الخطايا
توجهوا بالسيارة إلى خارج البلدة نحو منتصف الليل؛ وجلس هاري ودلفين في المقعد الأمامي، بينما استقرت آيلين ولورن في المقعد الخلفي. كانت السماء صافية وقد انزلقت الثلوج من فوق الأشجار، لكنها لم تذب تحتها أو حتى فوق تلك الصخور التي امتدت على جانب الطريق. أوقف هاري السيارة بجانب أحد الجسور.
«هنا مناسب.»
قالت آيلين: «قد يرى أحدهم أننا توقفنا هنا، وربما يتوقف ليتبيَّن ما نحن مُقدمون على عمله هنا.»
شرع في القيادة مرة أخرى، وانعطفوا عند أول طريق ضيق غير ممهد قابلوه، حيث هبطوا من السيارة جميعًا وساروا بحذر بجانب الضفة، لمسافة قصيرة، بين أشجار الأرز الداكنة المتشابكة. صدرت بعض الأصوات الخفيفة من تحتهم نتيجة تفتُّت الثلوج، بالرغم من أن الأرض كانت لزجة وموحلة. كانت لورن لا تزال ترتدي منامتها أسفل معطفها، ولكن آيلين جعلتها ترتدي حذاءها الطويل ذا الرقبة.
قالت آيلين: «أهنا مناسب؟»
قال هاري: «لكنه لا يبعد كثيرًا عن الطريق.»
«إنه يبعد بمسافة كافية.»
•••
كان هذا هو العام الذي أعقب ترك هاري لعمله في إحدى مجلات الأخبار بسبب إنهاكه الشديد، وكان قد اشترى الصحيفة الأسبوعية في تلك البلدة الصغيرة التي يتذكرها منذ أيام طفولته؛ فقد كانت عائلته لديها منزل صيفي يطل على واحدة من تلك البحيرات الصغيرة الموجودة هنا، وتذكَّر أول كوب من الجعة احتساه في ذلك الفندق المطل على الطريق الرئيسي، وقد ذهب بصحبة آيلين ولورن لتناول العشاء في أول ليلة أحد يمضونها بالبلدة.
ولكن الحانة كانت مغلقة، واضطر هاري وآيلين لشرب المياه.
قالت آيلين: «كيف ذلك؟»
وقد رفع هاري حاجبَيْه وهو ينظر نحو مالك الفندق، والذي كان هو النادل أيضًا في نفس الوقت.
قال: «أتغلق يوم الأحد؟»
«ليس لدينا تصريح.» تحدَّث المالك بلكنة ثقيلة، بدت أنها تحمل بعضًا من الازدراء. كان يرتدي قميصًا، وربطة عنق، وسترة من الصوف، وسروالًا، بدت جميعها متشابهة؛ جلُّ ما كان يرتديه ذو ملمس ناعم، به بعض الكرمشة، والتجعيدات كبشرة الجلد الخارجية الجافة، يميل لونها إلى الشحوب كما لا بد وأن تكون بشرته الحقيقية أسفل ملابسه.
قال هاري: «لقد تغيَّر الأمر واختلف عن الماضي.» وعندما لم يُجِبه الرجل استمر في حديثه وطلب وجبة اللحم البقري المشوي مع كل مشتملاتها.
قالت آيلين: «يا له من شخص ودود!»
«إنه الطابع الأوروبي، إنها ثقافتهم؛ فهم لا يشعرون بأن عليهم أن يبتسموا طوال الوقت.» ثم أشار إلى بضعة أشياء في غرفة الطعام، والتي لها نفس الطابع؛ فها هو السقف المرتفع، والمروحة التي تدور ببطء، وتلك اللوحة الزيتية القاتمة التي تحتوي على منظر لأحد كلاب الصيد وفي فمه طائر يكسوه الريش بلون أحمر يميل إلى الاصفرار.
دخل بعض المرتادين حيث كانت هناك حفلة عشاء عائلية؛ فتيات صغيرات بأحذيتهن البراقة وملابسهن المزخرفة المنفوشة، وطفل صغير، وصبي يافع يرتدي حلته، وقد غلبه الإحراج الشديد، العديد من الآباء والأجداد؛ فهناك رجل كبير في السن ونحيف يبدو شارد الذهن، وامرأة عجوز تتحرك ببطء فوق مقعدها المتحرك وترتدي طوقًا من الزهور على معصمها. وكانت أي امرأة في الحفل بردائها المنمق تماثل وحدها أربع نسوة بحجم آيلين.
همس هاري: «إنه احتفال بعيد زواج.»
وفي طريقه للخروج توقف ليقدم نفسه وعائلته، وليخبرهم بأنه زميلهم الجديد بالجريدة، وليقدم أيضًا تهانيه بعيد الزواج، وتمنى ألا يمانعوا في أن يقوم بتدوين أسمائهم. كان هاري رجلًا ذا وجه عريض، وهيئة صبيانية بعض الشيء، وبشرة خمرية وشعر لامع بلون بني فاتح. وقد غمر شعوره بالسعادة وعظيم التقدير جلَّ المائدة — بالرغم من أنه لم يمتد ليطول ذلك الصبي المراهق أو الزوجين المتقدمين في العمر. وقد سأل عن المدة التي قضياها في زواجهما، فأخبروه بأنها خمسة وستون عامًا.
صاح هاري وقد أصابته الفكرة بالدوار: «خمسة وستون عامًا؟» تساءل إن كان بإمكانه تقبيل العروس، وقد فعل، ولامست شفتاه طرف أذنها الطويلة عندما أدارت رأسها جانبًا.
قال لآيلين: «والآن عليكِ بتقبيل العريس.» فابتسمت ابتسامة خافتة وطبعت قبلة سريعة أعلى رأسه.
سأل هاري عن وصفة الزواج السعيد.
قالت واحدة من النساء اللاتي اتسمن بالضخامة: «إن أمي لا تستطيع الكلام، لكن دعوني أسأل أبي.» ثم راحت تصيح في أذن والدها: «ما الذي تنصح به من أجل زواج سعيد؟»
قطَّب حاجبَيْه بطريقة شقية وقال:
«بكل بساطة ضع عنقها تحت قدمك طوال الوقت.»
ضحك الكبار، وقال هاري: «حسنًا، سأذكر في الجريدة أنكَ دائمًا ما تحرص على أن تنال موافقة زوجتك في كل شيء.»
وبالخارج قالت آيلين: «كيف لهم أن يكونوا على هذا القدر من السمنة؟ لا أفهم. ربما عليك أن تأكل آناء الليل والنهار لتصل إلى هذا الحجم.»
قال هاري: «شيء غريب.»
قالت: «كان هناك بعض من الفاصوليا الخضراء المعلبة. في أغسطس. أليس هذا هو الوقت الذي تنضج فيه الفاصوليا الخضراء؟ وهنا وسط الريف حيث يفترض أنهم يزرعون المحاصيل؟»
قال هاري بسعادة: «إنه لشيء أعجب من العجب.»
•••
سرعان ما طرأت بعض التغييرات على الفندق؛ فتمَّ تركيب سقف معلَّق في غرفة الطعام السابقة؛ عبارة عن مربعات من الورق المقوى مثبَّتة بشرائط من المعدن، واستبدلت الموائد المستديرة الضخمة بأخرى مربعة صغيرة الحجم، وكذلك تم تغيير الكراسي الخشبية الثقيلة ليحل محلها كراسي معدنية أخف وزنًا ذات مقاعد بلاستيكية من اللون البني المائل للحمرة. وبسبب وجود الأسقف المنخفضة، كان لا بد من تقليل حجم النوافذ، فأصبحت على شكل مستطيلات عريضة، وعُلِّقت على إحداها لافتة من النيون كُتب عليها «مقهى مرحبًا».
ولم يكن المالك — الذي يُدعى السيد باليجيان — يبتسم على الإطلاق أو يتفوه بكلمة تزيد عما يمكنه لأي شخص بالرغم من وجود اللافتة التي ترحب بالزائرين.
وعلى إثر التغييرات، امتلأ المقهى بالزبائن في فترة الظهيرة، أو الساعات المتأخرة في فترة ما بعد الظهيرة. وكانت الزبائن من طلاب المدرسة الثانوية، وأكثرهم من طلاب السنة التاسعة حتى الحادية عشرة. كذا كان يتردد عليها بعضٌ من طلاب المرحلة المتوسطة. أما جاذبية المكان الشديدة فكانت تكمن في أنه بمقدور أي شخص أن يدخن، لكن لا يمكنك شراء السجائر إن كنت تبدو أقل من ستة عشر عامًا. كان السيد باليجيان حازمًا بشأن ذلك؛ فكان يقول بصوته العميق الكئيب: «لا، لا يمكنك ذلك.»
وفي ذلك الوقت قام بتعيين امرأة للعمل معه، وإن تصادف وحاول أي شخص صغير السن أن يبتاع منها السجائر كانت تنفجر في الضحك وتقول:
«مع من تمزح يا ذا الوجه الطفولي.»
ولكن بالرغم من ذلك كان باستطاعة أي طالب في السادسة عشرة من عمره أو أكثر جمع النقود من أولئك الطلاب الأصغر سنًّا ليبتاع دستةً من علب السجائر.
قال هاري: «تنفيذًا لنصوص القانون فقط.»
توقف هاري عن تناول طعام الغداء هناك؛ حيث كان هناك صخب شديد بالمكان، لكنه كان لا يزال يذهب إليه ليتناول طعام الإفطار. تمنى لو أن السيد باليجيان أصبح أكثر ودًّا ليروي قصة حياته. احتفظ هاري بملف مليء بالأفكار التي تصلح للعديد من الكتب، وكان دائمًا ما يتطلع لمعرفة قصص حياة الآخرين؛ فكان يقول إن شخصًا مثل السيد باليجيان — أو حتى تلك النادلة السمينة الفظة الحديث — يمكن أن يخفيا مأساة معاصرة، أو حتى مغامرة، تصنع كتابًا من أكثر الكتب مبيعًا.
كان هاري قد أخبر لورن بأنه من الأشياء الهامة في الحياة أن يعيش المرء في العالم باهتمام وشغف؛ بمعنى أن تفتح عينَيْك وترى كل الإمكانيات، والجوانب الإنسانية، في كل شخص تقابله؛ أن تكون على دراية بما حولك. إن كان لديه أي شيء ليعلِّمه إياها فقد كان هو ذاك: «أن تكون على دراية بما حولك.»
•••
كانت لورن تُعِدُّ طعام إفطارها بنفسها، ويتكون عادة من الحبوب الممزوجة بشراب القيقب المحلَّى بدلًا من اللبن، أما آيلين فتُعِدُّ قهوتها وتعود إلى فراشها وتحتسيها على مهل، وكانت دومًا لا ترغب في الحديث في ذلك التوقيت؛ إذ كان عليها أن تُعِدَّ نفسها لتبدأ عمل ذلك اليوم في مكتب الجريدة. وعندما كانت تستعيد نشاطها على نحو كافٍ — وذلك أحيانًا بعد أن تغادر آيلين إلى المدرسة — كانت تنهض من الفراش، وتأخذ حمامًا وترتدي واحدًا من أطقم ملابسها المثيرة غير الرسمية. وحيث إن فصل الخريف أوشك على الانتهاء كانت عادة ما ترتدي سترة ثقيلة، وتنورة قصيرة من الجلد، وجوارب ضيقة ذات ألوان زاهية. ومثلها كمثل السيد باليجيان؛ فقد استطاعت آيلين أن تبدو مختلفة عن أي فرد في البلدة، لكنها على العكس منه كانت جميلة بشعرها الأسود القصير، وأقراطها الذهبية الرفيعة التي تتخذ شكل علامة التعجب، وجفونها المظللة باللون الأرجواني الخفيف. كان أسلوبها في مكتب الجريدة يتسم بالحزم، وكانت تعبيراتها جامدة وخالية من الود بعض الشيء، لكن ابتساماتها المشرقة المدروسة كانت تنجح في كسر ذلك في بعض الأحيان.
كانوا قد استأجروا أحد المنازل التي تقع عند أطراف البلدة، وكانت تقع خلف فناء المنزل مباشرة أراضٍ برية شديدة الجاذبية من التلال الصخرية، ومنحدرات الجرانيت، ومستنقعات شجر الأرز، والبحيرات الصغيرة، وغابة مليئة بمختلف الأشجار؛ فهناك شجر الحور، والقيقب الناعم، والأرزية الكندية، وشجر التنوب. لقد أحب هاري المكان، وقال إنه ليس ببعيد أن يستيقظوا ذات يوم ليروا أيلًا في الفناء الخلفي. عادت لورن إلى المنزل بعد انتهاء اليوم الدراسي بعد أن انكسرت الشمس وتلاشى دفء ذلك اليوم من أيام الخريف الذي لا بأس به. كان المنزل باردًا، وتنبعث منه رائحة طعام عشاء الليلة الماضية، ومسحوق القهوة التي فسدت، والقمامة التي كان عليها أن تلقيها بالخارج. كان هاري قد صنع كومة من السماد؛ فقد كان يعتزم أن يزرع حديقة من الخضراوات في العام القادم. حملت لورن الدلو المليء بالقشور، وبقايا التفاح، ومسحوق القهوة وفضلات الطعام إلى أطراف الغابة، حيث من الممكن أن يظهر أحد الدببة أو واحد من حيوانات الأيل لتناولها. تحولت أوراق شجر الحور إلى اللون الأصفر، وكانت أشجار الأرزية الكندية تحمل بعض النتوءات البرتقالية ذات الزغب بجانب الأشجار دائمة الخضرة. قامت بإلقاء القمامة ثم هالت عليها بعضًا من الطين والحشائش تمامًا كما علَّمها هاري.
