حياته الخاصة
حياته الخاصة
كتب الشاعر الألماني هنريك هايني عن فيلسوف الألمان الكبير «عما نويل كانت» فقال: إن ترجمة حياته الخاصة من أعسر الأمور، لأسباب كثيرة، أولها أنه لم تكن له حياة خاصة!
ويستطرد الشاعر الظريف فيقول: إن الفيلسوف كان يأكل وينام ويستيقظ ويتمشى للرياضة ويجلس للتدريس بالساعة، وإنه كان إذا ظهر في رواق الزيزفون يتمشى كعادته كل أصيل نظر إليه الناس وأخرجوا ساعاتهم فضبطوها!
مثل هذا الكلام يقال عن القائد الأعظم، ولكن لعلة غير العلة التي تعلل بها الشاعر الساخر للفيلسوف الحكيم.
فمن أعسر الأمور كتابة حياة خاصة للقائد الأعظم، ولكن لعلة غير هذه العلة، وتلك هي علم الجميع بحياته الخاصة، فليست له حياة خاصة بين الجدران أو وراء الحجب يعلم بها أناس ويجهلها أناس: حياته الخاصة كانت هي حياته التي تخصه ويعلم بها جميع عارفيه، ولم يكن لها ظاهر متكلف ولا سر محجوب.
كان زعيم أمة قوامها الدين، ولكنه لم يلبس مسوح القديسين أو يرائي أحدًا بالنسك والعبادة: كان إذا شهد اجتماعًا وحضرت الصلاة أمَّ الحاضرين في الصلاة الجامعة، ولم يشاهد قط في محفل على صورة تُخالف ما ينبغي للرجل المسلم الذي يقود في معترك السياسة أمة إسلامية، ولكنه لم يُشاهد كذلك متخذًا من التدين مراسم للظهور والمراءاة في حدود ما يليق بالزعيم، ولا التزام لحدود غير تلك الحدود.
ولم تقيده الزعامة بقيد تأباه السماحة وسعة الصدر وآداب الاجتماع، فكان من زواره مسلمون وغير مسلمين، وكان يزور من يزوره ويُرى في بيوت الطوائف الأخرى كما يرى أناس من أبناء الطوائف الأخرى في بيته، وزياراته أو زياراتهم في جميع الأحوال ليست بالشاغل الذي يستغرق فراغ وقته، كما يتفق لرجل السياسة الذي تملأ تكاليف المجتمع حيزًا كبيرًا من وقته، بل هي زيارات الرجل الذي لا يُريد أن ينقطع ما بينه وبين الناس، ولا يريد كذلك أن تقطعه تكاليف المجتمع عن أمانته الكبرى: أمانة السهر على تكوين أمة وحكومة.
وكانت علاقاته بمعارفه، وبمن يلقاهم في عمله، علاقة خلت من التكلف، وربما بدا عليها من أجل ذلك مسحة من الخشونة، أو بدا عليها نقيض الخشونة حين يخشى أن يحسبه الناس خشنًا في معارضته، فيخفض من جناحه ويلين في حديثه، وقوة معارضته في ذلك الحديث باقية في مدلوله ومرماه.
زواجه
صرفته الحياة العامة عن الزواج حتى بلغ الأربعين، فلما تزوج في تلك السن كانت لزواجه قصة «جناحية» تطابق ديدنه المطرد في حياته العامة، فإن سفير الوحدة قد تزوج من فتاة زردشتية، وأبت الأقدار إلا أن يكون زواجه آية أخرى من آيات هذه السفارة التي صمد عليها ما استطاع.
كان جناح رجلًا وسيمًا وظل شيخًا وسيمًا معتدل القامة إلى أن توفي وهو يجاوز السبعين.
كان علمًا بارزًا في جلسات المؤتمر والعصبة التي انعقدت في سنة ١٩١٦، وكان يقود العصبة ويقود المؤتمر ويدير الحوار ويرد على كل سؤال، ويخرج عن كل معركة حامية بالحجة الناصعة والرأي المسموع، وكان السير «دنشا بتيت» أغنى أغنياء الفرس في بومباي يشهد الجلسات ومعه فتاته الذكية الحسناء رتن بتيت، فأعجبها الرجل الوسيم وأعجبها الخطيب المبين، وهامت به وفاتحته بحبها، وسمحت لها تربيتها الأوروبية أن تعرض عليه الزواج وهي دون العشرين.
وفوجئ جناح باقتراحها وراجعها في الأمر، وبصرها بالعواقب التي تترقبها عاجلًا وآجلًا من جراء هذا الزواج مع اختلاف الدين وتفاوت السن، ومحظورات التقاليد، فزادتها المراجعة إصرارًا وقالت له: إنها لا تجهل هذه العواقب وأولها الحرمان من مال أبيها، والحرمان بعد ذلك من الميراث، فلما آمن أن يقال: إنه قَبِل زواجها لمالها، وأعلمها أنه يتوقع ما توقعته من حرمانها، قابلت هي هذا النبل من الرجل الذي أحبته بإعلان إسلامها، فنشرت الصحف أنباء عقد الزواج وإسلام الفتاة في وقت واحد، وقامت القيامة عليهما وثبت لها الزوجان في غير مبالاة.
