًا.
وعلى أي حال، فالأقدار الفردية ليست هي النقطة الأهم؛ إذ إن ما كان يجذبها — بل ويفتنها في الواقع — هو تلك اللامبالاة، والتكرار، وعدم الاهتمام، والازدراء للتناغم الذي تجده في أسطح صخور الدرع الكندية في حقبة ما قبل الكامبري.
وفجأة لمحت بجانب عينها خيالًا لشخص ما، ثم ساقَيْن داخل سروال تدخلان إلى مكانهما.
«هل هذا المقعد مشغول؟»
بالطبع لا. ماذا عساها أن تقول؟
كان يرتدي حذاءً أنيقًا ذا شُرَّابة، وسروالًا بني اللون، وسترة بمربعات تجمع بين اللونين البني والأصفر ذات خطوط رفيعة كستنائية اللون، وقميصًا أزرقَ داكنًا، وربطة عنق كستنائية مرقطة باللون الذهبي والأزرق. كان كل ما يرتديه من ملابس جديدًا، وبدت جميعها — فيما عدا الحذاء — واسعة كما لو أن الجسد الذي بداخلها قد تقلص وانكمش بعد شرائها.
كان رجلًا في الخمسينيات من عمره على الأرجح، ذا شعر بني ذي خصلات ذهبية لامعة تملأ فروة رأسه (لا يمكن أن يكون ذلك الشعر مصبوغًا، أليس كذلك؟ من عساه يصبغ تلك الخصلات القليلة من الشعر؟) وكان ذا حواجب داكنة، مائلة إلى الاحمرار، مستدقة الطرف وكثيفة، وكانت بشرة وجهه مليئة بالنتوءات وسميكة مثل سطح اللبن الرائب.
هل كان قبيحًا؟ نعم، بالقطع. لقد كان قبيحًا، ولكنها كانت تعتقد أن مثله مثل العديد من الرجال ممن هم في مثل عمره، لكنها لم تكن لتقول، فيما بعد، إنه كان قبيحًا بصورة ملحوظة.
رفع حاجبَيْه، واتسعت عيناه اللامعتان ذات اللون الفاتح كما لو أنه يرسم الود والاجتماعية، ثم جلس في مواجهتها وقال: «ليس هناك الكثير ليشاهده المرء من هنا.»
قالت وهي تخفض عينيها لتطالع الكتاب: «لا.»
قال كما لو أن الأمور تسير بسلاسة: «آه، أرى ذلك، وإلى أين تتجهين؟»
«فانكوفر.»
«وأنا أيضًا. لا بد وأن نمر بطول الطريق عبر الريف، وسوف ترين ذلك وأنت هناك، أليس كذلك؟»
«مممم.»
ولكنه أصر على الاستمرار في الحديث.
«هل ذهبتِ إلى تورونتو من قبل؟»
«نعم.»
«إنها مدينتي، تورونتو. لقد أمضيتُ بها حياتي كلها، هل هي موطنك أنتِ أيضًا؟»
قالت جولييت: «لا.» ثم نظرت مرة أخرى إلى الكتاب وهي تحاول جاهدة أن تطيل فترة الصمت، ولكن كان هناك شيء قوي — ربما نشأتها، شعورها بالإحراج، ربما رقَّتها — هو ما دفعها لكي تنطق باسم مدينتها، ثم تخبره بموقعها من خلال المسافة التي تبعدها عن بعض المدن الكبرى، ومكانها بالنسبة لبحيرة هورون وجورجيان باي.
«لديَّ ابنة عم في كولينجوود، إنها مدينة جميلة هناك، لقد ذهبتُ لزيارتها هي وعائلتها مرتين. هل تسافرين بمفردك؟ مثلي؟»
وأخذ يلوِّح بيديه ويضرب برفق كفًّا بكف.
«نعم.» وظنَّت في نفسها أنه يكفي ذلك، كفى عند هذا الحد.
«هذه هي المرة الأولى التي أسافر فيها في رحلة طويلة لأي مكان. إنها رحلة طويلة بمفردك.»
ولم تنبس جولييت ببنت شفة.
«لقد رأيتُك وأنت تقرئين بمفردك، وحدَّثت نفسي قائلًا بأنها ربما تسافر بمفردها، وعليها أن تقطع مسافة طويلة أيضًا، فلمَ لا نتجاذب أطراف الحديث معًا كأصدقاء؟»
سرت موجة من الاضطراب والارتباك بداخل جولييت عندما تفوَّه بتلك الكلمات: «التحدث كأصدقاء.»
ففهمتْ أنه لا يحاول أن يقيم معها علاقة؛ فمن بين الأشياء اللاأخلاقية التي قد تواجهها في بعض الأحيان هي التلميح الصريح من جانب بعض الرجال لإقامة علاقة معها، مشيرين إلى أنها بالقطع في نفس موقفهم وتواجه نفس ظروفهم؛ حيث دائمًا ما يكون هؤلاء الرجال غريبي الأطوار، يشعرون بالوحدة، ويفتقرون إلى أي نوع من أنواع الجاذبية. لكنه لم يفعل ذلك، لقد كان يريد رفيق درب لا صديقة.
وكانت جولييت تدرك ذلك؛ فهي تعلم أنها قد تبدو بالنسبة لكثيرين شخصية غريبة الأطوار ومنعزلة — وهي، إلى حد ما، كانت كذلك بالفعل — ولكنها قد مرت — في جزء كبير من حياتها — بشعور أنها محاطة ببعض الأشخاص الذين كانوا يرغبون في الاستحواذ على انتباهها، ووقتها، ودواخلها، وكانت عادة ما تتركهم يفعلون ذلك.
كوني منفتحة، كوني ودودة (وخاصة إذا لم تكوني مشهورة)؛ فهذا ما تتعلمه الفتاة في مدينة صغيرة، أو في مدينة سكنية للفتيات. عليكِ أن تتعاوني مع أي شخص يرغب في أن يستنزف كل طاقتك، حتى لو لم يكن يعرف عنكِ شيئًا.
نظرت في عينَي الرجل مباشرة، لكنها لم تبتسم، ورأى عزمها وتصميمها على ألا تتحدث، وارتسمت بعض أمارات الانزعاج على وجهه.
«أهو كتاب جيد الذي تقرئينه؟ ما الموضوع الذي يتناوله؟»
لن تخبره بأنه يتحدث عن اليونان القديمة، والارتباط الهائل الذي أبداه اليونانيون للامنطق. إنها لن تدرِّس اللغة اليونانية، ولكنها ستحاضر في مادة تسمى الفكر اليوناني؛ لذا فقد كانت تقرأ كتاب دودز مرة أخرى لكي تعرف ما الذي ستختاره. قالت: «إنني أرغب حقًّا في القراءة، سأذهب إلى عربة المشاهدة.»
ونهضت بالفعل وسارت مبتعدة وهي تفكر بأنه ما كان ينبغي لها أن تخبره بوجهتها؛ فمن الجائز أن ينهض، ويتبعها، ويعتذر لها، ويواصل حججه للحديث. علاوة على ذلك، سيكون الطقس باردًا في عربة المشاهدة، وتمنَّت لو أنها تذكرت إحضار سترتها، ولكن من المستحيل أن تعود مرة أخرى لإحضارها.
لم يحظَ المنظر المحيط الذي أطلَّت عليه من عربة المشاهدة، في خلفية القطار، برضاها واستمتاعها مثل المنظر الذي كانت تطل عليه من خلال نافذة عربة النوم؛ حيث يقحم هيكل القطار نفسه أمامك.
وربما كانت المشكلة في شعورها بالبرد، مثلما توقعت بعد أن غادرت العربة. وأيضًا كانت تشعر بالانزعاج، لكنها لا تشعر بالأسف. دقيقة أخرى وكانت يده الرطبة ستمتد — واعتقدت أنها يمكن أن تكون رطبة ولزجة أو جافة وخشنة — وربما كانا يتبادلان الأسماء مما سيحبسها هناك. وكان هذا أول انتصار من نوعه تحقِّقه، ولكنه كان ضد أكثر الخصوم حزنًا وإثارة للشفقة. بمقدورها الآن أن تسمعه وهو يلوك تلك الكلمات: «التحدث معًا كأصدقاء.» الاعتذار والوقاحة. ربما الاعتذار عادته، أما الوقاحة فهي نتاج أمله وتصميمه على كسر حاجز عزلته، وحالته الجائعة المتشوقة.
لقد كان ما حدث ضروريًّا، لكنه لم يكن بالشيء الهين على الإطلاق. لقد كان أكثر من مجرد انتصار، بالقطع، أن تقف متحدية شخصًا في تلك الحالة. كان انتصارًا أكبر من أن تتحدى شخصًا ماكرًا أو معتدًّا بذاته، ولكنها للحظة من اللحظات كانت ستشعر بالتعاسة.
كان هناك شخصان فقط يجلسان في عربة المشاهدة؛ سيدتان متقدمتان في العمر، وكل واحدة تجلس بمفردها. وعندما شاهدت جولييت ذئبًا كبيرًا يعبر السطح الثلجي الأملس للبحيرة الصغيرة اعتقدت أن السيدتين رأتاه أيضًا، ولكنَّ أيًّا منهما لم تكسر حاجز الصمت، وكان ذلك شيئًا سارًّا بالنسبة لها. ولم يلمح الذئب القطار؛ فهو لم يقف مترددًا أو يجري مهرولًا. وكان فراؤه طويلًا بلون الفضة التي تميل للأبيض، فهل اعتقد أن ذلك اللون يجعله مختفيًا عن الأنظار؟
وبينما كانت تشاهد الذئب، دلف راكب آخر، وكان رجلًا، وقد اتخذ المقعد المواجه للممر أمامها.
كان هو الآخر يحمل كتابًا، وتبعه إلى العربة زوجان طاعنان في السن، وكانت السيدة صغيرة الحجم ونشيطة، أما الرجل فكان ضخمًا ولا يتسم بالرشاقة، وكان يتنفس بصوت عالٍ غير مبالٍ بمن حوله.
قال عندما استقرَّا بمقعديهما: «إن الطقس بارد هنا.»
«أتود أن أحضر لك سترتك؟»
«لا أريد مضايقتك.»
«ليس ثَمَّةَ مضايقة.»
«سأكون على ما يرام.»
وقالت المرأة خلال دقيقة: «إنك ترى المنظر من هنا جيدًا.» لكنه لم يُجِبها، فحاولت مرة أخرى قائلة: «بإمكانك رؤية كل شيء من هنا.»
«وما الذي يمكن رؤيته؟»
«انتظر حتى نتوغل في الجبال؛ حينها سيكون هناك ما يستأهل رؤيته. هل استمتعتَ بطعام الإفطار؟»
«لقد كان البيض مائعًا.»