اختلفت حياتها على نحو كبير الآن مقارنة بما كانت عليه منذ أسابيع قليلة فقط؛ وذلك عندما كانت هي وهاري وآيلين يستقلون السيارة متجهين نحو واحدة من البحيرات الصغيرة من أجل السباحة في أحد الأيام الحارة في فترة ما بعد الظهيرة. وفي المساء تذهب هي وهاري في جولات مغامرة حول البلدة، بينما كانت آيلين تقوم بصنفرة جدران المنزل وطلائها ولصق أوراق الحائط زاعمة أنه بمقدورها أن تقوم بذلك بنفسها بصورة أسرع وأفضل. وكان كل ما تطلب من هاري أن يفعله هو أن يقوم بإزاحة صناديق أوراقه، وخزانة ملفاته ومكتبه بعيدًا عن طريقها، ووضعها في حجرة صغيرة متواضعة في قبو المنزل، وقد عاونته لورن في ذلك.
كان أحد صناديق الكرتون الذي حملته خفيفًا بطريقة غريبة، وبدا أنه يحوي شيئًا ناعمًا، لا يشبه الورق، بل أشبه بالقماش أو خيوط الغزل. وبمجرد أن قالت: «ما هذا؟» ورآها هاري وهي تحمله قال: «انتظري.» ثم أردف: «يا إلهي!»
وانتزع الصندوق من يدها ووضعه على الفور في أحد أدراج خزانة الملفات، ثم أغلقها بعنف وهو يقول ثانية: «يا إلهي!»
كان نادرًا ما يتحدث إليها بهذا الأسلوب الفظ الغاضب، ثم راح ينظر حوله كما لو أن هناك أحدًا يراقبهما، ثم خبط بيده على بنطاله.
قال: «إنني جد آسف، لم أتوقع أن تلتقطي هذا الصندوق.» اتكأ بمرفقه على خزانة الملفات ثم أحنى رأسه ووضع جبهته بين كفَّيه.
قال: «الآن، الآن يا لورن. بإمكاني أن أخترع أي كذبة أقولها لك، لكني سأخبرك بالحقيقة؛ لأنني أعتقد أنه ينبغي أن يعرف الأطفال الحقيقة، أو على الأقل ينبغي أن يعرفها من هم في مثل عمرك، لكن في تلك الحالة سيكون هذا بمثابة سر، اتفقنا؟»
قالت لورن: «اتفقنا.» ولكن كان هناك شيء في قرارة نفسها جعلها تتمنى ألا يفعل ذلك.
قال هاري: «هذا الصندوق به رماد.» وخفت صوته على نحو غريب وهو يلفظ كلمة رماد، ثم أردف قائلًا: «إنه ليس رمادًا عاديًّا، بل رماد ناتج عن إحراق جثة رضيع. هذا الرضيع توفي قبل مولدك. حسنًا، اجلسي.»
جلست فوق كومة من المفكرات ذات الغلاف المقوى، والتي تحتوي على كتابات هاري. رفع رأسه ثم نظر إليها.
«ما أخبرتك به أمرٌ مؤلم بالنسبة لآيلين؛ لهذا ينبغي أن يظل سرًّا؛ ولذا لم نخبرك به قط؛ فآيلين لا تحتمل أن يذكِّرها به أحد ثانية. والآن، أفهمتِ ذلك؟»
قالت ما ينبغي لها قوله في هذا الموقف: «نعم.»
«حسنًا، والآن ما حدث هو أننا رُزقنا بذلك الطفل قبل أن نرزق بكِ، وكانت بنتًا، وعندما كانت الرضيعة لا تزال ضعيفة وضئيلة الحجم، حملت آيلين للمرة الثانية. كان ذلك صدمة كبيرة لها؛ لأنها قد أيقنت لتوِّها كم المجهود الشاق الذي تتطلبه العناية بطفل حديث الولادة، وها هي لا تحصل على أي قسط من النوم وتتقيأ بسبب شعورها بالغثيان في الصباح، بل في الواقع لم يكن في الصباح فقط، بل في فترة الظهيرة والمساء، ولم تكن تدري كيف تواجه الأمر؛ فقد أصبحت حاملًا بالفعل. وذات ليلة فقدت السيطرة على مشاعرها، وواتتها فكرة الخروج. استقلت السيارة وبصحبتها الرضيعة في مهدها، وكان الظلام قد حلَّ، والأمطار تهطل، وكانت تقود السيارة بسرعة شديدة ولم تلحظ أحد منعطفات الطريق، فاصطدمت سيارتها. هذا ما حدث. لم تكن الرضيعة مثبَّتة على نحو جيد في مهدها، فوقعت منه وارتطمت بشدة. وأصيبت آيلين بكسر في ضلوعها وبارتجاج في المخ، وبدا الأمر حينها وكأننا سنفقد الطفلين.»
أخذ نفسًا عميقًا ثم قال:
«أعني أننا فقدنا واحدًا بالفعل؛ فعندما سقطت الرضيعة من مهدها ارتطمت بشدة وماتت بالطبع، لكننا لم نفقد ذلك الآخر الذي كانت تحمله آيلين في أحشائها؛ لأنه كان أنتِ. أفهمتِ الآن؟ أنتِ.»
أومأت برأسها ببطء.
«لذا؛ فالسبب الذي لم يجعلنا نخبرك بذلك — بجانب حالة آيلين الانفعالية — هو أن الأمر قد يُشعرك بأنك شخص غير مرغوب فيه، ولم نكن نريد أن يحدث هذا في بداية هذه الظروف، لكن عليكِ أن تصدقيني بأننا كنا نرغب بوجودك بشدة. أوه يا لورن. لقد رغبنا فيك بالفعل، ونحبك بشدة.»
أبعد ذراعه عن خزانة الملفات، ثم اقترب منها وطوَّقها بذراعيه. كانت تنبعث منه رائحة العرق والنبيذ الذي احتساه هو وآيلين في العشاء، ولم تشعر لورن بالراحة على الإطلاق، وشعرت بالإحراج. لم تُحزنها القصة بالرغم من أن ذلك الرماد كان شيئًا مفزعًا ومخيفًا، لكنها سلَّمت بكلماته وأن الأمر سيزعج آيلين.
قالت بطريقة عفوية: «ألهذا السبب كنتما تتشاجران؟» فأبعد يده عنها.
قال بأسًى: «نتشاجر. أعتقد أن ثَمَّةَ شيئًا يكمن خلف ذلك؛ يكمن خلف نوبات الهياج هذه. أتدرين أنني أشعر بالأسى والحزن حيال كل ذلك. إنني كذلك حقًّا.»
•••
عندما كانا يذهبان للتريُّض في الخارج معًا كان يسألها بين الحين والآخر إذا ما كان يساورها شعور بالقلق، أو الحزن، بشأن ما قصَّه عليها، فكانت تجيبه بصوت حازم يدل على نفاد الصبر بعض الشيء وتقول: «لا.» ويقول حينها: «حسنًا.»
كان لكل شارع جاذبيته ومصدر جماله؛ فهناك القصر الفيكتوري (الذي أضحى الآن إحدى دور الرعاية)، والبرج الحجري الذي كان هو كل ما تبقى من مصنع لإنتاج المكانس اليدوية، وهناك أيضًا المقابر التي يعود تاريخها لعام ١٨٤٢. ولبضعة أيام سيقام معرض في الخريف. وشاهدا الشاحنات وهي تسير الواحدة تلو الأخرى عبر الأوحال، وتزيح أحد الأرصفة المحمَّلة بالكتل الأسمنتية التي راحت تنزلق وتتزحزح للأمام؛ مما جعل مؤخرة الشاحنات ترتج وتترنح، وتوقفت الشاحنات وراحت تضبط وتنظم المسافات فيما بينها. اختار كلٌّ من هاري ولورن شاحنة من الشاحنات لتشجيعها والتهليل لها.
بدا للورن الآن أن كل ذلك الوقت الذي مرَّ لم يكن يحمل إلا وهجًا زائفًا؛ نوعًا من الحماسة الساذجة المستهترة التي لا تقيم وزنًا لما يحدث في الحياة اليومية، أو الواقع الذي كان عليها مواجهته بمجرد أن تبدأ الدراسة وتخرج طبعات الجريدة للنور ويتغير الطقس. أيضًا، كان الدب أو الأيل من الحيوانات المتوحشة بالفعل التي لا تفكر إلا في احتياجاتها الضرورية، ولم تكن تجلب أي نوع من الإثارة، ولم تعد تستطيع القفز والصراخ الآن كما كانت تفعل في أرض المعارض وهي تهلل للعربة التي تقوم بتشجيعها؛ فقد يراها أحدٌ من المدرسة ويعتقد أنها غريبة الأطوار.
وهو أقرب إلى فكرتهم عنها على أي حال.
فعُزلتها في المدرسة كانت نابعة من المعرفة والخبرة، والتي كانت تبدو وكأنها نوع من السذاجة والتحفظ، ولكنها لم تكن تدري ذلك تمامًا؛ فالأشياء التي كانت أسرارًا شريرة بالنسبة للآخرين لم تكن هكذا بالنسبة لها، ولم تكن تدري كيف تتصنَّع وتتظاهر حيالهم بغير ذلك. وكان هذا هو ما فصلها وأبعدها عن الآخرين مثلما أبعدتها أيضًا معرفتها بكيفية نطق بضع كلمات بالفرنسية وقراءتها لرواية «سيد الخواتم». كانت قد احتست نصف زجاجة من الجعة عندما كانت في الخامسة من عمرها، ونفثت الدخان عندما كانت في السادسة، بالرغم من أنه لم يَرُق لها أيٌّ منهما. كانت في بعض الأحيان تتناول القليل من النبيذ على العشاء، وكان ذلك يعجبها بعض الشيء. كانت تعرف ما هو الجنس الفموي، وكذلك كل ما يتعلق بوسائل منع الحمل وما يفعله الشواذ. وكثيرًا ما كانت ترى هاري وآيلين وهما عاريين، كما رأت حفلة لأصدقائهما وهم مجردون من ملابسهم وقد التفوا حول النيران المشتعلة في الغابة. وفي تلك الإجازة أيضًا تسللت هي ومجموعة من الأطفال الآخرين ليشاهدوا الآباء وهم يندسون سريعًا إلى خيمات الأمهات وهن لسن بزوجاتهم بناء على اتفاقات سرية مسبقة. وقد عرض عليها أحد الصبية ممارسة الجنس معها فوافقت، لكنه لم يحرز أي تقدم، وشعر كلاهما بالغضب حيال الآخر، وفيما بعد كانت تكره مجرد رؤيته.
كان كل ذلك كالحمل الثقيل بالنسبة لها هنا؛ فقد منحها شعورًا بالحرج والحزن الغريب، بل والحرمان. ولم يكن هناك الكثير لتفعله سوى أن تتذكر أن تنادي آيلين وهاري في المدرسة بأبي وأمي. كان ذلك يجعلهما أكبر، ولكن ليس أكثر عنفًا أو حدة؛ فحدود حدتهما كانت تذوب قليلًا عندما كانت تتحدث عنهما بهذا الأسلوب، وتتخفى سمات شخصيتهما بعض الشيء تحت غطاء خادع. أما حينما تكون أمامهما وجهًا لوجه فلا يكون لديها أي أسلوب لتحقِّق نفس التأثير، بل إنها حتى لا تستطيع أن تعترف أن ذلك قد يكون مصدر راحة لها.
•••
كان بعض الفتيات في فصل لورن يذهبن إلى الفندق ويجدن طريقهن إلى الحمام، وقد كن يجدن المقهى المجاور إغراءً لا يقاوَم، لكنهن لم تكن لديهن الشجاعة الكافية لدخوله. وهناك في الحمام كن يمضين نحو ربع الساعة أو نصف الساعة في تصفيف شعورهن وشعور الأخريات بتسريحات مختلفة، ووضع أحمر الشفاه الذي كن يسرقنه من متجر ستيدمان، وتشم كلٌّ منهن عنق الأخرى ومعصمها الذي كن يغرقنه بكافة أنواع العطور المتاحة للتجربة دون مقابل في الصيدلية.
عندما طلبن من لورن أن تصاحبهن ذات مرة تشكَّكت في أن يكون وراء ذلك خدعة ما، لكنها وافقت على أي حال، وكان جزء من موافقتها راجعًا إلى أنها تكره العودة إلى المنزل بمفردها في فترة ما بعد الظهيرة التي تقصر باستمرار وتمكث في المنزل الذي يقع على أطراف الغابة.
وبمجرد أن دخلن إلى البهو أمسكت بيدها فتاتان، وقمن بدفعها نحو النضد حيث تجلس سيدة من العاملات في المطعم على أحد المقاعد العالية وتقوم ببعض العمليات الحسابية على الآلة الحاسبة.
كانت هذه السيدة تدعى دلفين، كانت لورن تعرف اسمها بالفعل من هاري. كانت ذات شعر طويل ناعم يميل إلى الأشقر المائل للبياض، أو ربما كان أبيض بالفعل؛ لأنها لم تكن صغيرة السن. لا بد وأنها كانت تضطر إلى إعادة شعرها للوراء دومًا لتزيحه عن وجهها تمامًا كما تفعل الآن. كانت عيناها — اللتان بدتا من وراء نظارتها ذات الإطار الداكن — تغطيهما جفونها المظللة باللون الأرجواني. كان وجهها عريضًا، كجسدها، وشاحبًا بعض الشيء وذا بشرة ناعمة، ولم يكن هناك شيء بها ينم عن التكاسل أو البلادة. رفعت عينيها الآن فظهر لونهما الأزرق الفاتح الصريح، وراحت تقلب نظرها بين الفتيات كما لو أنه لا يدهشها أي سلوك ذميم يصدر عنهن.
قالت الفتيات: «ها هي.»
نظرت المرأة — دلفين — الآن نحو لورن وقالت: «أنتِ لورن؟ أواثقة من هذا؟»
أجابت لورن في حيرة بنعم.
قالت المرأة وهي تشير إلى الفتيات وكأنهن يقفن بالفعل على مسافة بعيدة وخارج إطار حديثها مع لورن تمامًا: «لقد سألتهن إن كانت هناك في المدرسة فتاة تدعى لورن.» وأردفت قائلة: «سألتهن لأننا قد عثرنا على شيء ما هنا، ولا بد وأنه سقط من أحدهم في المقهى.»
ثم فتحت أحد الأدراج وأخرجت منه سلسة ذهبية، وكان يتدلى منها أحرف تكوِّن اسم لورن.
هزَّت لورن رأسها بالنفي.
قالت دلفين: «لا تخصكِ؟ أوه، أمر سيئ. لقد سألت الأولاد في المدرسة الثانوية بالفعل؛ لذا عليَّ أن أحتفظ بها هنا بعض الوقت؛ ربما يأتي أحدهم ليسأل عنها.»
قالت لورن: «بإمكانك أن تنشري إعلانًا في جريدة أبي.» لكنها لم تدرك حينها أنه كان ينبغي لها أن تقول «الجريدة» فقط؛ وذلك حتى اليوم التالي عندما كانت تمر بجوار فتاتين في مدخل المدرسة وهما يلمزان ويقولان بصوت يتصنع الفخر: «جريدة أبي.»
قالت دلفين: «بإمكاني أن أفعل ذلك، لكني سأجد كل أنواع البشر يأتون إلى هنا ويدَّعون أنها تخصهم، وربما يصل الأمر بهم إلى الكذب بشأن أسمائهم. إنها سلسة من الذهب.»
أشارت لورن لها قائلة: «لكنهم لن يستطيعوا ارتداءها إن لم تكن تحمل أسماءهم الحقيقية.»
«ربما لا يفعلون، لكني لن أضعها نصب أعينهم ليدَّعوا هذا على أي حال.»
كانت الفتيات الأخريات قد توجَّهن نحو دورة المياه.
فنادتهن دلفين قائلة: «أنتن، ممنوع الدخول هناك.»
فاستدرن نحوها في دهشة.
وقلن: «كيف ذلك؟»
«لأنه ممنوع الدخول، هذا هو الأمر، والآن بإمكانكن التسكع في مكان آخر.»
«لكنكِ لم تمنعينا من الدخول فيما مضى.»
«ما مضى قد مضى، والآن شيء آخر.»
«ولكن من المفترض أنها دورة مياه عامة.»
«إنها ليست كذلك، أما التي تقع في مبنى شئون المدينة فهي كذلك، والآن اغربن عن هنا.»
استدارت دلفين موجِّهة حديثها إلى لورن التي كانت على وشك أن تتبع الأخريات: «لا أقصدك بهذا الكلام، إنني جد آسفة أن السلسلة لا تخصك. بإمكانك العودة مرة أخرى في غضون يوم أو يومين، وإن لم يأتِ أحدٌ ليسأل عنها، لنرَ، فهي تحمل اسمك على أي حال.»
عادت لورن مرة أخرى في اليوم التالي، ولكنها لم تكن تهتم بأمر السلسلة على الإطلاق؛ فهي في الواقع لا تتخيل أنه يمكن أن يسير المرء واسمه يتدلى فوق عنقه. كل ما هنالك أنها كانت تريد أن تأخذ جولة ما؛ مكانًا تذهب إليه. كان بمقدورها أن تذهب إلى مكتب الجريدة، ولكن بعد أن سمعتهن وهن يرددن كلمة «جريدة أبي» على هذا النحو لم تعد راغبة في الذهاب إلى هناك.
قررت أنها لن تدخل إن كان السيد باليجيان هو الذي يقف خلف النضد وليست السيدة دلفين، ولكنها كانت دلفين من تقف هناك بالفعل، وكانت تروي نبتة قبيحة الشكل عند النافذة الأمامية.
قالت دلفين: «أوه، حسنًا، لم يأتِ أحدٌ ليسأل عنها، سأتريث حتى نهاية الأسبوع، لديَّ شعور قوي أنها ستكون لك. بإمكانك أن تأتي دائمًا في هذا الوقت من اليوم؛ فليس لديَّ عمل بالمقهى في فترة ما بعد الظهيرة، وإن حدث ولم تجديني في البهو فعليكِ فقط بدق الجرس، فسأكون في مكان ما هنا.»
قالت لورن: «حسنًا.» واستدارت لترحل.
«أتريدين أن تجلسي لبضع دقائق؟ كنت أفكر أن أتناول قدحًا من الشاي. هل تشربين الشاي؟ هل يُسمح لكِ بتناول الشاي؟ أم تفضلين مشروبًا باردًا بدلًا منه؟»
قالت لورن: «صودا الليمون لو سمحتِ.»
«في كأس زجاجي؟ أتريدين تناوله في كأس زجاجي؟ هل تفضلينه بالثلج؟»
قالت لورن: «ليس هناك داعٍ؛ فهو مناسب تمامًا كما هو. أشكرك جزيل الشكر.»
أحضرت دلفين كأسًا به بعض الثلج على أي حال، وقالت: «إنه لا يبدو لي مثلَّجًا بما يكفي.» ثم سألت لورن عن المكان الذي تفضِّل الجلوس فيه؛ هل على أحد المقاعد القديمة المكسوة بالجلد القابعة بجوار النافذة أم على أحد الكراسي العالية خلف النضد؟ اختارت لورن أحد المقاعد العالية وجلست دلفين على مقعد آخر قبالتها.
«والآن، ألا تخبرينني بما تعلَّمتِه اليوم بالمدرسة؟»
قالت لورن: «حسنًا …»
أسفر وجه دلفين العريض عن ابتسامة.
«لقد طرحتُ عليكِ هذا السؤال على سبيل المزاح، كنت أكره بشدة أن يسألني الآخرون عن ذلك؛ أولًا: لأنني كنت لا أتذكَّر أي شيء تعلَّمته في ذاك اليوم، وثانيًا: لأنني لم أرغب في الحديث عن المدرسة حينما أكون خارجها؛ لذا دعينا نغفل ذلك الأمر.»
لم تندهش لورن برغبة السيدة الواضحة في أن تصادقها. لقد نشأت وهي تعتقد تمامًا أنه يمكن أن يتساوى الأطفال والبالغون في علاقاتهم بعضهم مع بعض، على الرغم من أنها لاحظت أن العديد من البالغين لا يتفهَّمون ذلك؛ ولهذا كان من الأفضل ألا تثير هذا الأمر وتفرضه على أحد. لاحظت أن دلفين كانت متوترة بعض الشيء؛ ولهذا كانت تتحدث دون أن تلتقط أنفاسها، وتضحك في لحظات غريبة، وكيف أنها لجأت إلى المناورة وهي تمد يدها نحو أحد الأدراج وتُخرج منه لوحًا من الشوكولاتة.
«مجرد قطعة حلوى صغيرة مع الشراب؛ ربما تجعل الأمر يستحق أن تأتي لمقابلتي مرة أخرى.»
شعرت لورن بالحرج نيابة عن المرأة، بالرغم من سعادتها بقبول لوح الشوكولاتة، فلم تكن تحصل على أي حلوى بالمنزل.
قالت: «لستِ بحاجة لرشوتي كي آتي، إنني أحب ذلك.»
«أوه، حسنًا، لن أفعل، أهو كذلك؟ يا لكِ من طفلة! حسنًا، أعيديها لي.»
مدَّت يدها لتنتزع الشوكولاتة، ولكن راوغتها لورن وتفادت يدها لتحميها، وراحت تضحك هي الأخرى.
«لقد قصدتُ المرة القادمة؛ فليس عليكِ أن ترشيني في المرة القادمة.»
«ومع هذا لا بأس برشوة واحدة، أهو كذلك؟»
قالت لورن: «أحب أن أجد شيئًا أفعله، بخلاف العودة فقط إلى المنزل.»
«ألا يمكنك زيارة بعض الأصدقاء؟»
«ليس لديَّ أصدقاء في الواقع؛ فلم أبدأ دراستي في هذه المدرسة إلا في شهر سبتمبر.»
«حسنًا، إن كانت تلك المجموعة التي أتت هنا تُعَدُّ نموذجًا لمن ستنتقين منهن صديقاتك فمن الأفضل أن تظلي هكذا دونهن. هل أعجبتكِ المدينة؟»
«إنها صغيرة، وهناك بعض الأشياء اللطيفة بها.»
«إنها مقلب نفايات؛ جميعها مثل مقالب النفايات. لقد عايشت الكثير من مقالب النفايات في حياتي لدرجة أنكِ قد تعتقدين أن الفئران قد أكلت أنفي الآن.» وراحت تمرر أصابعها على أنفها لأعلى وأسفل، وكان لون طلاء أظافرها يماثل ظلال جفونها. وأردفت بارتياب: «لا تزال هناك.»
•••
«إنها مقلب نفايات.» كانت دلفين تقول أشياء من هذا القبيل، كانت تتحدث بحماسة شديدة. لم تكن تحاور بل تطرح وقائع، وكانت أحكامها حادة تنمُّ عن مزاجية شديدة. تحدثت دلفين عن نفسها؛ عن ميولها وحالتها البدنية، وكأنها تتحدث عن معضلة معقدة، شيء فريد وقاطع.
كانت تعاني من الحساسية تجاه البنجر؛ فإذا ما حدث ودخلت جوفها ولو حتى قطرة واحدة من عصيره، فإن أنسجتها تنتفخ ويكون لزامًا أن تذهب إلى المستشفى؛ لأنها تحتاج إلى عملية طارئة حتى تستطيع التنفس.
«كيف هو الأمر معكِ؟ هل تعانين من أي نوع من الحساسية؟ لا؟ عظيم.»
كانت تعتقد أنه ينبغي أن تظل أيدي المرأة نظيفة بغض النظر عن نوع العمل الذي تمارسه. كانت تحب أن تضع طلاء أظافر باللون الأزرق الداكن أو بلون الخوخ، وكانت تحب أيضًا أن ترتدي الأقراط الضخمة التي تُحدِث صوتًا حتى أثناء عملها؛ فلم تكن تحب ذلك النوع الصغير الرقيق.
لم تكن تخشى الثعابين، لكنها تكنُّ مشاعر غريبة نحو القطط. كانت تعتقد أن القطة كانت تأتي وتستلقي فوقها وهي طفلة رضيعة؛ لأن رائحة اللبن كانت تجذبها.
قالت للورن: «وماذا عنكِ؟ ما الشيء الذي يخيفك؟ ما لونك المفضل؟ هل حدث ومشيتِ أثناء نومك؟ هل تعرَّضت لحمام شمس أو لضربة شمس؟ هل ينمو شعرك بسرعة أم ببطء؟»
لم يكن الأمر يبدو وكأن لورن غير معتادة على أن يهتم بها أحد؛ فهاري وآيلين، وبخاصة هاري، كانا بالفعل يهتمان بأفكارها وآرائها وشعورها حيال الأشياء، وكان هذا الاهتمام يسبِّب لها الضيق في بعض الأحيان، لكنها لم تكن تدرك مطلقًا أنه يمكن أن يكون هناك كل هذه الأشياء الأخرى؛ تلك الحقائق العشوائية، التي تبدو مهمة على نحو ممتع. ولم يعترِها مطلقًا ذلك الشعور، كما هو الحال في المنزل، أن هناك أي سؤال آخر يكمن خلف أسئلة دلفين، ولم تشعر مطلقًا أنها إن لم تأخذ حذرها فإنه يمكن أن يكون هناك تطفُّل وتدخُّل في شئونها.
علَّمتها دلفين بعض النكات. أخبرتها أنها تعرف المئات من النكات، لكنها لن تقصَّ على مسامعها إلا ما هو مناسب. لم يكن هاري ليرى أن النكات التي تُقال على قاطني نيوفاوندلاند مناسبة، لكن لورن كانت تضحك عليها من باب الكياسة.
•••
أخبرت آيلين وهاري أنها ستذهب لمنزل صديقتها بعد انتهاء المدرسة. لم تكن تلك كذبة في الحقيقة، وبدا أنهما قد سعدا بذلك، لكنها — بسببهما — لم تأخذ السلسلة التي تحمل اسمها عندما أخبرتها دلفين أن بمقدورها ذلك. لقد تظاهرت بأنها قلقة من أن يأتي مالكها الذي لا يزال يبحث عنها.