قالت المرأة بأسًى: «أعلم هذا، لقد كنتُ أفكر أنه لو كان بإمكاني أن أهرع إلى المطبخ وأقوم بإعداده بنفسي.»
«غرفة الطهي، يطلقون عليها غرفة الطهي.»
«أعتقد أن ذلك الاسم يطلقونه على مطبخ السفينة.»
رفعت جولييت عينَيْها عن كتابها في نفس اللحظة التي فعل فيها الرجل الجالس عبر الممر نفس الشيء، وتلاقت نظراتهما بهدوء ولم يكن بها أي تعبيرات. وفي تلك اللحظة أو التي تلتها أبطأ القطار من سرعته، ثم توقف، وحوَّل كلٌّ منهما نظره إلى موضع آخر.
كانا قد وصلا إلى مستوطنة صغيرة في الغابات، وعلى أحد الجانبين ظهرت المحطة، وقد طُليت باللون الأحمر الداكن، وعلى الجانب الآخر، انتصبت بعض البيوت التي ظهرت باللون الأحمر نفسه. كانت بيوتًا أو منازل إيواء لعمال القطارات. وارتفع صوتٌ يعلن أن هناك استراحة لمدة عشر دقائق.
نُظِّفت أرصفة المحطة من الثلوج، وأطلَّت جولييت برأسها ورأت بعض الأشخاص الذين غادروا القطار، وراحوا يأخذون جولة حوله. لقد كانت تريد أن تفعل مثلهم، ولكن ليس دون معطفها.
نهض الرجل الذي كان يجلس عبر الممر وهبط الدرج دون أن يلتفت حوله. وقد فُتحت الأبواب في مكان ما بالأسفل، وجلبت تيارًا من الهواء البارد. وتساءل الزوج العجوز عن سبب توقفهم هنا، وعن اسم المكان. على أي حال، ذهبت زوجته إلى مقدمة القطار لتحاول أن تعرف اسم المكان، لكنها لم تنجح في ذلك.
كانت جولييت تقرأ عن طقوس الميناد، يقول دودز إن الطقوس كانت تمارس في المساء، في منتصف فصل الشتاء، وكانت النسوة يصعدن إلى قمة جبل بارناسوس، وعندما تستوقفهن في وقت من الأوقات عاصفة ثلجية، يُرسَل فريق إنقاذ لهن، ويتم إنزال نساء الميناد بملابسهن التي كانت تبدو صلبة كألواح خشبية؛ حيث يتقبَّلن إنقاذهن وهن وسط طقوسهم الصاخبة. وكان ذلك بالنسبة لجولييت سلوكًا معاصرًا، فهو يلقي الضوء على بعض جوانب تصرفات كهنة القداس. هل سيرى الطلبة الأمر على هذا النحو؟ لا ليس من المرجح؛ إنهم من المحتمل أن يرفضوا أي نوع من التسلية، أو الانهماك في أي نشاط، كشأن الطلبة، وأما الذين لا يرفضونه، فإنهم لن يبدوا ذلك.
انطلق نداء للعودة إلى داخل القطار، وتوقف انسياب الهواء النقي، ثم حوَّل القطار مسار القضبان ببطء. رفعت جولييت عينيها لتشاهد ما يجري، ورأت، على بُعد مسافة أمامها، القاطرة وهي تختفي عند أحد المنعطفات.
ثم كان هناك تمايل أو ارتجاج؛ ارتجاج عبر القطار بأسره، ثم شعور باهتزاز العربة بشدة، وبعدها توقف القطار فجأة.
جلس الجميع في انتظار أن يتحرك القطار ثانية، ولم يتفوَّه أحد بكلمة، حتى الزوج الذي كان كثير الشكوى لم يتحدث بشيء. ومرت الدقائق، والأبواب تفتح وتغلق، وتعالت أصوات الرجال، وانتشر شعور بالذعر والقلق، وارتفع صوت يوحي بأنه ذو سلطة من عربة الاستراحة التي كانت أسفلهم تمامًا، قد يكون صوت محصِّل القطار، ولكن كان من الصعب سماع ما يقوله.
نهضت جولييت، وذهبت إلى مقدمة العربة وهي تنظر أعلى العربات التي أمامها، وقد رأت بعض الأشخاص يجرون وسط الثلوج.
نهضت إحدى السيدتين اللتين جلستا بمفردهما، ووقفت بجانبها.
قالت السيدة: «كان لديَّ شعور بأن شيئًا ما سيحدث، لقد شعرت بذلك عندما كنا بالخلف حينما توقف القطار. لم أكن أرغب في أن نستأنف هكذا ثانية، لقد شعرت بأن هناك شيئًا ما سيقع.»
جاءت السيدة الأخرى التي كانت تجلس بمفردها أيضًا، ووقفت خلفهما.
وقالت: «لن يكون شيئًا كبيرًا، ربما فرع شجرة هو ما أعاق الطريق.»
ردت السيدة الأولى قائلة: «لكنهم لديهم ذلك الشيء الذي يضعونه أمام القطار، وهو يعمل على أن يزيح هذه الأشياء كفروع الأشجار التي تعيق الطريق أو ما شابه.»
«ربما سقط لتوِّه.»
كانت السيدتان تتحدثان بنفس اللكنة؛ لكنة أهل شمال إنجلترا، ودون اللياقة التي تستخدم عادة مع الغرباء أو المعارف الجدد. وهنا أمعنت جولييت النظر إليهما، فخمَّنت أنهما قد تكونان أختين، رغم أن واحدة منهما كان لها وجه أعرض وأصغر. إذن فهما تسافران معًا ولكنهما جلستا بمعزل إحداهما عن الأخرى، أو ربما دبَّ نزاع ما بينهما.
كان محصِّل التذاكر يصعد الدرج إلى عربة المشاهدة، ثم استدار في منتصف المسافة ليتحدث.
«ليس ثَمَّةَ شيء خطير يبعث على القلق، أيها السادة، يبدو أننا قد ارتطمنا بشيء أعاق المسار. نحن نأسف لهذا التأخير، وسوف نستأنف المسير بأسرع ما يكون، لكننا سنمكث هنا لفترة قصيرة.» وقد أخبرني النادل بأنه سيتم تقديم بعض القهوة مجانًا في غضون دقائق.
تبعته جولييت وهو يهبط الدرج؛ حيث أدركت بمجرد أن نهضت من مكانها أنها هي ذاتها تواجه مشكلة جعلت من الضروري أن تعود إلى مقعدها وحقيبة سفرها، سواء أكان الرجل الذي عاملته بازدراء موجودًا أم لا. وبينما كانت تقطع طريقها عبر العربات، رأت الكثير من الأشخاص الذين يتحركون هنا وهناك؛ فقد كان منهم من يتزاحم ويتجمَّع عند النوافذ على أحد جانبي القطار، بينما توقَّف آخرون بين العربات كما لو أنهم يتوقعون أن يفتح القطار أبوابه، ولم يكن هناك وقت أمام جولييت لكي تطرح أي أسئلة، ولكن ترامى إلى مسامعها وهي تمر أنه قد يكون ما أعاق الطريق دبٌّ أو ظبي، أو بقرة. وتساءل الناس عما يمكن أن تفعله بقرة هنا في تلك الأدغال، أو عن سبب استيقاظ الدببة حتى الآن، أم تراه شخص ثمل قد غلبه النوم فوق القضبان؟
في غرفة الطعام التف الناس حول المناضد التي أزيحت عنها الشراشف البيضاء، وقد جلسوا يحتسون القهوة المجانية.
لم يكن هناك أحد يشغل مقعد جولييت، أو المقعد المقابل، فأخذت حقيبتها وهرعت إلى دورة مياه السيدات. لقد كانت الدورة الشهرية مصدر أذًى لها طوال حياتها، لقد كانت تضايقها، في بعض الأحيان، أثناء امتحانات هامة تستغرق مدتها ثلاث ساعات، ولا تستطيع حينها مغادرة غرفة الامتحان لتغيير فوطتها الصحية.
جلست على المرحاض وهي تشعر ببعض الألم، وقد احمرَّ وجهها، وانتابها القليل من الإعياء والدوار، ونزعت الفوطة الصحية الغارقة، ولفَّتها في ورق التواليت، ووضعتها في سلة المهملات، وعندما نهضت أخرجت الفوطة الجديدة من حقيبتها. وقد رأت أن الماء والبول في المرحاض قد اختلطا بالدماء. رفعت يدها لتضغط على زر صندوق طرد الفضلات، لكنها لاحظت بأن هناك تحذيرًا يشير إلى عدم الضغط على الزر عندما يكون القطار متوقفًا؛ وهذا ينطبق بالطبع في حالة توقف القطار بالقرب من المحطة، ويكون هناك عملية تفريغ، فيمكن للناس أن يروا الفضلات، وهذا شيء كريه، إلا أنها هنا يمكن أن تغامر وتضغط على الزر.
غير أنها سمعت أصواتًا قريبة عندما كانت على وشك الضغط على الزر، ولكنها لم تكن صادرة من القطار ذاته، وإنما من خارج نافذة دورة المياه ذات الزجاج الخشن. ربما هم عمال القطار يسيرون خارجه ويتفقَّدون الطريق.
بإمكانها أن تنتظر حتى يتحرك القطار، ولكن كم من الوقت سيستغرقه ليستأنف الرحلة؟ وماذا لو كان أحدٌ في حاجة ماسة للدخول؟ لذا قررت أن تغلق غطاء المرحاض وتغادر.
عادت إلى مقعدها، وجلس على الجانب الآخر منها طفلٌ صغير في الرابعة أو الخامسة من عمره، وكان يلهو بأقلام التلوين في صفحات أحد كتب التلوين، وتحدثت أمه مع جولييت بشأن القهوة المجانية.
قالت: «هي مجانية بالفعل، ولكن على المرء أن يحضرها بنفسه، هل تمانعين في مراقبته حتى أحضر القهوة؟»
قال الطفل دون أن يرفع بصره: «لا أرغب في المكوث معها.»
قالت جولييت: «سأذهب أنا لإحضارها.» ولكن في تلك اللحظة دلف النادل وهو يدفع عربة القهوة أمامه.
قالت الأم: «ها هي القهوة، ما كان ينبغي أن أتذمَّر بسرعة، هل سمعتِ بأنها كانت جثة شخص ما؟»
هزَّت جولييت رأسها بالنفي.
«إنه لم يكن حتى يرتدي معطفًا. لقد رآه أحدهم وهو ينزل من القطار، ويستأنف السير للأمام، ولكنهم لم يدركوا ما الذي كان يفعله، ويبدو أنه دار حول المنعطف ولم يرَه المهندس حيث كان قد قُضي الأمر وفات الأوان.»