كانت دلفين تعرف هاري؛ فقد كانت تحضر له طعام الإفطار في المقهى. كان من الممكن أن تذكر زيارات لورن لها، لكن من الواضح أنها لم تفعل.
كانت في بعض الأحيان تضع لافتةً مكتوبًا عليها «دُقَّ الجرس لاستدعاء الموظف المختص»، ثم تصطحب لورن معها إلى أجزاء أخرى من الفندق؛ إذ ثَمَّةَ نزلاء يمكثون بالفندق من حين لآخر، وكان يجب ترتيب أسِرَّتهم، وتنظيف دورات المياه والأحواض الخاصة بهم، وكذا أرضيات الغرف. لم تسمح للورن بأن تساعد في شيء، وكانت تقول لها: «اجلسي فقط وتحدثي إليَّ، إنه نوع من العمل الباعث على الوحدة.»
لكنها كانت هي التي تتحدث فقط. تحدَّثت عن حياتها، ولكن دون أي نوع من التسلسل أو الترتيب؛ فظهرت بعض الشخصيات واختفت، وكان من المفترض أن تعرف لورن من هم دون أن تسأل؛ فالأشخاص الذين كانت تذكر أسماءهم بعد لقب السيد أو السيدة كانوا رؤساء جيدين، أما الرؤساء السيئين فكانت تطلق عليهم الخنازير أو الأوغاد «لا تكرري لغتي.» وقد عملت دلفين في بعض المستشفيات «ممرضة؟ أتمزحين؟» وفي حقول التبغ، ومطاعم لا بأس بها، وفي أماكن الغطس، وفي أحد معسكرات تخزين الأخشاب حيث كانت تقوم بالطهو، وعملت أيضًا في إحدى محطات الحافلات حيث كانت تقوم بالتنظيف، ورأت أشياء فاضحة لن تستطيع التحدث عنها، وأيضًا في أحد المتاجر الكبرى التي تفتح أبوابها طوال الليل حيث كانت تعمل لساعات متأخرة جدًّا حتى استقالت.
في بعض الأحيان كانت تصادق لورن، وفي أحيان أخرى فِل. كان لفِل أسلوبها في استعارة الأشياء دون استئذان؛ فقد استعارت كنزة دلفين وارتدتها في حفل راقص، وتعرَّقت كثيرًا حتى اتسخت منطقة ما تحت الإبط بشدة، أما لورن فقد تخرَّجت من المدرسة الثانوية، ولكنها ارتكبت خطأً كبيرًا عندما تزوجت من ذلك الشخص الغبي، ومن المؤكد أنها تشعر بالأسف الآن.
كان من الممكن أن تتزوج دلفين؛ فبعض الرجال الذين رافقتهم شقوا طريقهم في الحياة على نحو لا بأس به، وبعضهم أضحوا مجموعة من المشردين، أما البعض الآخر فليس لديها أدنى فكرة عما حدث لهم. لقد كانت مغرمة بفتًى يدعى تومي كيلبرايد، لكنه كان ينتمي للطائفة الكاثوليكية.
«ربما لا تعرفين ماذا يعني هذا بالنسبة للمرأة.»
قالت لورن: «يعني أنه ليس بمقدورك أن تستخدمي موانع الحمل، لقد كانت آيلين تنتمي للطائفة الكاثوليكية، لكنها تركتها لأنها لم توافق على هذا. آيلين هذه هي أمي.»
«لم يكن هناك داعٍ لأن تشعر أمك بالقلق على أي حال؛ فقد انتهت الأمور إلى ما تريده.»
لم تفهم لورن ما تعنيه، ثم اعتقدت أن دلفين ربما تتحدث عنها — أي عن لورن — كونها طفلة وحيدة؛ فلا بد وأنها اعتقدت أن هاري وآيلين كانا يرغبان في إنجاب المزيد من الأطفال بعد أن رُزقا بها، لكن لم يكن باستطاعة آيلين ذلك، ولكن على حد علم لورن لم يكن الأمر هكذا.
قالت: «كان بإمكانهم إنجاب المزيد إن أرادوا هذا، بعد أن أنجباني.»
قالت دلفين مازحة: «هذا ما تعتقدينه، أليس كذلك؟ ربما لم يكن باستطاعتهم إنجاب أي طفل على الإطلاق، وربما تبنَّوكِ.»
«لا، لم يفعلوا ذلك. أعلم هذا تمامًا.» كانت لورن على وشك أن تخبرها بما حدث عندما كانت آيلين حاملًا، لكنها أحجمت عن هذا؛ لأن هاري شدَّد على أن يظل الأمر سرًّا. وكانت هي من النوع الذي يؤمن بالخرافات بشأن نكص أي عهد، بالرغم من أنها لاحظت أن البالغين لا يبالون ويحنثون بعهودهم.
قالت دلفين: «لا تأخذي الأمر على محمل الجد هكذا.» ثم احتضنت وجه لورن براحتَيْها وراحت تُرَبِّت على وجنتيها بأصابعها ذات الأظافر المطلية بلون التوت البري، وأردفت قائلة: «إنني أمزح فقط.»
•••
كان المجفِّف بمغسلة الفندق لا يعمل؛ ولذا كان على دلفين أن تقوم بنشر الشراشف والمناشف المبتلة، ولأن السماء كانت تمطر فإن أفضل مكان للتجفيف هو إسطبل تأجير الخيول. عاونتها لورن في حمل السلال المكتظة بالأقمشة القطنية البيضاء عبر الفناء الصغير المفترش بالحصى خلف الفندق وحتى الإسطبل الخاوي المشيَّد من الحجارة. كانت الأرض أسمنتية، لكن لا تزال بعض الرائحة تتسلل من الأرضية بأسفله، أو ربما كانت تنبعث من الجدران المشيَّدة من كسارة الحجر والحصى. رائحة التراب الرطب، ورائحة بول الخيول وجلودها. كان المكان خاويًا إلا من بعض أحبال الغسيل وبعض المقاعد والمناضد المكسورة. وقد أصدرت خطواتهم صدى صوتٍ بالمكان.
قالت دلفين: «جرِّبي أن تنادي اسمك؟»
صاحت لورن: «دل-فيييي-ييين.»
«اسمكِ أنتِ، ماذا تفعلين؟»
قالت لورن: «إن اسمكِ له صدًى أفضل.» وشرعت تنادي اسمها ثانية «دل-فييييييي-يين.»
قالت دلفين: «إنني لا أحب اسمي، ما من أحد يفضِّل اسمه.»
«أنا لا أكره اسمي.»
«لورن جميل، إنه اسم لطيف. لقد اختاروا لك اسمًا لطيفًا.»
اختفت دلفين خلف الشراشف التي كانت تقوم بتثبيتها فوق أحد الأحبال، وراحت لورن تتجول على مهلٍ وهي تُطلق صفيرًا.
قالت دلفين: «إنه الغناء الذي يبدو ملائمًا وجميلًا هنا، هلَّا شدوتِ بأغنيتك المفضلة.»
لم تستطع لورن أن تفكر في أغنية مفضَّلة لديها، وقد استغربت دلفين الأمر تمامًا مثلما أصابتها الدهشة عندما علمت أن لورن لا تعرف أيًّا من النكات على الإطلاق.
قالت: «لديَّ الكثير من الأغاني.» ثم شرعت في الغناء:
كانت هذه هي إحدى الأغنيات التي كان هاري يشدو بها في بعض الأحيان، ودائمًا ما كان يتندَّر على الأغنية أو على نفسه. أما أسلوب دلفين في غنائها، فكان مختلفًا تمام الاختلاف؛ فقد شعرت لورن أن الحزن العميق الذي يكمن في صوت دلفين يجذبها نحو الشراشف البيضاء المتمايلة، بل بدا وكأن الشراشف ذاتها تحتويها وتذوب من شدة التأثر، لا، بل كانت تحتوي دلفين أيضًا، مخلِّفة شعورًا بالعذوبة والملاحة. كان غناء دلفين أشبه بالعناق الدافئ والحضن الكبير الذي تندفع نحوه دون شعور، وفي نفس الوقت فإن تلك المشاعر الفياضة جعلتها تشعر بانقباض في معدتها مما ينذر بإصابتها ببعض الإعياء.
قاطعتها لورن عندما جذبت أحد الكراسي التي لا تحوي مقعدًا على الأرض.
•••
على طاولة العشاء قالت لورن بحزم لهاري وآيلين: «هناك شيء أود أن أسألكما عنه، هل هناك احتمال أن تكونا قد تبنَّيتماني؟»
قالت آيلين: «من أين أتيتِ بتلك الفكرة؟»
توقف هاري عن تناول الطعام، ورفع حاجبَيْه محذِّرًا لورن، ثم راح يمزح ويقول: «إن أردنا تبنِّي طفل فهل تعتقدين أننا كنا سنأتي بمن يطرح كل تلك الأسئلة المتطفلة؟»
نهضت آيلين وراحت تعبث بسحَّاب تنورتها، فسقطت التنورة على الأرض، ثم قامت بإنزال سروالها الضيق ولباسها التحتي.
قالت: «انظري هنا، من المفترض أن يخبرك هذا.»
ظهر على بطنها — الذي كان يبدو مسطحًا وهي مرتدية ملابسها — بعض الامتلاء والترهل، كذا كانت هناك آثار لبعض الخطوط البيضاء الباهتة على سطح بشرتها التي اكتسبت سمرة خفيفة حتى حدود علامة القطعة السفلية من لباس البحر، وقد ظهرت تلك الخطوط في ضوء المطبخ. كانت لورن قد رأت كل ذلك من قبل، لكنها لم تُلْقِ له بالًا؛ فقد بدت الخطوط وكأنها جزء عادي من جسد آيلين، تمامًا مثل الشامتَيْن الموجودتَيْن على عظمة التَّرْقُوَة.
قالت آيلين: «هذا بسبب علامات تمدُّد الجلد بسبب الحمل، لقد حملتك أمامي هكذا.» ثم مدت يدها أمام جسمها لمسافة مناسبة تشير إلى حجم بطنها آنذاك، ثم أردفت قائلة: «هل اقتنعتِ الآن؟»
وضع هاري رأسه على بطن آيلين العاري، وراح يداعبه بأنفه، ثم تراجع ووجَّه كلامه إلى لورن:
«في حال إن كنتِ تتساءلين عن سبب عدم إنجابنا للمزيد من الأطفال، فإن الإجابة هي أنك الطفل الوحيد الذي كنا نحتاجه. إنكِ تتسمين بالذكاء والجمال وخفة الظل. ما الذي يضمن لنا الحصول على طفل آخر بهذه السمات الجيدة؟ بالإضافة إلى أننا لسنا بعائلة عادية؛ فنحن نحب التنقل، ونحب تجربة الأشياء، ونتحلى بالمرونة. لقد رُزقنا بطفلة رائعة تتكيف تحت أي ظروف؛ فما من داعٍ لاختبار حظنا مرة أخرى، فليس ثَمَّةَ ضمان أن يكون مثلك.»
كان وجهه، الذي لم ترَه آيلين، يتَّجه نحو لورن مصوبًا نظرة تحمل قدرًا من الجدية والصرامة يفوق ما تحمله كلماته، وكانت تشي بالتحذير المستمر الذي يختلط بالدهشة وخيبة الأمل.
لو لم تكن آيلين موجودة معهم، لطرحت عليه لورن بعض الأسئلة. ماذا لو أنهما كانا قد فقدا الطفلَيْن بدلًا من طفل واحد؟ ماذا لو لم تكن هي من مكثت في بطن آيلين ولم تكن هي المسئولة عن تلك الآثار البادية عليها؟ كيف لها أن تتأكد من أنهما لم يأتيا بها عوضًا عما فقداه؟ فإذا كان هناك شيء كبير لم تعلم به من قبل، فلِمَ لا يكون هناك شيء آخر أيضًا؟
سبَّبت لها هذه الفكرة بلبلة وتشويشًا في ذهنها، لكنها كان لها بعض الجاذبية فيما بعد.
•••
في المرة التالية التي ذهبت فيها لورن إلى الفندق كانت تعاني من بعض السعال.
قالت دلفين: «لتصعدي معي للطابق العلوي؛ فلديَّ علاج جيد لذلك.»
وأثناء وضعها اللافتة المكتوب عليها «دُقَّ الجرس لاستدعاء الموظف المختص»، كان السيد باليجيان يدلف إلى بهو الفندق آتيًا من المقهى. كان يرتدي في إحدى قدميه فردة حذاء، وفي القدم الأخرى خفًّا، وكان مفتوحًا ليسع قدمه التي تلتف حولها ضمادة. وكانت هناك بقعة من الدماء الجافة عند موضع أصبعه الكبير.
اعتقدت لورن أن دلفين ستقوم بإنزال اللافتة عندما ترى السيد باليجيان، لكنها لم تفعل، وكل ما قالته له هو: «من الأفضل أن تغيِّر تلك الضمادة إذا ما أتيحت لك الفرصة.»
أومأ السيد باليجيان برأسه موافقًا، لكنه لم ينظر إليها.
قالت له: «سأهبط سريعًا.»
كانت حجرتها تقع في الطابق الثالث أسفل الإفريز. قالت لورن وهي تصعد وتسعل في نفس الوقت: «ما الذي ألمَّ بقدمه؟»
قالت دلفين: «أي قدم؟ أعتقد أن أحدهم ربما يكون قد داسها، ربما بكعب حذائه.»
كان سقف حجرتها ينحدر بشدة على جانبَي النوافذ البارزة. لم يكن هناك سوى فراش واحد، وحوض للغسيل، ومقعد، ومكتب. واستقر على المقعد صحن ساخن وُضعت عليه غلاية المياه. أما المكتب فكان مزدحمًا بمجموعة من مساحيق التجميل، وأمشاط الشعر وأقراص، وعبوة من أكياس الشاي وعبوة أخرى من مسحوق الشوكولاتة الساخنة. أما مفرش السرير فكان مصنوعًا من نسيج قطني خفيف ذي خطوط رفيعة باللونين الأبيض والبيج.
قالت دلفين: «إنها ليست مرتبة، أليس كذلك؟ إنني لا أمضي الكثير من الوقت هنا.» قامت بملء الغلاية من مياه الحوض وثبَّتتها على قاعدة التسخين، ثم جذبت مفرش السرير لتأخذ بطانية، ثم قالت: «اخلعي عنكِ سترتك، ودفئي نفسك بهذه.» ثم لامست جهاز التدفئة المشع بيدها وأردفت قائلة: «إن الأمر يستغرق اليوم كله لكي تصل الحرارة إلى هنا.»
قامت لورن بالفعل بما طلبته منها، وأخرجت دلفين قدحَيْن وملعقتَيْن من الدرج العلوي، وراحت تفرغ قدرًا من مسحوق الشوكولاتة الساخنة من عبوتها. قالت دلفين: «إنني أتناولها بالمياه الساخنة فقط، أعتقد أنكِ معتادة على تناولها بالحليب، لكني لا أتناول الحليب مع الشاي أو مع أي مشروب آخر. عندما أُحضر اللبن هنا يفسد؛ فليس لديَّ مبرِّد.»
قالت لورن: «لا بأس، سأتناولها بالمياه الساخنة.» بالرغم من أنها لم تتناول الشوكولاتة الساخنة بهذه الطريقة من قبل. اجتاحتها رغبة مفاجئة بأن تكون في المنزل الآن متدثرة بالغطاء على الأريكة وهي تشاهد التليفزيون.
قالت دلفين بصوت يشوبه بعض التوتر أو العصبية: «لا تقفي هكذا، اجلسي واستريحي؛ فلن تستغرق الغلاية وقتًا طويلًا.»
جلست لورن على حافة الفراش، وفجأة استدارت دلفين وجذبتها من أسفل ذراعيها — مما جعلها تسعل ثانية — وعدلت من وضع لورن بحيث جعلتها تجلس وظهرها للحائط وقدماها تتدليان ولا تلامسان الأرض، ثم خلعت لها حذاءها الطويل ذا الرقبة، وأسرعت تتحسَّس قدميها لترى إن كانت جواربها مبتلة.
«لا، ليست مبتلة.»
«حسنًا، سأحضر لك شيئًا ليعالج ذلك السعال، أين شراب الكحة؟»
ومن نفس الدرج العلوي قامت دلفين بإخراج زجاجة ممتلئة حتى نصفها بسائل أصفر بلون الكهرمان، وصبَّت منها ملء ملعقة وقالت: «افتحي فمك، إن مذاقه ليس فظيعًا.»
قالت لورن عندما ابتلعته: «هل يحتوي ذلك الشراب على الويسكي؟»
أمعنت دلفين النظر في الزجاجة التي لم تكن تحمل أي ملصق عليها.
«لا أرى أي شيء يدل على ذلك، هل لمحتِ أنتِ شيئًا؟ هل سيشعر أبوك وأمك بالغضب إن أعطيتكِ ملعقة من الويسكي كعلاج للسعال؟»
«في بعض الأحيان يصنع لي أبي مشروبًا ساخنًا محلًّى من عصير الليمون والويسكي والماء الساخن.»
«أحقًّا يفعل؟»
كانت مياه الغلاية قد وصلت لدرجة الغليان، وصبَّت دلفين المياه في الأقداح، وراحت تقلِّب المشروب بسرعة، وهي تذيب التكتلات وكأنها تتحدث إليها.
قالت وهي تحاول أن تبدو مرحة: «هيا أيها التافهون، هيا.»
كان هناك شيء غريب بشأن دلفين اليوم؛ كانت تبدو أكثر ارتباكًا وهياجًا، وربما تُخفي غضبًا وراء هذا، إضافة إلى ذلك فقد كانت دلفين أكثر نشاطًا وحركة وبريقًا، بل وأكثر زهوًا وتكلفًا من أن تقطن في مثل هذه الحجرة.
قالت: «إنك تجولين بنظرك في المكان، وأنا أدري تمامًا ما يدور بخَلَدك؛ لا بد وأنك تحدِّثين نفسك بأني امرأة فقيرة، وتتساءلين قائلة: يا تُرى لمَ لا تقتني المزيد من الأشياء؟ لكني لا أهوى اكتناز الأشياء وتجميعها، والسبب في هذا هو أنني مررت بالكثير من تجارب الانتقال بين الحين والآخر والرحيل من مكان لمكان؛ فبمجرد أن كان يستقر بي المقام في مكان ما، يقع شيء ما، وبعدها يكون لزامًا عليَّ أن أرحل، ومع هذا فإنني أدَّخر النقود، وسيصاب الناس بالدهشة إذا ما علموا برصيد حسابي في البنك.»
أعطت لورن قدحها ثم جلست بتروٍّ عند مقدمة الفراش واضعة الوسادة خلف ظهرها وقدمها التي غطتها بالجورب مستقرة على الأغطية. كان دومًا ما يعتري لورن ذلك الشعور بالاشمئزاز عندما ترى الأقدام التي تغلِّفها الجوارب المصنوعة من النايلون. وهذا الشعور لا يعتريها حيال الأقدام العارية أو تلك المغطاة بالجوارب العادية القصيرة أو بالأحذية، أو حتى الأقدام المغطاة بجوارب نايلون داخل الأحذية، بل يعتريها تحديدًا فقط إذا ما رأت الأقدام ذات الجوارب النايلون دون أي شيء آخر؛ وبخاصة إذا ما لامست أي أقمشة أخرى. كان هذا بمثابة شعور غريب يخص شخصيتها، تمامًا كشعورها حيال فطر عيش الغراب أو حبوب القمح التي تغرق في اللبن.
قالت دلفين: «عندما أتيت إلى هنا في فترة ما بعد الظهيرة هذه كنت أشعر بالحزن؛ فقد كنت أفكِّر في فتاة كنت أعرفها، ورأيت أنه كان من المفترض أن أبعث لها برسالة إن كنت أعرف مكانها. جويس هو اسمها. لقد كنت أفكر فيما يمكن أن يكون قد حدث لها في حياتها.»
ضُغطت مرتبة الفراش إلى الداخل بفعل ثقل جسد دلفين، حتى إن لورن وجدت صعوبة في محاولة تفادي الانزلاق نحوها. وقد جعلها ذلك المجهود الذي بذلته لكيلا تصطدم بجسدها تشعر بحرج شديد، وحاولت أن تبدو أكثر ودًّا ودماثة من المعتاد.
قالت: «متى عرفتِها؟ أعندما كنتِ صغيرة؟»
ضحكت دلفين وقالت: «نعم، حينما كنت صغيرة وكانت هي صغيرة أيضًا. كانت قد اعتادت أن تخرج من المنزل وتتسكع مع أحد الشباب، وكان نتيجة ذلك أن وقعت في ورطة. أتعرفين ماذا أعني بذلك؟»
قالت لورن: «أصبحتْ حاملًا.»
«تمامًا. لقد كانت تعيش وتعبث بلا هدف، واعتقدتْ أنه ربما يمكن أن يمرَّ الأمر مثل الأنفلونزا التي تأتي وتختفي دون ضرر. وكان لدى الرجل بالفعل طفلان من امرأة أخرى لم يكن متزوجًا بها، لكنها كانت في مكانة الزوجة بأي حال من الأحوال، وكان دومًا ما يفكر في العودة إليها، ولكن قبل أن يرحل ويعود إليها تم القبض عليه، وكذلك هي، تم القبض على جويس؛ لأنها كانت تهرِّب له بعض الأشياء، كانت تضعها في الفوط الصحية. أتعرفين شكلها؟ أتعرفين ما الأشياء التي تهربها؟»
أجابتها لورن على السؤالين قائلة: «نعم أعرف شكلها. بالطبع كانت تهرِّب مخدرات.»
أحدثت دلفين ما يشبه الغرغرة وهي تحتسي مشروبها وقالت: «الأمر كله سري للغاية، أتفهمين ذلك؟»
لم يمتزج كل مسحوق الشوكولاتة بالمياه، ولم يذُب فيها تمامًا، ولم ترغب لورن في أن تقوم بتحريكه وإذابته بالملعقة التي لا تزال تحمل مذاق الشراب الذي من المفترض أنه مضاد للسعال.
«أفلتت من العقاب بحكمٍ مع إيقاف التنفيذ؛ لذا فلم تكن مسألة حملها بالشيء السيئ حينها؛ فقد كانت هي السبب في أنها لم تواجه أي عقاب. وما حدث بعد ذلك هو أنها تعرَّفت على بعض المسيحيين، وكانوا يعرفون طبيبًا وزوجته يعتنيان بالفتيات بعدما يضعن حملهن، ثم يعطيان الأطفال على الفور لمن يريد تبنيهم. ولم يكن ذلك من باب المروءة أو الأمانة، بل كانا يأخذان نقودًا مقابل هؤلاء الأطفال، ولكن على أي حال فقد جنَّبها ذلك من يعملون في مجال الرعاية الاجتماعية. وعليه وضعت طفلها ولم ترَه بعد ذلك، وكل ما علمته عنه أنه كان بنتًا.»
نظرت لورن حولها بحثًا عن ساعة تعرف من خلالها الوقت، ولكن يبدو أنه لم تكن هناك واحدة، وكانت ساعة يد دلفين تختفي تحت أكمام سترتها السوداء.
«غادرت جويس المكان وواجهت حدثًا تلو الآخر، ولم تفكر في شأن الطفلة إطلاقًا؛ فقد اعتقدت أنه بمقدورها أن تتزوج وتنجب المزيد من الأطفال، ولكن لم يحدث شيء من هذا القبيل. حسنًا، هذا لم يضايقها كثيرًا؛ نظرًا لنوعية بعض الأشخاص الذين كانت ترافقهم ولم يحدث أن حملت منهم. بل إنها أجرت بضع عمليات جراحية حتى لا يكون لها أطفال. أتعرفين أي نوع من العمليات؟»
قالت لورن: «عمليات إجهاض. كم الساعة الآن؟»
قالت دلفين: «إنكِ طفلة لديك معلومات كثيرة. نعم، صحيح، إنها عمليات إجهاض.» أزاحت كمَّ سترتها لتنظر إلى ساعة يدها، ثم أردفت قائلة: «إنها لم تصل الخامسة بعد. كنت سأقول إنها بدأت تفكر في أمر تلك الطفلة الصغيرة وتتساءل عما يمكن أن يكون قد حدث لها، ومن ثم شرعت في البحث والتقصي لتعرف. وحدث أن حالفها الحظ وعثرت على أولئك الأشخاص؛ المسيحيين، وكان عليها أن تتعامل معهم بأسلوب بغيض، لكنها حصلت على بعض المعلومات، وقد نجحت في الحصول على اسم الزوجَيْن اللذين قاما بتبني الطفلة.»
شقَّت لورن طريقها بحركات ملتوية لتهبط من الفراش، وتحرَّكت ببعض الخفة والرشاقة فوق الأغطية، ووضعت القدح فوق المنضدة.
وقالت: «يجب أن أذهب الآن.» ثم نظرت من النافذة وقالت: «إنها تمطر ثلجًا.»
«حقًّا؟ وما الشيء الجديد أيضًا؟ ألا تودين معرفة بقية القصة؟»
كانت لورن ترتدي حذاءها الطويل ذا الرقبة وحاولت أن تفعل ذلك وهي تبدو شاردة الذهن حتى لا تلاحظ دلفين ما تفعل.
«من المفترض أن الرجل يعمل في تلك الجريدة؛ لذا ذهبتْ إلى هناك وقالوا لها إنه غير موجود، لكنهم أخبروها عن المكان الذي آل إليه. لم تكن تعرف بالقطع الاسم الذي أطلقوه على الفتاة، لكن كان هذا شيئًا آخر استطاعت أن تعرفه فيما بعد؛ فلا يعرف المرء مطلقًا ما سيتكشَّف له من معلومات حتى يشرع في المحاولة. هل تحاولين الهروب مني؟»
«يجب أن أذهب الآن، إنني أشعر ببعض التعب في معدتي. أنا مصابة بالبرد.»
شرعت لورن في البحث عن سترتها التي قامت دلفين بتعليقها على مِشجب عالٍ في خلفية باب الحجرة، وعندما لم تستطع إنزاله سريعًا اغرورقت عيناها بالدموع.
قالت بأسًى: «إنني حتى لا أعرف شيئًا عن هذه الشخصية التي تُدعى جويس.»