وعلى بُعد عدة مقاعد أمامهم، على نفس صف الأم من الممر، انطلق أحد الأشخاص قائلًا: «ها هم قد عادوا.» نهض بعض الأشخاص بجانب جولييت، وأحنوا رءوسهم ليشاهدوا، ونهض الطفل الصغير أيضًا من مكانه، وضغط بوجهه على الزجاج، وطلبت منه أمه أن يجلس مكانه.
«استأنفِ التلوين، انظر إلى الفوضى التي صنعْتَها عبر السطور.»
ثم قالت لجولييت: «لا أستطيع النظر، ليس بمقدوري رؤية شيء كهذا.»
نهضت جولييت من مكانها لكي تشاهد ما يجري، ورأت مجموعة من الرجال يهرولون عائدين إلى المحطة، وخلع بعضهم معاطفهم التي تكوَّمت فوق النقالة التي حملها اثنان منهم.
قال رجل يقف خلف جولييت لإحدى السيدات التي لم تنهض لتشاهد: «لا يمكن رؤية أي شيء، لقد غطوا جسده بالكامل.»
لم يكن كل الرجال الذين عادوا مطأطئي رءوسهم من موظفي السكك الحديدية؛ إذ تعرَّفت جولييت من بينهم على الرجل الذي كان يجلس بجوارها في عربة المشاهدة.
وبعد مرور عشر أو خمس عشرة دقيقة تحرك القطار، ولم يكن هناك أي آثار للدماء يمكن رؤيتها على جانبي القطار حول المنعطف، ولكن كانت هناك منطقة عليها آثار وطء أقدام تجمَّعت على جانبها كومة من الثلوج. ونهض الرجل الذي يجلس خلفها مرة أخرى وقال: «أعتقد أن الحادثة وقعت هنا.» وأخذ يتطلع برهة ليرى إن كان هناك شيء آخر، ثم التف وجلس مكانه مرة أخرى.
وبدلًا من أن يسرع القطار لكي يعوِّض الوقت الذي ضاع، سار بمعدل أبطأ عن ذي قبل. ربما كان ذلك نابعًا من الاحترام، أو من تخوفٍ مما قد يقابلهم في المنعطف التالي. ومر رئيس النُّدُل بعربات القطار لكي يعلن عن أول موعد لتناول طعام الغداء، وعلى الفور نهضت الأم وطفلها وتبعاه، وبدأ الناس يصطفون، وسمعت جولييت إحدى السيدات تقول وهي تمر بجانبها: «أحقًّا؟»
وأجابتها السيدة الأخرى التي تتحدث معها بهدوء قائلة: «هذا ما قالته. كان ملطخًا بالدماء؛ فلا بد وأنه قد تناثر عندما مرَّ فوقه القطار.»
«لا تقولي ذلك.»
•••
بعد فترة وجيزة، وعندما انتهى اصطفاف الجموع المبكرة، وجلسوا لتناول الطعام، دلف رجل إلى العربة؛ وهو ذلك الرجل الذي كان يجلس في عربة المشاهدة ورأته وهو يسير خارج القطار وسط الثلوج.
نهضت جولييت من مكانها وتبعته على الفور. وأثناء وجوده في المساحة المظلمة الباردة التي تقع بين العربات حيث كان يدفع الباب الثقيل الذي أمامه بصعوبة، قالت: «من فضلك، أود أن أطرح عليك سؤالًا.»
وامتلأ المكان فجأة بضوضاء شديدة؛ فقد كانت قعقعة عجلات القطار الثقيلة.
«ما الخطب؟»
«هل أنت طبيب؟ هل رأيت ذاك الرجل الذي …»
«أنا لست بطبيب، ولا يوجد طبيب في القطار، كل ما في الأمر أنني لديَّ بعض الخبرات الطبية.»
«كم كان عمره؟»
نظر إليها الرجل وقد حاول أن يواصل صبره وعلى وجهه بعض علامات الاستياء.
«من الصعب أن أعرف، لكنه لم يكن صغير السن.»
«هل كان يرتدي قميصًا أزرقَ؟ هل كان شعره بنيًّا أشقر؟»
هزَّ رأسه رافضًا الإجابة واستنكر السؤال برمته.
قال: «هل كنتِ تعرفين ذلك الشخص؟ عليك بإخبار محصل التذاكر إن كان الأمر كذلك.»
«لم أكن أعرفه.»
«إذن، اسمحي لي بالذهاب.» ودفع الباب ليفتحه وتركها وذهب.
لقد اعتقد بالطبع أنه يتملَّكها الفضول الشديد الذي ينتاب الكثير من الناس.
ملطخ بالدماء. لقد كان ذلك شيئًا مثيرًا للاشمئزاز إذا جاز التعبير.
لن تستطيع أن تخبر أحدًا قط عن الخطأ الذي ارتُكب، والمزحة الفظيعة عما حدث. سيعتقد الناس إنْ تكلمتْ عنها أنها فظة وعديمة الرحمة إلى حدٍّ كبير، وسيبدو سوء التفاهم في جانب منه — وهو الجسد الذي سُحق جراء الانتحار — أثناء روايتها، أكثر شرًّا وقذارة من دم الدورة الشهرية الذي ينزف منها.
لن تخبر أحدًا بذلك (في الواقع لقد فعلت وروت ما حدث، بعد مرور عدة سنوات، لسيدة تدعى كريستا، وهي سيدة لم تكن جولييت تعرف اسمها بعد).
لم نصل بعد لحدود مانيتوبا، ومعظم الناس يشتكون من كآبة المناظر، لكنهم لا يستطيعون القول بأن الرحلة ينقصها الحدث الدرامي. لقد توقفنا في هذا الصباح عند إحدى المستوطنات الصغيرة البائسة والمهجورة في الغابات الشمالية، وكانت مطلية بأكملها «بلون السكك الحديدية الأحمر الموحش». كنت أجلس في خلفية القطار في عربة المشاهدة، وكدت أتجمد من شدة البرد؛ لأنهم يبخلون بالتدفئة هناك (ولا بد وأن السبب وراء ذلك هو أن روعة المشاهد الخلابة ستنسيك أي شعور بعدم الراحة)، وكنت أشعر بكسل شديد منعني من العودة إلى العربة وإحضار المعطف، لقد مكثنا هناك نحو عشر أو خمس عشرة دقيقة ثم استأنفنا المسير بعدها، ورأيت أن المحرك يدور عند أحد المنعطفات ثم وقع فجأة ارتطام عنيف.
لقد كان شغلها الشاغل دومًا هي ووالدها وأمها جلب القصص المسلية إلى المنزل، وكان ذلك الأمر يتطلب تعديلًا بسيطًا ليس فقط للحقائق بل ولمكانة المرء في هذا العالم، أو هذا ما وجدته جولييت عندما كانت المدرسة هي كل عالمها؛ لذا فقد جعلت من نفسها مراقبًا فوق العادة ولا يستهان به، والآن وهي بعيدة عن منزلها كل الوقت، أصبح ذلك الأمر شيئًا معتادًا، بل إنه أضحى واجبًا.
ولكن بمجرد أن كتبتْ كلمة «ارتطام عنيف»، وجدت نفسها غير قادرة على الاستمرار في الكتابة، غير قادرة على الاستمرار بلغتها المعتادة.
حاولت أن تتطلع خارج النافذة، ولكن المشهد، الذي يتضمن نفس العناصر، قد تغيَّر. وعلى مسافة تقل عن مائة ميل قطعوها، بدا وكأن الطقس قد أصبح أكثر دفئًا؛ فكانت الثلوج تملأ بعض البحيرات بدلًا من أن تغطيها تمامًا، وقد أضفت المياه الداكنة والصخور الداكنة، اللتان تظللهما السحب الشتوية، بعض الظلمة على الجو المحيط. ثم سئمت من المشاهدة، فأمسكت بكتاب دودز، وكانت تفتحه على أي صفحة؛ وذلك لأنها قد قرأته بأكمله من قبل. وكل بضع صفحات كانت تضع خطوطًا كثيرة تحت الأسطر؛ حيث تجذبها أفكار بعض القِطَع، ولكنها بعد أن قرأتهم وجدت أن ما استوعبته تمامًا في وقت ما بدا غامضًا ومشوشًا الآن.
… ما قد يبدو من وجهة نظر الأحياء القاصرة أنه من أعمال الشيطان، يراه الأموات من منظور أكبر مظهرًا من مظاهر العدالة الكونية …
سقط الكتاب من يدها، وأغمضت عينيها، ورأت نفسها الآن وهي تسير بصحبة بعض الأطفال (ربما مجموعة من الطلبة) على سطح إحدى البحيرات. وفي أي مكان يخطو فيه كلٌّ منهم يظهر صدع يأخذ شكلًا خماسيًّا متساوي الأضلاع على نحو جمالي، حتى بدا الثلج وكأنه أرض مكسوة بالبلاط. وسألها الأطفال عن اسم ذلك البلاط الثلجي، فأجابت بكل ثقة «الشِّعر خماسي التفعيلة»، فراح الأطفال يضحكون، ومع ارتفاع ضحكات الأطفال ازدادت التصدعات اتساعًا. عندئذ أدركت خطأها، وأيقنت أن الكلمة الصحيحة هي التي ستنقذ الموقف، لكنها لم تتمكن من إدراكها ومعرفتها.
استيقظت ورأت نفس الرجل، وهو الرجل الذي تتبَّعته بين العربات وأزعجته بسؤالها، وكان يجلس مقابلًا لها.
«لقد كنتِ نائمة.» وارتسمت على وجهه شبه ابتسامة على ما قاله، وتحدَّث قائلًا: «هذا واضح.»
لقد راحت في النوم وسقطت رأسها للأمام، وكأنها امرأة طاعنة في السن، وقد سال بعض اللعاب على جانبَي فمها. أدركت أيضًا أنه عليها أن تذهب لدورة مياه السيدات على الفور، وهي تأمل ألا يكون هناك شيء قد طبع على تنورتها. قالت: «معذرة، اسمح لي بالذهاب.» (تمامًا كما قال لها)، وحملت حقيبتها وسارت مبتعدة وهي تحاول أن تخفي عجلتها التي شابها الخجل.
عندما عادت أدراجها، وقد اغتسلت وهندمت من ثيابها ووضعت بعض التعزيزات، كان الرجل لا يزال جالسًا في مكانه هناك.
وتحدَّث على الفور بمجرد أن رآها، وقال إنه أراد أن يعتذر.
«لقد خطر بذهني أنني كنت أجيب بوقاحة عندما سألتِني عن …»
ردت قائلة: «نعم.»
قال: «لقد أصبتِ عندما كنتِ تصفينه.»