أنزلتْ دلفين قدميها على الأرض، ونهضت من الفراش على مهل، ووضعت القدح على المكتب.
«إن كانت معدتك تؤلمك فينبغي أن تستريحي قليلًا، يبدو أنكِ احتسيت المشروب على عجل.»
«إنني فقط أريد سترتي.»
رفعت دلفين الجاكت من فوق المشجب، لكنها رفعته بيدها أعلى من متناول لورن، وعندما حاولت لورن الإمساك به لم تعطِه لها دلفين.
قالت: «ما الخطب؟ أتبكين؟ لم أكن أحسب أنكِ طفلة بكَّاءة سريعة التأثر. حسنًا، حسنًا، لقد كنتُ أغيظك فقط. ها هي السترة.»
دسَّت لورن أكمامها داخل السترة، لكنها كانت تعرف أنها لن تستطيع قفل السحَّاب الخاص بها، فوضعت يديها في الجيبَيْن فقط.
قالت دلفين: «حسنًا، هل أصبحتِ على ما يرام الآن؟ إننا ما زلنا أصدقاء، أليس كذلك؟»
«أشكركِ على الشوكولاتة الساخنة.»
«لا تُسرعي خطاكِ؛ فمعدتك بحاجة للراحة.»
انحنت دلفين نحوها، فتراجعت لورن للخلف؛ فقد فزعت من أن يدخل الشعر الأبيض — خصلات الشعر الأبيض الناعمة المنسدلة — إلى فمها.
إن كنت بلغت من الكبر ما يجعل شعرك أبيض، فينبغي ألا يكون بهذا الطول.
«إنني أعلم أنكِ تحافظين على الأسرار، وأدري أنكِ لا تبوحين بشيء عن زياراتك لي وحديثنا وتحتفظين بهما سرًّا. ستفهمين فيما بعد. إنك فتاة صغيرة رائعة. هيَّا.»
ثم طبعت قُبلة على رأسها.
وقالت: «لا تقلقي من شيء.»
•••
تساقطت قطع ضخمة من الثلوج مخلِّفة طبقات رقيقة هشَّة على جانبَي الطريق، ذابت تاركةً آثار أقدام سوداء، وما لبث أن امتلأ الرصيف ثانية بطبقات أخرى من الجليد. كانت العربات تشق طريقها بتأنٍّ وحذر على الضوء الخافت لمصابيحها الصفراء. كانت لورن تتلفَّت حولها من آنٍ إلى آخر؛ خشية أن يكون هناك من يتبعها، لم تستطع أن تتبين طريقها بوضوح بسبب الثلوج الكثيفة المتساقطة والأضواء المتضائلة، لكنها لم تعتقد أنه كان ثَمَّةَ من يقتفي أثرها.
كانت تشعر بانتفاخات في معدتها، وبأنها خاوية في ذات الوقت، واعتقدت أنه يمكن أن تتخلص من ذلك الشعور بمجرد تناولها نوعية الطعام المناسبة؛ لذا اتجهت إلى خزينة المطبخ فور دخولها إلى المنزل وأعدت لنفسها صحنًا من حبوب القمح التي اعتادت تناولها في الإفطار. لم يتبقَّ شيء من شراب القيقب المحلَّى، لكنها وجدت بعضًا من شراب الذرة. وقفت في المطبخ البارد وشرعت في تناول الطعام دون أن تخلع عنها حذاءها أو حتى ملابسها، وراحت تنظر صوب الفناء الخلفي الذي اكتسى حديثًا بالبياض. لقد أضفت الثلوج وضوحًا على الأشياء بالخارج بالرغم من أن مصابيح المطبخ كانت مضاءة. رأت صورتها منعكسة ووراءها الفناء الخلفي الذي تكسوه الثلوج والصخور الداكنة التي يكسو قمتها اللون الأبيض، وتتدلى الفروع دائمة الخضرة للأشجار تحت الثلوج البيضاء.
وما كادت تضع الملعقة الأخيرة في فمها حتى هرعت إلى الحمام وأفرغت ما في جوفها كله؛ من رقائق الذرة التي تغيَّر شكلها بالكاد، والشراب اللزج، وخيوط رفيعة لزجة من الشوكولاتة ذات اللون الباهت.
•••
كانت مستلقية على الأريكة عندما عاد والداها إلى المنزل، وكانت لا تزال ترتدي حذاءها وملابسها وتشاهد التليفزيون.
نزعت آيلين عنها ملابس الخروج وأحضرت لها غطاءً، وشرعت في قياس درجة حرارتها، وكانت طبيعية، ثم تحسَّست بطنها لترى إن كان متصلبًا بعض الشيء، ثم جعلتها تثني ركبتها اليمنى حتى لامست صدرها لترى إن كان ذلك سيشعرها بألم في جانبها الأيمن. كانت آيلين تشعر دومًا بالقلق حيال الإصابة بالتهاب بالزائدة الدودية؛ لأنه تصادف وأن كانت في حفلة ما — وكانت من ذلك النوع الذي يستغرق أيامًا — حيث توفيت فتاة إثر انفجار الزائدة الدودية، وقد كان الجميع في حالة سكر شديد، لدرجة أن أيًّا منهم لم يدرك أنها كانت في حالة خطيرة. وعندما تيقَّنت من أن حالة لورن لا علاقة لها بالزائدة الدودية ذهبت لتعد العشاء، وجلس هاري بصحبة لورن.
قال: «أعتقد أن كل ما تعانين منه هو رفضك للمدرسة. لقد كنتُ أشعر بذلك أيضًا وأنا صغير، إلا أنني عندما كنت طفلًا لم يكن العلاج لتلك الحالة قد تم اختراعه بعد. أتعرفين ما علاج ذلك؟ الاستلقاء على الأريكة ومشاهدة التليفزيون.»
أخبرتهم لورن في صباح اليوم التالي أنها لا تزال مريضة؛ بَيْدَ أن ذلك لم يكن صحيحًا. رفضت تناول طعام الإفطار، ولكن بمجرد أن غادر كلٌّ من هاري وآيلين المنزل، أحضرت كعكة كبيرة بالقرفة وتناولتها دون تسخينها وهي تشاهد التليفزيون. مسحت أصابعها اللزجة في الغطاء الذي تتدثر به، وحاولت أن تفكر في شأن مستقبلها. كانت تريد أن تمضيه هنا، داخل المنزل، فوق هذه الأريكة، ولكنها ما لم تدَّعي مرضًا يبدو حقيقًا فما من سبيل إلى تحقيق ذلك.
انتهت نشرة الأخبار بالتليفزيون وتبعتها إحدى حلقات المسلسل الدرامي اليومي. كان المسلسل كعالَم آخر اعتادت رؤيته عندما أصيبت بالتهاب الشعب الهوائية في الربيع الماضي، ومنذ ذاك الحين نسيت أمره تمامًا، وبالرغم من انقطاعها عن مشاهدة المسلسل لفترة طويلة إلا أنه لم يطرأ أي تغيير على الأحداث. ظهرت نفس الشخصيات، وأغلبها تقريبًا، ولكن في ظروف جديدة بالطبع، وكانوا يتصرفون بنفس أسلوبهم المعتاد (الذي ينطوي على النبل، أو القسوة، أو الشهوة، أو الحزن)، ونفس رؤيتهم لما هو أبعد في المستقبل، وذات العبارات المبهمة غير المكتملة التي تشير إلى بعض الحوادث والأسرار. استمتعت بمشاهدتهم لفترة من الوقت، لكن جال بخاطرها شيء أشعرها بالقلق؛ فقد يظهر من خلال هذه القصص فيما بعد أن الأطفال والبالغين ينتمون إلى عائلات أخرى تمامًا غير تلك التي نشئُوا في كنفها وتقبَّلوها كعائلاتهم؛ فيحدث أن يظهر فجأة وبلا مقدمات أشخاص يتسمون بالجنون والخطورة بادعاءاتهم الكارثية ومشاعرهم وانفعالاتهم المختلفة، ويقلبون حياتهم رأسًا على عقب.
كان هذا يبدو لها من قبل واحدًا من الاحتمالات المثيرة، لكنه لم يعد هكذا الآن.
لم يكن هاري وآيلين يُحكِمون غلق الأبواب؛ فيقول هاري إننا نعيش في مكان تغادر فيه منزلك فحسب دون أن يكون هناك داعٍ لإحكام غلقه. ولكن لورن نهضت الآن وأحكمت غلق البابين الأمامي والخلفي، ثم أسدلت الستائر على جميع النوافذ. لم تمطر السماء ثلجًا اليوم، لكن الثلوج الموجودة لم تذُب، وكانت هناك مسحة من اللون الرمادي بها كما لو أنها ازدادت عمرًا أثناء الليل.
لم تكن ثَمَّةَ وسيلة تستطيع من خلالها تغطية النوافذ الصغيرة عند الباب الأمامي. ثَمَّةَ ثلاث نوافذ على شكل قطرات الدمع متراصَّة في خط مائل، وكانت آيلين تكرههم بشدة. كذلك نزعت آيلين ورق الحوائط، وقامت بطلاء جدران هذا المنزل المتواضع بألوان غير معتادة؛ كلون بيض طائر أبي الحناء وهو الأزرق، والوردي بلون التوت البري، والأصفر الليموني، وقد تخلَّصت من الأبسطة القديمة، وقامت بصقل الأرضيات، لكن لم يكن هناك ما تفعله حيال هذه النوافذ الصغيرة.
قال هاري إن منظرها ليس بهذا السوء، وإنها بعددهم تمامًا، بل وبنفس الارتفاع الذي يناسب كلًّا منهم؛ فلكل واحد نافذته التي ينظر من خلالها. وأطلق عليهم أسماء الدبة الأم، والدب الأب، والدبة الصغرى.
عندما انتهت حلقة المسلسل الدرامي، وتحدث بعدها رجل وامرأة عن كيفية العناية بنباتات المنزل، راحت لورن في غفوة خفيفة لم تدرك أنها نوم، لكنها أدركت أنها راحت في النوم عندما استيقظت من حلم رأت خلاله أحد الحيوانات التي تذكِّرها بالشتاء من نوع ابن عرس رمادي اللون، أو ربما كان أحد الثعالب الهزيلة، لم تكن متيقنة من نوعه، وكان يراقب المنزل في ضوء النهار الوضاح من الفناء الخلفي، وقد أخبرها أحدهم في الحلم أن هذا الحيوان شرس؛ لأنه لا يخشى الآدميين أو المنازل التي يسكنون بها.
كان جرس الهاتف يدق، فجذبت الغطاء فوق رأسها حتى لا تسمع صوته. كانت على ثقة من أنها دلفين؛ فهي تريد أن تطمئن على حالها، وسبب اختفائها، وعن رأيها في القصة التي أخبرتها بها، ومتى ستأتي إلى الفندق.
•••
لكنها كانت آيلين في الحقيقة، أرادت أن تطمئن على لورن وعلى حالة الزائدة الدودية. انتظرت آيلين على الهاتف حتى دقَّ لنحو عشر أو خمس عشرة مرة، ثم غادرت مكتب الجريدة بعدها مسرعة إلى المنزل دون حتى أنْ تضع معطفها. وعندما وجدت الباب مغلقًا من الداخل راحت تدق عليه بشدة بقبضة يدها وتدير المقبض، ثم ألصقت وجهها بزجاج نافذة الدبة الأم وصاحت باسم لورن. وترامى إليها صوت التليفزيون، فجرت نحو الباب الخلفي وراحت تدق عليه بشدة وتنادي على لورن ثانية.
سمعت لورن كل ذلك بالقطع ورأسها مختفية أسفل الغطاء، لكنها استغرقت بعض الوقت لتدرك أنها آيلين وليست دلفين. وعندما أيقنت ذلك تسللت بخفة نحو المطبخ والغطاء يتدلى وراءها على الأرضية وهي ما زالت شبه معتقدة أن الصوت قد يكون خدعة.
قالت آيلين وهي تطوِّقها بذراعيها: «يا إلهي! ماذا أصابك؟ لماذا كان الباب موصدًا؟ لماذا لم تجيبي على الهاتف؟ ما اللعبة التي تلعبينها؟»
ظلت لورن متماسكة لنحو خمس عشرة دقيقة وآيلين تحتضنها تارة وتصرخ بها تارة أخرى، ثم انهارت وراحت تقص على مسامعها كل شيء. مثَّل لها ذلك راحةً كبيرة، وأزاح حملًا ثقيلًا عن كاهلها، ولكن برغم ذلك فحتى عندما كانت تبكي وترتعش كانت تشعر بأن هناك شيئًا شديد الخصوصية والتعقيد قد تخلَّت عنه في مقابل الراحة والشعور بالأمان. لم يكن من الممكن الإفصاح عن الحقيقة كلها؛ لأنها هي نفسها لم تصل إليها كاملة. لم تستطع أن تشرح لها ما كانت تريده، بل حتى وصلت إلى أنها لم تكن تريد شيئًا على الإطلاق.
هاتفت آيلين هاري وأخبرته أنه ينبغي أن يحضر إلى المنزل، وكان عليه أن يأتي سيرًا على الأقدام؛ فهي لا تستطيع أن تذهب إليه لتأخذه؛ إذ إنها لم تستطع ترك لورن وهي في هذه الحالة.
ذهبت لتفتح الباب الأمامي، فوجدت مظروفًا أُلقي من فتحة البريد ودون طابع بريد، ولم يكن هناك شيء مدوُّن فوقه سوى اسم لورن.
قالت: «هل سمعتِ صوت هذا وهو يوضع في فتحة البريد؟ هل ترامى إلى مسامعك وقع خطوات أحدهم في الشرفة؟ كيف أتى هذا إلى هنا بحق الجحيم؟»
فتحت المظروف وأخرجت منه سلسة ذهبية يتدلى منها اسم لورن.
قالت لورن: «لقد نسيتُ أن أحكي لكِ هذا الجزء.»
«هناك رسالة قصيرة.»
صرخت لورن: «لا تقرئيها، لا تقرئيها، لا أريد أن أسمع ما بها.»
«لا تكوني سخيفة، إنها لن تعضك؛ إنها فقط تقول إنها هاتفت المدرسة ولكنك لم تكوني هناك، وتساءلت إن كنتِ مريضة، وتلك هدية لك لكي تُشعرك بالبهجة. وتقول أيضًا إنها اشترتها من أجلك أنتِ ولم يفقدها أحدهم. ماذا يعني ذلك؟ كان من المفترض أن تكون هدية عيد ميلادك عندما تبلغين الحادية عشرة في مارس القادم، لكنها فضَّلت أن تمنحها لكِ الآن. من أين أتت بفكرة أن عيد ميلادك في مارس؟ عيد ميلادك في يونيو.»
قالت لورن وقد عاد إليها الآن صوتها الطفولي الذي يشوبه الوهن والحزن: «أعرف ذلك.»
قالت آيلين: «أرأيتِ؟ كل معلوماتها خاطئة، إنها مجنونة.»
قالت لورن: «لكنها رغم ذلك تعرف اسمك، وتعرف مكانك. أنَّى لها أن تعرف ذلك إن لم تكونا تبنيتماني؟»
«لا أدري كيف عرفت ذلك بحق الجحيم، لكنها مخطئة؛ كل معلوماتها غير صحيحة. أنصتي إليَّ، سأُخرج لكِ شهادة ميلادك. لقد وُلدتِ في مستشفى ويلسلي في تورنتو. سنصحبك إلى هناك، سأجعلك ترين الحجرة التي ولدت بها …» نظرت آيلين إلى الرسالة ثانية وأطبقت عليها قبضتها.
قالت: «تلك الحقيرة. تُهاتف المدرسة، وتأتي إلى المنزل. تلك الملعونة المخبولة!»
قالت لورن وهي تعني السلسلة: «أبعدي هذا الشيء، أخفيه بعيدًا. الآن.»
لم يكن هاري على نفس درجة الغضب التي كانت عليها آيلين.
قال: «كانت تبدو شخصية طبيعية تمامًا حينما كنت أتحدث إليها، ولم تذكر شيئًا من هذا القبيل أمامي على الإطلاق.»
قالت آيلين: «إنها لم تكن لتفعل؛ فقد أرادت أن تصل للورن مباشرة. يجب أن تذهب وتتحدث معها وإلا فعلتُ أنا، وأعني ذلك، واليوم.»
قال هاري: «سأضعها عند حدها، تمامًا. لن يكون هناك المزيد من المشاكل. يا له من موقف مخزٍ!»
قامت آيلين بإعداد طعام الغداء مبكرًا. وقد أعدَّت شطائر الهامبورجر مع المايونيز والخردل تمامًا كما يفضلها هاري ولورن. وقد انتهت لورن من تناول طعامها قبل أن تدرك أنها ربما تكون أخطأت عندما أظهرت تلك الشهية في تناول طعامها.
قال هاري: «أتشعرين بتحسن؟ هل ستعودين إلى المدرسة فيما بعد الظهيرة؟»
قالت: «ما زلت أعاني من البرد.»
قالت آيلين: «لا، لن تعود إلى المدرسة، وسأمكث معها في المنزل.»
قال هاري: «لا أرى أن هناك ضرورة لذلك على الإطلاق.»
قالت آيلين وهي تدفع بالمظروف داخل جيبه: «وأعطِها هذه، لا تشغل بالك ولا تهتم بالنظر إلى المظروف، إنها هديتها الغبية، وأخبرها أن تكف نهائيًّا عن فعل مثل هذه الأشياء وإلا ستزجُّ بنفسها في مشكلة كبيرة، عليها أن تكفَّ نهائيًّا. يكفي هذا ولا تحاول فعل أي شيء.»
•••
لم تضطر لورن إلى العودة للمدرسة، ليس في تلك البلدة.
قامت آيلين خلال فترة ما بعد الظهيرة بمهاتفة أخت هاري — والتي لم يكن يحادثها بسبب بعض الانتقادات التي وجهها زوجها بشأن أسلوبه؛ أسلوب هاري، في الحياة — وتحدثتا بشأن المدرسة التي كانت تذهب إليها الأخت، وهي مدرسة بنات خاصة في تورنتو، وتبعت هذه المكالمة المزيد من المكالمات الأخرى، وتم تحديد موعد بشأن ذلك الموضوع.
قالت آيلين: «إن المسألة لا تتعلق بالنقود؛ فهاري يمتلك ما يكفي من النقود، أو بمقدوره الحصول عليها.»
قالت: «ولا يتعلق الأمر بتلك المسألة فقط، بل إنك تستحقين العيش في مكان أفضل من هذه البلدة الوضيعة، ولا تستحقين أن ينتهي بكِ المطاف كأي ريفية خرقاء. لقد كنتُ أفكر في ذلك طوال الوقت، لكني كنت أُرجِئ النقاش فيه حتى تكبرين قليلًا.»
قال هاري عندما عاد إلى المنزل إن الأمر يعتمد بالتأكيد على ما تريده لورن.
«هل ترغبين في مغادرة المنزل يا لورن؟ أعتقد أنك أحببتِ المكان هنا، وأظن أنَّ لكِ بعض الأصدقاء.»
قالت آيلين: «أصدقاء؟ نعم لديها تلك السيدة التي تدعى دلفين. هل توصَّلت إليها؟ وهل تلقَّتِ الرسالة؟»
قال هاري: «نعم، فعلت، وتلقَّت الرسالة جيدًا.»
«هل أعدتَ لها رشوتها؟»
«إن أردتِ أن تطلقي عليها ذلك، نعم فعلت.»
«لا مزيد من المشاكل؟ أفَهِمَتْ؟ لا مزيد من المشاكل.»
فتح هاري المذياع وراحوا يستمعون إلى النشرة أثناء تناولهم العشاء، وقامت آيلين بفتح زجاجة من النبيذ.
قال هاري في صوت يشوبه شيء من تهديد: «ما هذا؟ أهو احتفال؟»
لقد تعلَّمتْ لورن العلامات واعتقدت أنها ترى ما عليها أن تمر به الآن، الثمن الذي سيُدفع من أجل عملية الإنقاذ الخارقة؛ عدم الرجوع للمدرسة ثانية أو الاقتراب من الفندق، بل ربما يصل الأمر لعدم السير في الشوارع على الإطلاق، وعدم الخروج من المنزل في الأسبوعين الباقيين قبل حلول إجازات عيد الميلاد.
قد يكون النبيذ أحد هذه العلامات، أحيانًا، وفي أحايين أخرى لا يكون كذلك، لكن عندما أخرج هاري زجاجة الجين وصبَّ لنفسه نصف كوب ولم يُضِف إليه شيئًا آخر سوى الثلج — ولم يضف حتى الثلج بعد ذلك — أدركت أن الأمور قد استقرت وتم إعداد كل شيء. قد لا يزال كل شيء باعثًا على البهجة، لكنها تلك البهجة الحادة كأطراف السكين. وسيتحدث هاري إلى لورن، وستتحدث آيلين إلى لورن، وذلك بصورة أكثر مما اعتادا عليه، وسيتحدثان بعضهما إلى بعض بين الحين والآخر بأسلوب يبدو طبيعيًّا. لكن سيكون هناك بالرغم من ذلك نوع من اللامبالاة في الغرفة لم تُظهره الكلمات بعد، وسوف تتمنى لورن، أو ستحاول أن تتمنى — أو تحديدًا اعتادت على محاولة تمني — أن يكفا بأي حال عن البدء في الشجار. ودائمًا ما كانت تعتقد — كانت لا تزال تعتقد — أنها ليست الوحيدة التي تمنَّت ذلك؛ فهما أيضًا كانا يأملان في هذا، إلى حدٍّ ما، إلا أنهما أيضًا كانا يتوقان لما سيأتي، ولم يكن باستطاعتهما التغلب على ذلك الشعور. فلا توجد مرة واحدة عمَّت فيها تلك الأجواء؛ أجواء التغير في الغرفة، ذلك البريق الصادم الذي يجعل كل الأشكال والأثاث والأواني أكثر حدة وكثافة، ولم يتبعها ما هو أسوأ.
ولم تعتَد لورن على أن تبقى في غرفتها، بل كانت توجد حيث يكونان، تُقحم نفسها وسطهما، تحتجُّ وتبكي حتى يحدث أن يمسكها أيٌّ منهما ويحملها إلى الفراش قائلًا: «حسنًا حسنًا، لا تزعجينا، لا تزعجينا فحسب، إنها حياتنا، اتركي لنا فرصة للحديث.» و«الحديث» كان يعني التجول في أرجاء المنزل وهما يتبادلان الخطب الرنانة التي تحمل الإدانة والاستنكار، والصرخات التي يصرِّحان خلالها بالمتناقضات في حياتهما، إلى أن يبدآ في التراشق بمنافض السجائر، والزجاجات والصحون. وفي مرة من المرات هرعت آيلين إلى خارج المنزل وألقت بنفسها فوق العشب، وهي تقطع الحشائش وتمسك بكتل الأوحال بينما كان هاري يقول لها مستهجنًا وهو على عتبة الباب: «أوه، أهذا هو الأسلوب إذن؟ حسنًا قدِّمي للناس عرضًا.» وفي مرة أخرى حبس هاري نفسه في دورة المياه وهو يصيح: «ليس هناك سوى طريقة واحدة للتخلص من هذا العذاب.» وقد هدَّدتا كلتاهما بابتلاع الأقراص أو استخدام الشفرات الحادة لإنهاء حياتيهما.
قالت آيلين ذات مرة: «أوه، يا إلهي! فلنكفَّ عن ذلك، أرجوكَ، أرجوك علينا أن نكفَّ عن هذا.» وأجابها هاري بصوت منتحب مقلدًا صوتها في قسوة: «إنكِ أنت من يفعل ذلك، كُفِّي أنتِ عن هذا.»
توقَّفت لورن عن محاولة اكتشاف سبب هذه المشاجرات؛ إذ وجدت أن لها في كل مرة سببًا مختلفًا (فقد استلقت الليلة في الظلام واعتقدت أن هذه المشاجرات ربما تكون بشأن رحيلها؛ بشأن اتخاذ آيلين لهذا القرار بمفردها)، ربما كان السبب هو نفس السبب في كل مرة؛ أنهما لا يستسلمان أبدًا.
كانت لورن أيضًا قد صرفت النظر عن فكرتها بأن هناك نقطة ضعف بداخلهما — فهاري يمزح طوال الوقت لأنه كان حزينًا بداخله، أما آيلين فكانت تتسم بالحدة واللامبالاة لأن ثَمَّةَ شيئًا بشأن هاري كان يجعلها تبتعد وتحجم — وأنها إذا كان بمقدورها — أي لورن — أن توضح ما بداخل كلٍّ منهما للآخر لسارت الأمور على نحو أفضل.
وتراهما في اليوم التالي وقد بدت عليهما الاستكانة والانكسار والخزي وبعض من النشاط والسرور بصورة غريبة. قالت آيلين للورن ذات مرة: «على الناس أن يفعلوا ذلك في بعض الأحيان؛ فمن الخطأ كبت مشاعرك، بل ثَمَّةَ نظرية تقول إن كبت الغضب يؤدي إلى الإصابة بالسرطان.»
وقد كان هاري يشير إلى مشاجراتهما بالخلاف، فيقول: «آسف بشأن خلافنا؛ فآيلين امرأة سريعة التقلب، وكل ما يمكنني قوله يا عزيزتي … أوه، يا إلهي! كل ما أستطيع قوله إن مثل هذه الأمور تحدث.»
•••
في تلك الليلة راحت لورن في النوم قبل أن يبدآ شجارهما المدمر، حتى قبل أن تتأكد من أنهما سيقدمان على ذلك. ولم تكن حتى آثار زجاجة الجين قد ظهرت عليهما عندما تركتهما وذهبت إلى فراشها.
أيقظها هاري.
قال: «آسف يا حبيبتي، هل بإمكانك أن تنهضي وتهبطي إلى الطابق السفلي؟»
«أهو الصباح؟»
«لا، لا يزال الوقت متأخرًا من الليل، لكني أود أن أتحدث إليك أنا وآيلين. ثَمَّةَ شيء نود أن نتحدث إليك بشأنه؛ إنه يتعلق بما تعرفينه بالفعل. والآن هيَّا، أتودين ارتداء الخف؟»
قالت لورن مذكِّرة إياه: «تعلم بأني أبغض ارتداءه.» وتقدَّمته وهي تهبط الدرج. كان لا يزال يرتدي كامل ملابسه، وكذلك كانت آيلين وهي تنتظر في الردهة بالطابق السفلي، وقالت للورن: «هناك شخص آخر تعرفينه هنا.»