لم يبدُ كلامه كعرضٍ لتبادل الحديث من جانبه، وإنما نوع من المعاملة المباشرة والضرورية؛ فلو لم تهتم بالحديث، فقد ينهض ويمضي مبتعدًا دون أي شعور بخيبة الأمل بالضرورة، بما أنه قد فعل ما جاء من أجله.
وعلى نحو مخزٍ، ترقرقت الدموع في عينَي جولييت، وكان أمرًا غير متوقع، حتى إنه لم يكن لديها الوقت لتشيح بوجهها بعيدًا.
قال: «لا عليكِ، سيكون كل شيء على ما يرام.»
أومأت برأسها سريعًا عدة مرات، وراحت تستنشق الهواء بشدة، ثم راحت تُخرج ما في أنفها في منديل عثرت عليه أخيرًا في حقيبتها.
قالت: «لا بأس.» ثم راحت تقص عليه بصورة مباشرة كل ما حدث؛ كيف انحنى الرجل نحوها، وسألها إن كان أحد يشغل المقعد، وكيف جلس أمامها، وأنها راحت تتطلع إلى النافذة، ولم يكن بمقدورها أن تفعل ذلك طويلًا؛ لذا حاولت أو تظاهرت بقراءة كتابها، وكيف سألها عن المكان الذي استقلت منه القطار، وعرف أين تقطن، وأنه استمر في محاولته لإطالة الحديث حتى نهضت هي وغادرت المكان.
ولكن الشيء الوحيد الذي لم تُفصح عنه هو ما قاله بخصوص «أن نتجاذب أطراف الحديث كأصدقاء»؛ فقد اعتقدت أنها لو تفوهت بذلك فستنفجر في البكاء مرة أخرى.
«الناس عادة ما يقطعون خلوة النساء؛ فهذا أيسر من مقاطعة الرجال.»
«نعم، صحيح هم يفعلون ذلك.»
«هم يعتقدون أن النساء يجب أن يكونوا أكثر لطفًا.»
قالت وهي تغير الجهة التي تدافع عنها قليلًا: «ولكنه كان يريد شخصًا ليتحدث معه فقط. كان يريد الحديث أكثر مما كنت أريد الصمت. لقد أدركت ذلك الآن، وأنا لا أبدو وضيعة، ولا قاسية، لكني كنت كذلك بالفعل.»
سادت فترة من الصمت، إلا أنها هذه المرة لم تستنشق الهواء بشدة، واستطاعت التحكم في عينيها المغرورقتين بالدموع.
«هل انتابتِك الرغبة من قبل في أن تفعلي هذا مع أي شخص؟»
«نعم، ولكني لم أفعل ذلك مطلقًا، لم أبالغ في ردة فعلي هكذا من قبل، ولكن لماذا فعلتُ ذلك هذه المرة؟ ربما لأنه كان شخصًا متواضعًا للغاية؛ لقد كان يرتدي ملابس جديدة ربما ابتاعها من أجل الرحلة، ربما كان يشعر بالاكتئاب وفكَّر في الذهاب في رحلة ربما يستطيع من خلالها التعرف على أناس جدد وتكوين صداقات.
ربما لو كان سيقطع طريقًا أقصر لكنت … لكنه قال إنه سيذهب إلى فانكوفر، وكنت سأبقى مرتبطة به لعدة أيام.»
«نعم.»
«ربما كنتُ سأرتبط به بالفعل.»
«نعم.»
«لذا …»
قال وقد ارتسمت على وجهه شبه ابتسامة: «إنه لحظ سيئ، فالمرة الأولى التي تستجمعين فيها شجاعتك وتعاملين شخصًا بطريقة فظة يُلقي بنفسه تحت عجلات القطار.»
قالت وهي تتخذ موقفًا دفاعيًّا بعض الشيء: «قد يكون ما حدث كالقشة التي قصمت ظهر البعير، قد يكون الأمر كذلك.»
«أعتقد بأنه عليكِ أن تأخذي حذرك في المستقبل.»
رفعت جولييت ذقنها ونظرت إليه بثبات:
«هل تعني أنني أبالغ؟»
وفجأة حدث شيء مفاجئ وغير مطلوب كدموعها، وبدأ فمها يرتعش، وارتسمت ابتسامة شريرة على وجهها.
«أعتقد أن هناك قليلًا من المبالغة.»
قال: «قليلًا.»
«هل تعتقد أنني أضخم الأمر؟»
«هذا طبيعي.»
قالت وهي لا تزال تتحكم في ضحكتها: «لكنك تعتقد أنه مجرد خطأ، وأن الشعور بالذنب ما هو إلا نوع من المبالغة والتضخيم.»
قال: «ما أعتقده هو … أعتقد أن ما حدث شيء بسيط وثانوي، فستحدث أشياء في حياتك … أعني قد تحدث أشياء في حياتك، تجعلك ترين ما حدث شيئًا ثانويًّا؛ فهناك أشياء أخرى ستشعرين نحوها بالذنب عن جد.»
«ألا يقول الناس ذلك أيضًا إلى شخص أقل في العمر؟ فهم يقولون: أوه، في يوم من الأيام ستفكر بطريقة مختلفة، عليكَ أن تنتظر وترى. كما لو أنه ليس لديك الحق في أن تنتابك أي مشاعر جادة وحقيقة، كأنك لست قادرًا على هذا.»
قال: «مشاعر؟ إنني أتحدث عن الخبرة.»
«لكن كأنك تقول إنه لا طائل من الشعور بالذنب، والناس يقولون ذلك. هل هذا صحيح؟»
«فلتخبريني أنتِ.»
واستمرا يتناولان هذا الأمر لفترة من الوقت، وبصوت خفيض، ولكن بحدة لدرجة أصابت من كان يمر بجانبهم بالدهشة، بل وحتى بالضيق، كما هو الأمر في العادة عندما يسمع الناس بعض المناقشات التي تبدو مجرد أفكار نظرية مجردة ليس لها داعٍ. أدركت جولييت بعد فترة أنه برغم أنها كانت تتناقش بصورة جيدة في اعتقادها — ونظرًا لضرورة وجود بعض الشعور بالذنب في الحياة الخاصة والعامة — فإنها قد توقفت عن الشعور بذلك في تلك اللحظة. ويمكن القول بأنها كانت تستمتع بوقتها.
اقترح عليها أن يذهبا إلى عربة الجلوس حيث يمكنهم احتساء بعض من القهوة. وبمجرد أن دلفت جولييت إلى العربة شعرت بالجوع الشديد، بالرغم من أن ساعات الغذاء كانت قد انتهت منذ وقت طويل، وكل ما كان يمكن تقديمه آنذاك هو المقرمشات المملحة، والفول السوداني، وراحت هي تزدردها بطريقة جعلت من الصعب استرجاع المناقشة العميقة التي غلبت عليها بعض التنافسية؛ لذا راحا يتحدثان عن نفسيهما بدلًا من ذلك، وكان اسمه إيريك بورتيوس، ويعيش في مكان يُطلق عليه ويل باي، ويقع في مكان ما شمال فانوكوفر على الساحل الغربي، لكنه لن يذهب إلى هناك على الفور، بل سيقطع الرحلة ليذهب إلى ريجينا ليزور بعض الأشخاص الذين لم يرَهم منذ فترة طويلة. كان صيادًا، يصطاد القريدس. سألته عن الخبرة الطبية التي أشار إليها فقال: «أوه، إنها ليست بخبرة كبيرة؛ فلقد قمت ببعض الدراسات الطبية؛ فعندما تكونين وحدك بالغابة أو على متن مركب، فمن الجائز أن يقع أي شيء للأشخاص الذين يعملون معكِ، أو ربما لكِ.»
كان متزوجًا، وزوجته تُدعى آن.
قال إن آن أصيبت في حادث سيارة منذ ثماني سنوات مضت، وظلت في غيبوبة لعدة أسابيع، وبعدها أفاقت من غيبوبتها، لكنها أصيبت بشلل، ولم تستطع السير أو حتى إطعام نفسها، وكانت تعرفه بالكاد، وتعرف المرأة التي تعتني بها — وبمساعدة تلك المرأة استطاع أن يبقيها في المنزل — ولكن محاولاتها الحديث، أو فهم ما يدور حولها، سرعان ما تضاءلت.
كانا قد ذهبا إلى إحدى الحفلات، ولم تكن لديها الرغبة في الذهاب ولكنه كان يريد ذلك، ثم قررت أن تعود إلى المنزل بمفردها سيرًا على الأقدام؛ حيث لم يكن يروقها ما يحدث في الحفل.
وكان هناك مجموعة من الأشخاص الثملين العائدين من حفلة أخرى، يسيرون بسرعة كبيرة عبر الطريق وصدموها. كانوا مجموعة من المراهقين.
ولحسن الحظ لم يكن لديه هو وآن أطفال. نعم، لحسن الحظ.
«ما إن تخبري الناس بذلك حتى تجديهم يشعرون بضرورة المواساة بأقوال من قبيل: يا لبشاعة الأمر! أو إنها لمأساة! وغيرها من العبارات.»
قالت جولييت: «هل تلومهم على ذلك؟» وقد كانت هي نفسها على وشك أن تتفوه بما هو مشابه لتلك العبارات.
أجاب بالرفض، ولكن الأمر برمته أكثر تعقيدًا من مجرد تلك الكلمات. هل شعرت آن بأنها مأساة؟ ربما لا. هل شعر هو بذلك؟ إنه شيء يعتاد المرء عليه، لقد كان كنوع جديد من الحياة. هذا كل ما في الأمر.
•••
كانت كل تجارب جولييت الممتعة عن الرجال نابعة من الخيال؛ بطل سينمائي أو اثنان، ذوا صوت رخيم — وليس البطل الذكوري القوي البنيان المتحجر القلب — كما كانت تسمعه في التسجيلات القديمة لأوبرا دون جيوفاني. وهناك أيضًا «هنري الخامس» كما قرأت عنه في مسرحية شكسبير، وكما أدى دوره لورانس أوليفييه في الفيلم السينمائي.
كان هذا باعثًا على السخرية والشفقة، ولكن من عساه أن يعرف؟ أما في الحياة الواقعية، فلم يكن هناك سوى الخزي وخيبة الأمل، وهما ما حاولت بقدر المستطاع أن تطردهما من ذهنها بأسرع ما يمكن.