لقد كانت دلفين. كانت تجلس على الأريكة وترتدي معطفًا للتزلج فوق سروالها الأسود المعتاد وسترتها. لم تكن لورن رأتها من قبل في ملابس بخلاف ملابس العمل. كان وجهها ممتقعًا باهتًا، وبشرتها متجعدة، ويبدو جسمها واهنًا بشكل كبير.
قالت لورن: «ألا يمكننا الذهاب إلى المطبخ؟» ولم تكن تعرف لماذا قالت ذلك، لكن المطبخ كان يبدو المكان الأكثر أمانًا؛ فهو مكان أقل خصوصية، وبه مائدة تستطيع الاتكاء عليها إذا ما التفوا حولها جالسين.
قال هاري: «لورن ترغب بالجلوس بالمطبخ، فلنذهب إلى المطبخ.»
قال عندما جلسوا هناك: «لورن، لقد أوضحتُ لهما أنني أخبرتك بأمر الطفل؛ الطفل الذي كان لدينا قبل مجيئك وما حدث له.»
انتظرَ حتى قالت لورن: «نعم.»
قالت آيلين: «هل بإمكاني أن أقول شيئًا الآن؟ هل بإمكاني أن أقول شيئًا للورن؟»
قال هاري: «بالطبع.»
قالت آيلين وهي تنظر إلى يديها اللتين تضعهما على حجرها أسفل سطح المائدة: «لم يحتمل هاري فكرة وجود طفل آخر، لم يحتمل فكرة أن يكون هناك فوضى بالبيت؛ فلديه كتاباته، وكان يريد إنجاز بعض الأشياء؛ لذا فلا ينبغي أن يكون هناك أي نوع من الفوضى. وكان يريدني أن أخضع لعملية إجهاض، وقلت له بأني سأفعل، ثم أخبرته بأني لن أفعل، ثم عدت ثانية وأخبرته بأنني سأخضع لها، لكني لم أستطع، وتشاجرنا حينها وأخذت الطفل واستقللت السيارة، فكنت ذاهبة لمنزل إحدى صديقاتي. لم أكن أسير بسرعة كبيرة، وبالطبع لم أكن ثملة، كل ما في الأمر أنه لم تكن هناك إضاءة كافية على الطريق وكان الطقس سيئًا.»
أضاف هاري: «وكذلك لم يكن مهد الطفل مثبتًا جيدًا في المقعد.»
قال: «لكن دعينا من ذلك، أنا لم أكن مصرًّا على إجراء عملية الإجهاض. ربما أكون قد ذكرت إجراء العملية، لكن لم يكن من سبيل أن أجبرك عليها. إنني لم أتحدث مع لورن بشأن ذلك؛ لأنه سيكون من المؤلم أن تسمع هذا. من المؤكد أنه أمر مؤلم.»
قالت آيلين: «نعم، ولكنها الحقيقة، ولورن بإمكانها تفهُّم ذلك جيدًا؛ فهي تعلم أنها لم تكن السبب.»
قالت لورن وقد دُهشت هي ذاتها من أسلوبها:
«لقد كنتُ أنا السبب، مَن عساه يكون غيري؟»
قالت آيلين: «لكني لم أكن أنا التي أرغب في فعل ذلك.»
قال هاري: «أحقًّا؟ إنك لم تكوني معترضة تمامًا على إجرائها.»
قالت لورن: «توقفا عن هذا.»
قال هاري: «هذا تمامًا هو ما اتفقنا ألا نفعله، أليس هذا ما اتفقنا ألا نفعله؟ ونحن ندين بالاعتذار لدلفين.»
لم تكن دلفين تنظر إلى أحد أثناء ذلك الحديث الدائر بينهم. ولم تقرب مقعدها من المائدة، بل بدا أنها لم تلحظ عندما ذكر هاري اسمها. فلم يكن شعورها بالهزيمة فقط هو ما جعلها في تلك الحالة من الصمت والسكون، بل هو ثقل المكابرة والعناد، بل والاشمئزاز، الذي لم يلحظه هاري أو آيلين.
«لقد تحدثت إلى دلفين في فترة ما بعد الظهيرة يا لورن، وأخبرتها بأمر الطفلة. كانت تلك هي طفلتها، ولم أخبرك مطلقًا بأننا كنا قد تبنينا تلك الطفلة؛ لأنه من شأنه أن يجعل الأمور أسوأ؛ كيف أننا تبنينا تلك الطفلة ثم الطريقة التي أضعناها بها. مرت خمس سنوات ونحن نحاول أن يكون لدينا طفل، واعتقدنا بأن ذلك لن يحدث، ولن نرزق بأحدهم، فتبنَّينا طفلة. لكن دلفين كانت أمَّ تلك الطفلة في المقام الأول، وأطلقنا على الطفلة اسم لورن، ثم أسميناك بهذا الاسم؛ أعتقد لأنه كان الاسم المفضل لدينا، كما أنه كان يمنحنا شعورًا بأننا نبدأ من جديد. وكانت دلفين ترغب في أن تعرف أخبار ابنتها، واكتشفت أننا نحن من أخذناها، وكان من الطبيعي أن تعتقد خطأً بأنكِ أنتِ طفلتها، وقدِمت إلى هنا ووجدتْكِ. كان هذا شيئًا محزنًا. وعندما أخبرتُها بالحقيقة أرادت دليلًا على هذا الكلام، وأنا أتفهم ذلك تمامًا؛ لذا أخبرتها بأن تأتي إلى هنا الليلة وأطلعتها على المستندات الخاصة بك. إنها لم تكن ترغب في سرقتك أو أي شيء من هذا القبيل، إنها فقط أرادت أن تصادقك؛ فلقد كانت تشعر بالوحدة والحيرة.»
قامت دلفين بفتح سحَّاب معطفها كما لو أنها كانت تبغي المزيد من الهواء.
قال: «وأخبرتها بأن الصندوق لا يزال لدينا؛ إذ لم نجد قط الوقت المناسب ﻟ …» ثم أشار بيده إلى الصندوق المصنوع من الورق المقوى الذي استقر فوق النضد وأردف قائلًا: «لذا فقد جعلتُها ترى هذا أيضًا.»
وأضاف: «لذا فنحن الليلة كعائلة، وإذ أضحى كل شيء واضحًا، سنذهب إلى الخارج وننهي الأمر، سنتخلص من كل الشقاء واللوم؛ دلفين وآيلين وأنا، ونريدك أن تأتي معنا؛ فهل توافقيننا الرأي في هذا؟ هل توافقين؟»
قالت لورن: «لقد كنتُ نائمة، وأعاني من نزلة برد.»
قالت آيلين: «عليكِ أن ترافقينا كما قال هاري.»
كانت دلفين لا تزال تخفض بصرها ولا ترفعه نحوهم. أخذ هاري الصندوق من فوق النضد وأعطاها إياه وقال: «ربما أنتِ الأَوْلى بحمله. هل أنتِ على ما يرام؟»
قالت آيلين: «الجميع بخير، دعونا نذهب.»
•••
وقفت دلفين وسط الثلوج وهي تحمل الصندوق، وقالت آيلين: «هل تسمحين لي؟» وأخذته منها في إجلال واحترام، وقامت بفتحه، وكانت على وشك أن تعطيه لهاري، لكنها غيَّرت رأيها ومدته نحو دلفين ثانية. قامت دلفين بأخذ حفنة صغيرة من الرماد، لكنها لم تأخذ الصندوق ومررته إليهم. أخذت آيلين حفنة هي الأخرى وأعطت الصندوق لهاري. وعندما أخذ هو حفنة من الرماد كان على وشك أن يعطي الصندوق للورن، لكن آيلين قالت له: «لا، ليس عليها أن تفعل ذلك.»
كانت لورن قد دسَّت يديها بالفعل في جيبَيْها.
لم تهُبَّ أي رياح؛ لذا سقط الرماد حيث ألقاه كلٌّ من هاري وآيلين ودلفين وسط الثلوج.
تحدَّثت آيلين كما لو كان حلقها محتقنًا: «أبانا الذي في السماوات …»
أكمل هاري بصوت واضح: «هذه لورن طفلتنا التي أحببناها، دعونا نَقُل ذلك جميعًا.» ثم نظر نحو دلفين وآيلين ورددوا جميعهم: «هذه لورن طفلتنا.» كان صوت دلفين خفيضًا تمامًا وهي تتمتم بذلك، أما صوت آيلين فكان يمتلئ بالصدق الذي يشوبه بعض التوتر، وكان هاري يقودهم بصوت رنان تعلوه الجدية الشديدة.
وفي النهاية قالت آيلين مسرعة: «ونحن نودِّعها ونُسْلِمها إلى الثلوج، واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا. اغفر لنا خطايانا.»
في رحلة العودة إلى البلدة جلست دلفين في المقعد الخلفي إلى جوار لورن، وقد فتح لها هاري الباب الأمامي لكي تجلس بجواره، لكنها جاوزته لتجلس في المقعد الخلفي. وقد تخلَّت عن المقعد الأهم؛ فهي الآن لم تعد حاملة للصندوق. وضعت يدها في جيب معطفها لتخرج منديلًا ورقيًّا، وبينما هي تفعل ذلك جذبت شيئًا آخر سقط على أرضية السيارة. أطلقت شهقة لاإرادية، وانحنت لأسفل لكي تحدِّد مكانه، لكن لورن كانت أسرع منها. التقطت لورن فردة واحدة من القرط الذي طالما رأت دلفين وهي ترتديه؛ كان طويلًا يصل إلى كتفها، وبه بعض كرات الخرز التي تعكس ألوان قوس قزح وتعكس بريقًا على خصلات شعرها. لا بد وأنها كانت ترتدي هذا القرط في تلك الليلة، لكنها رأت أنه من الأحرى أن تضعه في جيبها. ومجرد ملمس ذلك القرط بكراته اللامعة الباردة المصنوعة من الخرز جعل لورن تتمنى فجأة وهو ينزلق من بين أصابعها أن تختفي بعض الأشياء، وأن تعود دلفين نفس الشخص الذي عرفته في البداية، وهي تجلس خلف النضد في الفندق حيث كانت تتسم بالجرأة والمرح.
لم تنبس دلفين بكلمة. أخذت القرط دون أن تتلامس أصابعهما، لكن لأول مرة في تلك الليلة يلتقي وجهاهما هي ولورن وينظران مباشرة إحداهما إلى الأخرى. اتسعت حدقتا عينَي دلفين، وارتسم على وجهها للحظة تعبيرًا مألوفًا بالتهكم والتآمر. هزَّت كتفَيْها ووضعت القرط في جيبها. كان هذا كل ما حدث بينهما، ومنذ ذاك الحين وجَّهت نظرها للأمام نحو مؤخرة رأس هاري.
أبطأ هاري من سرعته، ثم توقف لكي ينزلها عند الفندق وقال: «سيكون شيئًا لطيفًا أن تأتي لتناول طعام العشاء معنا في أي ليلة لا تعملين خلالها.»
قالت دلفين: «إنني غالبًا ما أعمل طوال الوقت.» غادرت السيارة وهي تقول: «وداعًا.» ولم تكن توجِّه حديثها لأيٍّ منهم على وجه التحديد، ثم سارت بخطًى متثاقلة عبر الرصيف المغطى بالثلج إلى داخل الفندق.
قالت آيلين وهم في طريقهم إلى المنزل: «كنت أعرف أنها لن تقبل الدعوة.»
قال هاري: «حسنًا، ربما شعرت بالتقدير لدعوتنا هذه على أي حال.»
«إنها لا تهتم بأمرنا. لم يكن يهمها سوى لورن حينما كانت تعتقد أنها ابنتها، والآن لم تعد تهمها هي الأخرى.»
قال هاري وقد علا صوته: «لكن نحن نفعل، إنها ابنتنا نحن.»
ثم أردف قائلًا: «نحن نحبك يا لورن، كنت أريد فقط أن أعيد عليك هذا الكلام مرة أخرى.»
«ابنتها. ابنتنا.»
ثَمة شيء شعرت لورن أنه يوخز كاحلَيْها العاريين، فانحنت لترى سبب ذلك، فوجدت بعض النباتات الشائكة؛ كتلة من النباتات الشائكة، تعلق بسروال منامتها.
«لقد علقت بي بعض النباتات الشائكة أسفل الثلوج، علقت بي المئات منها.»
قالت آيلين: «سأقوم بنزعها عنكِ عندما نصل إلى المنزل؛ فليس ثَمَّةَ ما أستطيع فعله الآن.»
راحت لورن تزيح النباتات بغضب عن منامتها، وبمجرد أن تخلَّصت منها اكتشفت أنها التصقت بأصابعها، فحاولت أن تتخلص منها بيدها الأخرى، ولكنها سرعان ما علقت بأصابع يدها كلها. شعرت بالتقزز والاشمئزاز من تلك النباتات لدرجة أنها أرادت أن تطرق يدها بعنف لتزيحها وتصرخ بأعلى صوتها، لكن كانت تدرك أنه ليس بمقدورها أن تفعل شيئًا سوى الجلوس والانتظار.