في المدرسة، عايشت تجربة أن تكون على رأس قائمة الفتيات غير المرغوب فيهن في حفلات الرقص بالمدرسة، ولكن في الكلية كانت تشعر بالملل. بَيْدَ أنها كانت تحاول باستماتة أن تكون مفعمة بالمرح والحيوية عندما تواعد بعض الفتيان الذين لم يروقوا لها كثيرًا، ولم تَرُقْ لهم هي الأخرى. واعدت ابن أخت المشرف على رسالتها أثناء زيارته في العام الماضي، وقد حدثت بينهما معاشرة كاملة على الأرض ليلًا في متنزه ويليس بارك، ولا تستطيع أن تُطلق على ما حدث أنه اغتصاب؛ لأنها هي أيضًا كانت عازمة على أن يحدث هذا.
وفي طريق عودتهما للمنزل أخذ يوضح لها بأنها ليست من نوع النساء الذي يفضِّله. وقد شعرت بمهانة شديدة منعتها من أن ترد بحزم — أو حتى من أن تدرك حينها — بأنه هو الآخر ليس من النوع الذي يروق لها.
ولم يكن لها أي تصورات عن رجال بعينهم في الواقع، وبخاصة مدرسيها؛ فقد كان الرجال المتقدمون في العمر بالنسبة لها — في الواقع — كشيء كريه.
أما هذا الرجل، فيا ترى كم يبلغ عمره؟ إنه متزوج منذ ثماني سنوات على الأقل، أو ربما أكثر من هذا بسنتين أو ثلاث؛ لذا فمن المحتمل أن يكون في الخامسة أو السادسة والثلاثين من العمر. كان شعره أسودَ داكنًا ومجعدًا، وبه بعض الخصلات الرمادية على الجانبين، كان ذا جبهة عريضة بها بعض التجاعيد، عريض الكتفين، به بعض الانحناء البسيط، يكاد يقاربها في الطول، كانت عيناه واسعتين، داكنتين، تلمعان بالحماس وتعكسان بعض الحرص والحذر في الوقت نفسه، ذا ذقن مستدير، مزين بطابع حُسن يشي بطبع عنيف.
أخبرته عن وظيفتها، واسم المدرسة؛ وهي تورانس هاوس. أخبرته أنها ليست مُدرِّسة بالأساس، لكنهم كانوا على استعداد لقبول أي شخص تخصَّص في اللغة اليونانية واللاتينية بالكلية، ونادرًا ما يتخصص أحدٌ في ذلك الفرع.
«ولمَ تخصصتِ أنت فيه؟»
«لكي أكون متميزة في اعتقادي.»
ثم أخبرته أنها كانت تدرك أنه عليها ألا تخبر رجلًا أو صبيًّا بذلك؛ حتى لا يفقد اهتمامه بها على الفور.
«ولأنني أحب ذلك الفرع، فقد أحببت كل ما يتعلق به، بالفعل.»
تناولا طعام العشاء معًا، واحتسى كلٌّ منهما كأسًا من النبيذ، ثم ذهبا إلى عربة المشاهدة حيث جلسا في الظلام بمفردهما، وقد أحضرت جولييت معطفها هذه المرة.
قال لها: «يعتقد الناس أنه لا يوجد شيء يستحق المشاهدة في الليل، لكن تَطلَّعي للنجوم التي يمكن رؤيتها في ليلة صافية كهذه.»
لقد كانت السماء صافية بالفعل، والقمر مختفيًا، أو على الأقل لم يظهر بعد، وظهرت النجوم في تجمُّعات كثيفة، وكانت منها الخافتة واللامعة. وشأنه كشأن أي شخص عمل فوق ظهر مركب، فقد كان على دراية بخريطة السماء، أما هي فلم تستطع أن تحدد سوى مجموعة الدب الأكبر.
قال: «ابدئي من هنا، تتبَّعي هذين النجمين على جانبَي مجموعة الدب الأكبر في الجهة المقابلة للمقبض. هل رأيتِهما؟ هذان هما المؤشران، تتبَّعيهما جيدًا وسترين النجم القطبي.» وهكذا.
ثم عثر لها على كوكبة الجوزاء (أوريون باليونانية)، والتي قال عنها إنها من الكوكبات الأساسية في نصف الكرة الشمالي في الشتاء. أما الشعرى اليمانية فهو من أكثر النجوم لمعانًا في السماء الشمالية بأسرها في مثل هذا الوقت من العام.
كانت جولييت سعيدة وهي تتلقَّى الدرس، ولكنها شعرت أيضًا بسعادة عندما جاء دورها لتُلقي الدرس هذه المرة. كان يعرف الأسماء اليونانية، لكنه لم يكن يعرف تاريخها.
أخبرته أن إينوبيون أفقد أوريون بصره، لكنه استرده مرة أخرى عندما نظر باتجاه الشمس.
«أصيب بالعمى لأنه كان شديد الجمال، غير أن هيفِستوس أنقذه، لكنه قُتل على أي حال على يد أرتيميس، وتحول إلى كوكبة. غالبًا ما يتحول أي أحدٍ ذي شأن ويقع في مشكلة كبيرة إلى كوكبة. أين كوكبة ذات الكرسي؟»
أشار لها إلى حرف الدبليو باللغة الإنجليزية، لكنه لم يكن واضحًا.
«من المفترض أنها تتخذ شكل امرأة جالسة.»
قالت: «كان هذا بسبب الجمال أيضًا.»
«هل كان الجمال شيئًا خطيرًا؟»
«بالطبع. لقد كانت متزوجة من ملك إثيوبيا، وكانت أم أندروميدا، وكانت تتفاخر بجمالها، وعقابًا لها على ذلك نُفِيت إلى السماء. أليس هنا في السماء أندروميدا أيضًا؟»
«إنها مجرة، وبمقدورك أن تشاهديها الليلة، إنها أبعد الأشياء التي يمكن رؤيتها بالعين المجردة.»
لم يمسها على الإطلاق حتى عندما كان يرشدها ويخبرها عن الوجهة التي يجب أن تتطلع إليها في السماء. بالقطع لم يفعل هذا، فهو رجل متزوج.
سألها: «من هي أندروميدا؟»
«لقد كُبِّلت إلى إحدى الصخور، لكن بيرسيوس أنقذها.»
•••
ويل باي.
رصيف ميناء ممتد، أعداد كبيرة من السفن، ومحطة وقود ومتجر موضوعة عليهما لافتة تشير إلى أنهما يضمان أيضًا محطة انتظار حافلات، ومكتب بريد.
وقفت سيارة بجانب المتجر حملت على النافذة لافتة فقيرة الصنع تشير إلى أنها سيارة أجرة. وكانت جولييت لا تزال تقف في المكان الذي غادرت فيه الحافلة. وقد شقَّت الحافلة طريقها مبتعدة، وانطلق صوت بوق سيارة الأجرة، وغادرها سائقها متجهًا نحوها.
قال: «أأنتِ بمفردك؟ ما وجهتك؟»
سألته إن كان هناك مكان يمكن للسائحين أن يقيموا به؛ فقد كان من الواضح أنه لا يوجد أي فنادق بالبلدة.
«لا أدري إن كان هناك من يؤجِّر بعض الغرف هذا العام أم لا. بإمكاني أن أسأل داخل المتجر. ألا تعرفين أحدًا هنا؟»
لم يكن أمامها ما تفعله سوى أن تنطق باسم إيريك.
قال وقد بدت على وجهه علامات الارتياح: «أوه، بالطبع، تفضلي بالركوب، وسأوصلك في أسرع وقت، ولكن هذا سيئ، لقد فاتتك ليلة الوداع.»
في البداية اعتقدت أنها لم تسمع جيدًا ولم تفهمه.
قال السائق وقد جلس وراء عجلة القيادة: «لقد كانت أوقاتًا حزينة، ولكنها لم تكن تتحسن إلى الأفضل.»
ليلة الوداع، وداع آن زوجة إيريك.
قال: «لا عليكِ، أعتقد أن هناك العديد من المعزِّين ممن لا يزالون في البلدة. لقد فاتتك مراسم الجنازة أمس بالطبع، كانت كبيرة للغاية. ألم تتمكني من الوصول؟»
قالت: «لا.»
«ما كان ينبغي أن أقول إنها ليلة الوداع، أليس كذلك؟ إن ليلة الوداع تتضمن مراسم ما قبل الدفن، أليس كذلك؟ لا أعرف ما الذي تطلقونه على طقوس ما بعد الدفن؟ بالطبع لن نقول عليها حفلة، أليس كذلك؟ سأوصلك سريعًا، وأجعلك ترين كل الزهور وما يحيط بالمكان من إجلال وتقدير. هل هذا مناسب لك؟»
وفي داخل المدينة، وبعيدًا عن الطريق السريع، على مسافة ربع ميل أو نحو ذلك عبر طرقات وعرة مليئة بالقاذورات، كانت تقع مقابر اتحاد ويل باي. وبالقرب من السياج، كانت توجد هضبة صغيرة مغطاة بأكملها بالزهور، وقد تنوعت ما بين مجموعة من الزهور الطبيعية الذابلة، ومجموعة أخرى صناعية ذات ألوان براقة، ووُضع فوقها صليب خشبي صغير يحمل الاسم والتاريخ. وامتدت بعض الشرائط الملفوفة والمزينة لتفرش حشائش المقبرة بأسرها. ولفت السائق انتباهها إلى الخطوط المتعرجة والأخاديد والفوضى التي أحدثتها إطارات العديد من السيارات بالأمس.
«نصف من قدموا لم يرَوْها، لكنهم يعرفونه جيدًا؛ لذا أرادوا المجيء على أي حال؛ فالجميع يعرفون إيريك.»
انعطفا بالسيارة، ثم عادا أدراجهما مرة أخرى، ولكن ليس باتجاه العودة إلى الطريق السريع. أرادت أن تخبر السائق أنها غيرت رأيها، وأنها لا ترغب بزيارة أحد، تريد فقط أن تنتظر عند المتجر لتستقل الحافلة التي ستأخذ طريق العودة، بإمكانها أن تقول إنها حقًّا جاءت في اليوم الخطأ، وهي الآن تشعر بالخجل لأنها لم تحضر الجنازة؛ لذا فهي لا تود أن تظهر على الإطلاق.
لكنها لا تستطيع أن تشرع في قول هذا، وربما يخبر السائق الآخرين بشأنها مهما كان الأمر.
سارا في طرق ضيقة، كثيرة الالتواءات، ومرَّا بالقليل من المنازل، وفي كل مرة يصلان لطريق خاص دون الانعطاف باتجاهه، ينتابها شعور بالرغبة في تأجيل هذه الزيارة.
قال السائق وهما ينعطفان أخيرًا بالسيارة: «وها هي مفاجأة، ولكن أين ذهب الجميع؟ كانت ثَمَّةَ نصف دستة من السيارات عندما مررتُ من هنا منذ ساعة، حتى شاحنته غير موجودة. انتهت الحفلة. آسف ما كان ينبغي أن أقول هذا.»
قالت جولييت بشغف: «إذا لم يكن ثَمَّةَ أحد هنا، فبإمكاني أن أعود أدراجي.»
«لا تقلقي، فهناك شخص هنا، لا تقلقي بشأن هذا، فإلو موجودة، وها هي دراجتها. هل التقيتِ بها من قبل؟ أتدرين أنها الوحيدة التي تعتني بكل شيء؟» ثم خرج من السيارة وفتح لها الباب.
بمجرد أن خطت جولييت خارج السيارة، ظهرت كلبة صفراء وراحت تثب وتنبح في اتجاههما، وراحت سيدة تناديها من شرفة المنزل.
قال السائق وهو يضع الأجرة في جيبه ويعود مسرعًا إلى سيارته: «أوه! اذهبي إلى الداخل يا بت.»
صاحت السيدة في الكلبة: «اصمتي، اصمتي يا بت، اهدئي.» ثم وجهت كلامها إلى جولييت: «لا تقلقي، لن تؤذيك، إنها مجرد جرو.»
أخذت جولييت تحدِّث نفسها بأن كونها مجرد جرو لا يعني أنها لن تستطيع أن تهاجمها. والآن وصلت كلبة أخرى ذات لون بني مائل للاحمرار وانضمت لتشارك في حالة الفوضى والهياج. وهنا هبطت السيدة الدرج وهي تصرخ قائلة: «بت، كوركي، تصرفا بأدب. إذا ما شعرتا أنكِ خائفة فستهاجمانك بشراسة.»
كانت تنطق حرف السين كحرف الثاء.
قالت جولييت وهي تثب للوراء عندما كادت الكلبة ذات اللون الأصفر تمسح أنفها في ذراعها: «لستُ خائفة.»
«إذن تفضلي بالدخول. واصمتا أنتما الاثنان وإلا قطعت رأسيكما. هل اختلط عليكِ الأمر بشأن يوم الجنازة؟»
هزت جولييت رأسها وكأنها تعبِّر عن اعتذارها وأسفها، ثم قدَّمت نفسها.
«إنه لأمر سيئ، أنا إلو.» وصافحت إحداهما الأخرى.
كانت إلو امرأة طويلة القامة، عريضة الكتفين، ذات جسم مكتنز ولكنه ليس مترهلًا، وشعر أشقر يميل إلى الأبيض ومنسدل على كتفيها. كان صوتها قويًّا يوحي بالعزم والإصرار، وكانت حنجرتها تُصدر أصواتًا كثيرة؛ أكانت لكنتها ألمانية، أم هولندية، أم تراها إسكندنافية؟
«من الأفضل أن تجلسي هنا في المطبخ؛ فالفوضى تسود كل شيء بالداخل. سأعدُّ لك بعضًا من القهوة.»
كان المطبخ مضيئًا، وبه نافذة تتوسط سقفه العالي المنحدر، وتراكمت الصحون والأكواب، والأواني في كل مكان، وتبعت بت وكوركي إلو بخنوع إلى المطبخ، وراحتا تلعقان ما تخلَّف من بقايا الطعام في وعاء الشوي الذي وضعته على الأرضية.
وكان يوجد خلف المطبخ — على ارتفاع درجتين عاليتين — غرفة معيشة واسعة ذات إضاءة خافتة، وافترشت أرضيتها بعض الوسائد الضخمة.
جذبت إلو أحد المقاعد نحو المنضدة وقالت: «والآن تفضلي بالجلوس، اجلسي هنا وتناولي بعضًا من الطعام والقهوة.»
قالت جولييت: «لا عليكِ، لستُ بحاجة لذلك.»
«لا، فها هي القهوة التي أعددتها لتوي، وسأحتسي قهوتي أثناء عملي، وقد تبقَّى الكثير من الطعام.»
وضعت أمام جولييت — بجانب القهوة — قطعة من الفطير؛ ذات لون أخضر فاتح ومغطاة بقطع صغيرة من المارينج.
قالت وهي تعبِّر عن عدم رضاها: «أوه، إنه جيلي الليمون، لكن قد يكون مذاقه جيدًا، أم تفضلين بعضًا من الفطير بالرواند؟»
قالت جولييت: «لا بأس، فهذا جيد.»
«إن الفوضى تعم المكان، قمت بالتنظيف بعد انتهاء مراسم ليلة الوداع، ورتبت كل شيء، ثم جاءت مراسم الجنازة، والآن وبعد أن انتهت الجنازة، عليَّ ترتيب كل شيء مجددًا.»
كان صوتها ينمُّ عن التظلم الشديد، حتى إن جولييت شعرت أنه عليها أن تقول: «عندما أنتهي من هذا يمكنني مساعدتك.»
قالت: «لا، لا أعتقد هذا، إنني أعرف مكان كل شيء.» كانت تتحرك في أرجاء المكان دون سرعة كبيرة إنما بفاعلية وتصميم من يعرف هدفه جيدًا (مثل هؤلاء السيدات لا يحتجن معاونتك، يمكنهن معرفة شخصية مَن أمامهن). استمرت في تنظيف الزجاج والصحون، وأدوات المائدة، وكانت تضع ما جفَّفته في الخزانة أو في الأدراج، ثم أخذت تكشط بقايا الطعام من الأواني والأوعية — بما فيها الوعاء الذي استردته من الكلبتين — وغمرتها في المياه المشبعة بالصابون، وراحت تنظف المائدة والنضد، وتلوي قماش تجفيف الأطباق وكأنه أعناق دجاج، وكانت تتحدث إلى جولييت، ويتخلل حديثها بعض فترات الصمت.
«هل أنتِ صديقة لآن، هل تعرفينها من قبل؟»
«لا.»
«كلا، لا أعتقد هذا؛ فإنك صغيرة في العمر. إذن لمَ أردتِ حضور الجنازة؟»
قالت جولييت: «لم أكن أعلم، لقد أتيت إلى هنا من أجل الزيارة.»
كانت تحاول أن تبدو كما لو أن الأمر جاء مصادفة، وأن لديها العديد من الأصدقاء، وهي فقط تتجول وتقوم بزيارات عارضة.
وبمزيد من الطاقة والعزم راحت إلو تلمِّع أحد الأوعية وقد اختارت ألا ترد على هذا الكلام، وجعلت جولييت تنتظر ولم تتحدث إلا بعد أن انتهت من تنظيف عدة أوانٍ.
«لقد أتيتِ لزيارة إيريك. إنك عثرتِ على المنزل الصحيح؛ فإيريك يعيش هنا.»
قالت جولييت في محاولة لتغيير دفة الحوار: «إنك لا تقيمين هنا، أليس كذلك؟»
«بلى، إنني لا أقيم هنا، بل أعيش أسفل التل مع زوجي.» كان لكلمة زوجي ثقلها، وحملت بعض الفخر والتوبيخ.
صبَّت إلو بعض القهوة في قدح جولييت دون أن يُطلب منها ذلك، ثم ملأت قدحها بعد ذلك، وأحضرت فطيرة لنفسها، وكانت مغطاة بطبقة وردية أسفلها، وعلتها طبقة من الكريمة المخفوقة.
«فطيرة الراوند بالكريمة، يجب تناولها وإلا ستفسد، لا أحتاجها، ولكني أتناولها على أي حال. هل أُحضر لك قطعة منها؟»
«لا، أشكرك.»
«لقد رحل إيريك الآن، وهو لن يعاود الليلة، لا أعتقد هذا؛ لقد ذهب إلى منزل كريستا. هل تعرفين كريستا؟»
هزَّت جولييت رأسها بالنفي بشدة.
«نحن نعيش هنا ويعرف كلٌّ منا ظروف الآخر، نعرفها جيدًا. لا أدري كيف يسير الأمر حيث تعيشين. في فانكوفر، أليس كذلك؟» أومأت جولييت رأسها بالإيجاب، ثم استأنفت إلو حديثها: «ولكني أعتقد أن الأمر ليس على هذا النحو في المدينة. وبالنسبة لإيريك، فكان يحتاج للمساعدة حتى يتمكن من العناية بزوجته جيدًا. أتفهمين ذلك؟ وكنت أنا من ساعدته.»
قالت جولييت قولًا خاليًا من الحكمة: «لكن ألا تتقاضين مرتبًا مقابل ذلك؟»
«بالطبع أتقاضى مرتبًا، لكن الأمر أكثر من مجرد كونه وظيفة، بالإضافة إلى أن إيريك يحتاج إلى نوع آخر من المساعدة … مساعدة امرأة. هل تفهمين ما أعنيه؟ لا أقصد امرأة وزوجها، أنا لا أومن بذلك، إنه ليس بالأمر اللطيف، فهو السبيل إلى وقوع خلافات. في البداية كان إيريك يصادق ساندرا، ثم رحلت، بعدها تعرَّف إلى كريستا، وكانت هناك فترة قصيرة جمع خلالها الاثنتين، ولكنهما كانتا صديقتين، ومضى الأمر على ما يرام، ولكن ساندرا لها أطفال، وكانت ترغب في الرحيل لتُلحق أولادها بمدارس أكبر. أما كريستا فهي فنانة؛ فهي تصنع أشياء من الخشب؛ من النوع الذي تجدينه على الشاطئ. ماذا نسمي ذلك النوع من الخشب؟»
قالت جولييت على مَضَض، وقد شلتها مشاعر الخيبة ومشاعر الخزي والخجل: «الأخشاب الطافية.»
«آه هي ذي. كانت تأخذ ما تصنعه إلى بعض المحال حيث يمكن بيعها. تصنع أشياء كبيرة؛ حيوانات أو طيورًا، ولكنها ليست واقعة، ليست واقعة؟»
«أتعنين ليست واقعية؟»
«نعم، نعم. وهي ليس لديها أطفال، ولا أعتقد أنها ستفكر في الرحيل. هل أخبركِ إيريك بذلك؟ أترغبين في مزيد من القهوة؟ لا يزال بعض منها في القدر.»
«لا لا، أشكرك. إنه لم يخبرني بشيء.»
«إذن فها قد أخبرتُكِ. إن كنتِ انتهيت من تناول القهوة فسآخذ القدح لأغسله.»
استدارت لتَكِز بحذائها الكلبة الصفراء التي ترقد على الجانب الآخر من الثلاجة.
«هيا استيقظي أيتها الكلبة الكسولة، سنعود لمنزلنا بعد قليل.»
ثم قالت وهي منهمكة في حوض الغسيل وظهرها للحجرة: «هناك حافلة عائدة إلى فانكوفر حوالي الثامنة وعشر دقائق، فبإمكانك العودة معي إلى منزلي، وعندما يحين موعد قيام الحافلة، سيوصلك زوجي. تفضلي بتناول طعامك معنا. إنني أستقل دراجتي، وسأقودها على مهل حتى تتمكني من السير بجانبي. المنزل ليس ببعيد.»
وهكذا تحدَّد المستقبل القريب بالنسبة لجولييت، حتى إنها لم تستغرق وقتًا في التفكير فيه، وراحت تبحث عن حقيبتها، ثم جلست ثانية، لكن على مقعد آخر هذه المرة، وكأنما رؤية المطبخ من زاوية جديدة قد جعلتها تتخذ قرارًا آخر.
قالت: «أعتقد أنني سأبقى هنا.»
«هنا؟»
«ليس لديَّ أي أمتعة لحملها؛ لذا فسأسير على قدمي حتى مكان الحافلة.»
«وأنَّى لكِ أن تعرفي الطريق؟ إنها مسافة ميل.»
قالت جولييت: «لا ليست بمسافة بعيدة.» وقد تساءلت في نفسها إذا ما كانت تعرف الطريق، ولكنها فكرت بأنه عليها أن تسير لأسفل التل فحسب.
قالت إلو: «لكنكِ تعرفين أنه لن يعود، لن يعود الليلة.»
«لا يهم.»
هزت إلو كتفيها بلامبالاة، بل ربما بازدراء شديد.
استدارت لها وقالت: «هيا يا بت انهضي. كوركي ستظل هنا، هل تريدينها هنا بالداخل، أم بالخارج؟»
«أعتقد بالخارج.»
«سأقوم بتقييدها حتى لا تتبعني؛ فهي ربما لا ترغب في البقاء مع غريب على أي حال.»
لم تتفوَّه جولييت بكلمة.
«الباب يغلق عندما نغادر. أرأيتِ؟ فإذا خرجتِ وأردتِ الدخول مرة أخرى، فعليكِ بالضغط على هذا، ولكن إذا ما غادرتِ المنزل فلا تضغطي على شيء، سيغلق من تلقاء نفسه. أفهمتِ؟»
«نعم.»
«لم نعتَد الاهتمام بإحكام غلق الأبواب، ولكن هناك الكثير من الغرباء هذه الأيام.»
•••
بعدما تطلَّعا للنجوم، توقف القطار لفترة في وينيبيج، فهبطا منه، وسارا وسط رياح كانت شديدة البرودة لدرجة تعذَّر معها التنفس بسهولة، ناهيك عن الحديث. وعندما صعدا إلى القطار مرة أخرى، جلسا في عربة الاستراحة، وطلب لهما كأسين من البراندي.
قال: «سيُشعرنا بالدفء ويساعدك على النوم.»
ولكنه لم يُرِد أن يخلد للنوم، فسيظل مستيقظًا حتى ينزل في ريجينا التي سيبلغها قرب الساعات الأولى من الصباح.
عندما سار معها حتى عربتها كانت معظم الأَسِرَّة قد أُعدت للنوم، وكانت الستائر ذات اللون الأخضر الداكن تضيق المسافة عبر الممر. كانت العربات تحمل أسماء، وكان اسم عربتها ميراميتشي.
همست بصوت خفيض وهما يقفان في المسافة التي تفصل بين العربات: «ها هي العربة.» وكانت يده تدفع الباب من أجلها.
«فلتودِّعيني هنا إذن.» ثم سحب يده وحاولا الوقوف بتوازن وسط اهتزاز القطار كي يتمكن من تقبيلها. وعندما انتهى من هذا، لم يتركها، بل ضمها وأخذ يمسح على ظهرها، ويقبِّل وجهها كله.
لكنها ابتعدت وقالت سريعًا: «إنني عذراء.»
ضحك قائلًا: «نعم، نعم.» وقبَّل عنقها، ثم أطلق سراحها ودفع الباب الذي أمامها. سارا معًا عبر الممر حتى وصلت إلى مكان نومها، وأسندت جسمها على الستارة المنسدلة. استدارت وهي تتوقع أن يقبِّلها مرة أخرى أو أن يلمسها. بَيْدَ أنه انسلَّ بهدوء كما لو أنهما قد اقترب أحدهما من الآخر مصادفة.
•••
يا للغباء! يا للصدمة! خائفة بالطبع من أن تمتد يده لأبعد من هذا، وتبلغ العقدة التي صنعتها لتأمين الفوطة الصحية وربطها بالحزام الذي ترتديه. لو كانت من هذا النوع من الفتيات اللاتي يعتمدن على استخدام السدادة القطنية لما ظهرت الحاجة لذلك.
ولمَ قالت إنها عذراء؟ ألم تستمر فيما حدث في متنزه ويليس بارك حتى وصلت إلى تلك المرحلة الكريهة وقد فعلت هذا لتضمن أن تلك الحالة لن تكون عائقًا أمام فعل أي شيء؟ لا بد وأنها كانت تفكر فيما ستقوله له — فهي بالقطع لن تستطيع أن تخبره بأنها في فترة حيضها — وذلك إن أراد أن تتطور الأمور لأكثر من هذا. ولكن كيف له أن ينوي فعل هذا على أي حال؟ كيف؟ وأين؟ في فراشها الصغير هذا؟ في هذه المساحة الضيقة ومع احتمالية أن يكون من حولهما من الركاب لا يزالون مستيقظين؟ أم تراه سيكتفي بالوقوف والتحرك للأمام والخلف، والالتصاق بالباب الذي يمكن لأي شخص أن يأتي ويفتحه، في تلك المساحة غير المستقرة بين العربات؟
والآن يمكنه أن يخبر أي شخص أنه كان ينصت طوال الليل لفتاة حمقاء تتفاخر طوال الليل بمعلوماتها عن الأساطير اليونانية، وفي نهاية المطاف — وعندما أراد تقبيلها قبلة الوداع في المساء ليتخلص منها — راحت تصرخ بأنها عذراء.
ولكنه لم يبدُ من ذلك النوع من الرجال الذين يقدمون على فعل هذا، أو يتحدثون بهذا الأسلوب، لكنها لم تستطع أن تمنع نفسها على أي حال من تخيل ذلك.
ظلت مستيقظة طوال الليل، إلا أنها راحت في النوم عندما توقف القطار في ريجينا.
•••
عندما أصبحت بمفردها، كان باستطاعتها أن تستكشف جوانب المنزل، لكنها لم تفعل ذلك الشيء. لقد استغرقت عشرين دقيقة — على الأقل — حتى تتمكن من التخلص من وجود إلو. لم تكن خائفة من أن تعود إلو مرة أخرى لكي تطمئن على ما يمكن أن تفعله، أو لكي تأخذ شيئًا نسيته. لم تكن إلو من ذلك النوع الذي يمكن أن ينسى شيئًا، حتى لو كان هذا في نهاية يوم شاقٍّ. ولو كانت اعتقدت أن جولييت يمكن أن تسرق شيئًا، لطردتها على الفور بكل بساطة.
ومع هذا، كانت من ذلك النوع من النساء اللواتي يفرضن سطوتهن على المكان، وخاصة هنا في المطبخ. وقد نضح كل شيء رأته جولييت بحوذة إلو؛ بدءًا من أصص الزرع (أهي أعشاب؟) على عتبات النوافذ، مرورًا بلوح تقطيع الطعام، حتى مشمع الأرضيات اللامع.
وعندما نجحت في إبعاد إلو، ليس خارج الغرفة، وإنما للوراء قليلًا بجوار الثلاجة ذات الطراز القديم، راحت جولييت تفكر في كريستا. إيريك لديه امرأة. بالطبع هو على علاقة بامرأة … كريستا. ورأت جولييت أمامها إلو أخرى، ولكن أصغر سنًّا وأكثر إثارة؛ فخذان عريضتان، ذراعان قويتان، شعر طويل منسدل — أشقر لا يحوي أي شعيرات بيضاء — صدر بارز للأمام بوضوح أسفل قميص واسع. نفس عدوانية إلو غير أنها بصورة أكثر إثارة في كريستا، نفس أسلوب الاستمتاع في لَوْك الكلمات قبل التلفظ بها.
طافت بذهنها صورة امرأتين أخريين؛ وهما بريسيس وكرايسيس، وهما رفيقتا آخيل وأجاممنون، وكانتا توصفان كلاهما بأنهما ذواتا «خدود جميلة». وعندما كان المدرس يقرأ هذه الكلمة (التي لا تتذكرها الآن)، كانت تصطبغ جبهته باللون الوردي، ويبدو وكأنه يكتم ضحكته. ومنذ هذه اللحظة، أصبحت جولييت تحتقره.
فماذا لو كانت كريستا أكثر حدة واتصافًا بسمات أهل الشمال من بريسيس وكرايسيس؟ هل ستبدأ جولييت في ازدراء إيريك أيضًا؟
ولكن أنَّى لها أن تعرف إن سارت باتجاه الطريق الرئيسي واستقلَّت الحافلة؟
في الواقع إنها لم تكن تنتوي على الإطلاق أن تستقل تلك الحافلة. هذا ما يبدو. وفي ظل ابتعاد إلو عن طريقها وتفكيرها كان من السهل أن تكتشف نواياها وطريقة تفكيرها. نهضت أخيرًا، وصنعت المزيد من القهوة، وصبَّتها في كوب كبير ذي يد، وليس في قدح من الأقداح التي وضعتها إلو.
كانت شديدة القلق والتوتر بدرجة منعتها من الشعور بالجوع، لكنها راحت تتفحص الزجاجات الموضوعة على النضد، التي لا بد وأن أحضرها الآخرون من أجل ليلة الوداع. وجدت براندي الكرز، شراب الخوخ المسكر، مشروب تيا ماريا، شراب فيرموت المحلَّى. فُتحت هذه الزجاجات لكن من الواضح أنها لم تَنَل إعجاب الزائرين؛ فالمشروبات التي أقبل الناس عليها بحق كانت في الزجاجات الفارغة التي صفَّتها إلو بجوار الباب؛ حيث وجدت زجاجات فارغة لمشروبات الجين، والويسكي، والجعة، والنبيذ.
صبَّت من شراب تيا ماريا فوق القهوة، وأخذت الزجاجة معها وهي تصعد الدرج الذي يؤدي إلى غرفة المعيشة الواسعة.
كان هذا واحدًا من أطول أيام العام، ولكن الأشجار المحيطة — أشجارًا ضخمة دائمة الخضرة ذات أغصان ملتفة، وشجرة القطلب ذات الأطراف الحمراء — كانت تحجب ضوء الشمس المائلة إلى المغيب، بينما ألقت نافذة السقف بعض الضوء على المطبخ فجعلته ساطعًا، أما النوافذ في غرفة المعيشة فلم تكن سوى فتحات طولية في الحائط، وقد بدأ الظلام يحل عليها بالفعل. لم تكن أرضية الغرفة مفروشة بالكامل؛ إذ غطَّت الأرضية ألواح الخشب الرقائقي وكستها الأبسطة الرثة، وكانت الغرفة مؤثثة بطريقة عشوائية وغريبة؛ حيث ضمت في معظمها الوسائد الملقاة على الأرض، وزوجًا من الوسائد المغطاة بالجلد المتشقق. وثَمة مقعد ضخم من الجلد؛ من ذلك النوع الذي يميل للوراء، وله مسند للقدمين. بينما غطى الأريكة لحاف أصلي ذو قماش من قطع ملونة مختلفة لكنه رثٌّ، وبالحجرة أيضًا جهاز تليفزيون قديم، ورفٌّ للكتب مصنوع من الألواح الخشبية والطوب، بينما لا توجد فوقه أي أنواع من الكتب، ما عدا كومة من مجلات ناشونال جيوجرافيك، مع أعداد قليلة من مجلات عن الإبحار، وإصدارات من مجلة بوبيولر ميكانكس.
كان من الواضح أن إلو لم تأتِ لتنظيف هذه الغرفة؛ فالأرض ملطخة بالرماد حيث منافض السجائر ملقاة على الأبسطة، وبقايا الطعام متناثرة في كل مكان. وخطر على ذهن جولييت أن تبحث عن المكنسة — إن كانت هناك واحدة — لكنها عادت وفكرت أنه حتى لو أدارتها فمن المحتمل أن تقع بعض الحوادث؛ فربما شفطت المكنسة الأبسطة الخفيفة؛ لذا جلست فحسب على المقعد المصنوع من الجلد، وأضافت المزيد من مشروب تيا ماريا حيث انخفض منسوب القهوة في الكوب.
لم تَرُق لها أشياء كثيرة في هذا الساحل؛ فقد كانت الأشجار شديدة الضخامة، ومتكاثفة بعضها بجانب بعض، وليس لها أي سمات متفردة بها؛ فهي ببساطة تكوِّن غابة من الغابات، وكانت الجبال ضخمة بصورة يصعب تصديقها، أما الجزر التي تطفو فوق مضيق جورجيا فكانت أشبه بصورة مصطنعة. وهذا المنزل — بمساحته الكبيرة وسقفه المائل، وأخشابه غير المكتملة — قد بدا فظًّا وغير مريح.
كانت الكلبة تنبح من آنٍ لآخر، ولكن ليس بصورة سريعة ومتلاحقة، ربما كانت تريد أن تدلف إلى المنزل من أجل بعض الرفقة. ولكن جولييت لم تقتنِ كلبًا من قبل مطلقًا؛ فالكلب في المنزل يكون شاهدًا، وليس رفيقًا، وسيجعلها تشعر بعدم الارتياح.
ربما كانت الكلبة تنبح لاكتشافها غزالًا، أو دبًّا، أو أسد الجبال. لقد تناولت الصحف في فانكوفر خبرًا عن أحد أسود الجبال الذي هاجم طفلًا وأصابه، وهي تعتقد بوجوده في هذا الساحل.
من ذا الذي يرغب في العيش في مكان تشاركه كلَّ جزء خارجه الحيواناتُ العدوانية المفترسة؟
«كاليباريوس» أو ذات الخدود الجميلة. ها قد تذكَّرتها الآن. لقد لمعت الكلمة التي قالها هوميروس وعلقت بذهنها. والأكثر من هذا، أنها تذكرت فجأة كل كلماتها اليونانية، كل شيء بدا أنها وضعته في خزانة لما يقرب من ستة أشهر حتى الآن. ولأنها لم تكن تدرس اللغة اليونانية في تلك الفترة، فقد وضعتها بعيدًا.
هذا ما يحدث؛ إنك تضع شيئًا جانبًا لفترة ما، وبين كل فترة وأخرى تُلقي نظرة على ما في الخزانة بحثًا عن شيء آخر، وتتذكره على الفور، أو هكذا تظن. ثم يتحول بعدها هذا الشيء إلى مجرد شيء موجود في الخزانة فحسب وتتراكم فوقه وبجانبه بعض الأشياء الأخرى، وفي نهاية المطاف تجد نفسك لا تفكر في ذلك الشيء على الإطلاق.
هذا الشيء الذي كان كنزك الثمين اللامع، لم تعد تفكِّر به، إنها خسارة لا تتأملها مرة واحدة في حينها، وتصبح الآن شيئًا تتذكره بالكاد.
هذا ما يحدث.
لكن هل يحدث هذا حتى لو لم تضعه جانبًا، حتى لو كنت تكسب من ورائه قوت يومك، كل يوم؟ راحت جولييت تفكر في مدرسيها الأكبر سنًّا بالمدرسة؛ حيث كان معظمهم لا يولي سوى القليل من الاهتمام لما يدرِّسونه. فلنأخذ خوانيتا مثالًا على هذا؛ فهي التي اختارت اللغة الإسبانية لأنها تتماشى مع اسمها المسيحي (هي من أصل أيرلندي)، وأرادت أن تتقن التحدث بالإسبانية جيدًا لتستخدمها في رحلاتها؛ ولا يمكنك الجزم بأن الإسبانية كنزها الثمين.
القليل من الناس، بل القليل جدًّا، هم من يحوزون ثروة ثمينة، وإذا ما حدث وأصبحتَ تمتلك واحدة، فعليكَ بالتمسك بها، يجب ألا تعرض نفسك لأي هجوم، حتى لا يسلبها منك أي أحد.
أحدث شراب تيا ماريا مع القهوة أثره بطريقة ما؛ مما جعلها تشعر باللامبالاة وعدم الاهتمام، ولكن بالقوة في الوقت نفسه؛ فجعلها تعتقد أن إيريك — في نهاية الأمر — ليس على هذا القدر من الأهمية. إنه شخص بمقدورها أن تتسكع معه فحسب. نعم التسكع هي الكلمة الصحيحة، وذلك كما فعلت أفروديت مع أنكيسيس، وفي صباح أحد الأيام ستفلت من يده وتذهب بعيدًا.
نهضت من مكانها، ووجدت طريقها إلى دورة المياه، ثم عادت واستلقت على الأريكة متدثرة باللحاف، ومن شدة النعاس، لم تلحظ شعر كوركي أو رائحتها فوقه.
عندما استيقظت كان الصبح قد أشرق، برغم أنها لا تزال السادسة وعشرين دقيقة في ساعة المطبخ.
كانت تشعر بصداع، ووجدت قنينة من أقراص الأسبرين في دورة المياه، فتناولت قرصين واغتسلت، ومشطت شعرها، وأخرجت فرشاة الأسنان من حقيبتها وغسلت أسنانها، ثم أعدت قدرًا من القهوة، وتناولت شريحة من الخبز المعد في المنزل ولم تعبأ بتسخينه أو وضع الزبد فوقه. جلست قبالة مائدة المطبخ، وقد تسلل ضوء الشمس من خلال الأشجار، وألقى بظلال نحاسية على جذوع شجرة القطلب الملساء. شرعت كوركي في النباح، وأخذت تنبح لفترة طويلة قبل أن تنعطف إحدى الشاحنات وتدخل الفناء مما جعلها تتوقف عن النباح.
سمعت جولييت صوت باب الشاحنة وهو يغلق، وسمعته يتحدث إلى الكلبة، وعندئذ تملَّكها الخوف، وأرادت أن تختبئ في أي مكان (قالت فيما بعد: «كان بإمكاني أن أزحف تحت المائدة»، لكنها لم تفكر بالقطع أن تفعل شيئًا في مثل هذه السذاجة). ذكَّرها هذا الموقف بتلك اللحظة في المدرسة قبل إعلان الفائز بالجائزة، لكن هذا الموقف كان أسوأ؛ لأنه ليس لديها أي أمل منطقي للفوز، ولن تكون هناك فرصة أخرى على هذا القدر من الأهمية في حياتها.
عندما فتح الباب لم تستطع أن ترفع بصرها، وتشابكت أصابع يديها وهي تقبضهما وتضعهما على ركبتيها.
قال: «إنك هنا.» كان يضحك في ابتهاج وشعور بالنصر والإعجاب كما لو أنه أمام أكثر المشاهد جرأة وشجاعة. وعندما فتح ذراعيه، بدا وكأن هناك رياحًا هبَّت في الغرفة وجعلتها ترفع بصرها.
منذ ستة أشهر لم تكن تعرف أن هذا الرجل موجود على قيد الحياة. منذ ستة أشهر كان الرجل الذي صرعته عجلات القطار لا يزال على قيد الحياة، وربما ينتقي بعض الملابس من أجل القيام برحلته.
«إنك هنا.»
استطاعت أن تستشفَّ من صوته أنه يناديها، فنهضت، وهي لا تقوى على الحراك، ولاحظت أنه أكبر، وأضخم، وأكثر تهورًا مما تتذكر. اقترب منها وشعرت بأنه يتفحصها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها، وغمرها ذلك الشعور بالارتياح، واجتاحتها السعادة. كم هو مدهش هذا الذي يحدث، كم هو قريب إلى الحيرة والخوف.
•••
اتضح فيما بعد أن إيريك لم يكن مندهشًا كما تظاهر بذلك؛ إذ هاتفَتْه إلو الليلة الماضية؛ لكي تحذره بشأن الفتاة الغريبة — جولييت — وعرضت عليه أن تتحقَّق وتعرف إن كانت الفتاة قد استقلت الحافلة بالفعل أم لا. واعتقد هو أنه من الصواب أن يغتنم هذه الفرصة بأنها ستفعل ذلك — ربما ليختبر القَدَر — ولكن عندما هاتفته إلو لتخبره بأن الفتاة لم ترحل، أصابته الدهشة من شعوره بالفرح الذي اعتراه. ومع ذلك، لم يرجع إلى المنزل على الفور، ولم يخبر كريستا، بالرغم من أنه يدرك أنه عليه إخبارها في القريب العاجل.
استوعبت جولييت كل تلك الأحداث شيئًا فشيئًا في الأسابيع والأشهر التالية؛ فبعض المعلومات جاءتها عن طريق الصدفة، والبعض الآخر جاء نتيجة لطريقة استقصائها التي اتسمت بالتهور.
واعتبر مصارحتها عن عدم عذريتها شيئًا ثانويًّا.
لم تكن كريستا تشبه إلو؛ فليس لديها فخذان عريضتان أو شعر أشقر؛ فهي امرأة ذات شعر داكن، نحيفة، لمَّاحة وذكية، وفي بعض الأحيان متجهمة، وهي التي ستصبح صديقة جولييت الرائعة وسندها خلال السنوات التالية، بالرغم من أنها لم تتخلَّ تمامًا عن عادتها في إغاظتها بمكر، وعن اللمحات الساخرة للمنافسة الدفينة بينهما.