ساقهما أهلها المقتدرون إلى القضاء، وودوا لو يدعون قصورها لولا أن سنها بشهادة الميلاد تخولها أن تختار زوجها بإرادتها.
ولما أراد القضاء أن يحرجه لينفض يده من هذا القران المغضوب عليه، واتهمه على ملأ من شهود الجلسة بأنه يجري وراء الفتاة الغنية طمعًا في مالها، لم يشأ أن يجيب وترك لها الجواب، فقالت للقاضي مغضبة: إنه لم يجر وراءها ولم يجر وراء مالها، وارتضى أن يبني بها وهو يعلم أنها ستحرم من ثروة أهلها، وهي تعلن في ساحة القضاء وفاقًا لما أراد أنها قد استغنت عن معونة أهلها كل الاستغناء.
ومن الأخبار القليلة التي وردت متفرقة في سيرة القائد الأعظم؛ نعلم أن هذه الزوجة النبيلة كانت جديرة بزوجها في أنبل مناقبه؛ وهي الشجاعة والاستقلال بالرأي والكرامة، فهان عليها أن تنبذ الملايين في سبيل الرجل الذي أحبته، وهان عليها أن تكبت حياءها وهي تبرئه من إغوائها، وتجهر في ملأ من شهود الجلسة أنها هي التي عرضت نفسها عليه.
ومن قصة طريفة تناقلها الهنود يومئذ تتراءى لنا الفتاة الغضة جديرة بزوجها في بديهته الحاضرة، وصراحته النادرة، وصلابته القوية، وجوابه السريع؛ فإنها — مع تربيتها الأوروبية الكاملة — كانت تأخذ نفسها باحترام عادات قومها، وتنكر النزول عن سمت البلاد حين يكون النزول عنها تزلفًا لأصحاب السيطرة الأجنبية، ودعيت مع زوجها إلى وليمة في قصر الحاكم العام فحيته حين قدمت إليه بالتحية الهندية، ولم تنحن متراجعة على طريقة الأوروبيين في مقام التعريف لأول مرة، فامتعض الحاكم العام واغتنم فرصة التحدث إليها فقال لها في لهجة السيد الموتور: «إن زوجك يا سيدتي لذو مستقبل عظيم أمامه فلا تفسديه عليه … والمثل يقول: في روما اصنعي كما يصنع الرومان.» قالت غير متهيبة: «وهذا الذي صنعت … ففي الهند نقدم التحية كما يقدمها الهنود!»
ودُعيت إلى وليمة أخرى في القصر فاستطرد الحديث إلى الكلام عن البلاد الألمانية، وراح اللورد ريدنج يقص شيئًا من ذكرياته أيام التلمذة هناك، ثم قال: إنني مشوق إلى زيارة تلك البلاد وأخشى ألا أستطيع، قالت السيدة جناح: «ولمه؟» فعاد اللورد ريدنج يقول: «إن الألمان اليوم لا يحبوننا، وهم نافرون منا بعد الحرب، وفي الزيارة حرج على الإنجليزي الذي يذهب إليهم …» قالت على الأثر في شيء من شيطنة الشباب: «عجبًا! وكيف إذن حضرت إلى الهند في هذه الأيام؟»
موت زوجته
وسعد الزوجان على غير الشائع عن زواج الحب أو زواج التفاوت بين الزوجين في السن والعقيدة والنشأة الاجتماعية، ورُزقا بنتًا سمياها «فينا» … ثم نكب البيت السعيد بموت ربته وهي دون الثلاثين، وحار جناح في تربية الطفلة الصغيرة فأبقاها عند جدتها لأمها، فادخرت له الصروف فيها نكبة نكأت جرحه الذي لم يندمل بعد نكبته في أمها، فإنها نمت في بيئة زردشتية، فتزوجت من أحد أبناء ملتها على الرغم من تحذير أبيها، وانقطعت الصلة بينه وبين الفتاة بقية حياته.
وقد أوغلت النكبة في قلب الرجل العظيم إيغالًا أوشك أن يكون مميتًا، ولكنه لم يُسمع شاكيًا ولا متضجرًا ولم يُشاهد واجمًا ولا متوانيًا في مهمته القومية، وكل ما تغير منه بعد النكبة أنه أفرط في التدخين، وأنه راح يغرق آلامه في متاعبه السياسية ومساعيه القومية، فاتخذ من النكبة القاصمة مصلحة له ولقضية بلاده، وخلق من الحزن دافعًا يضاعف القوة، وأبى عليه أن يثقل همته فيضعفه ويفت في عضده.
ومن المصادفات التي قل أن تتوارد في حياة زعيم كما تواردت في حياة جناح؛ أن الوقت الذي ودع فيه برنامج الوحدة هو الوقت الذي انتهت فيه آية الوحدة في بيته وأسرته، فلم تكن سياسته بعد سنة ١٩٢٩ التي توفيت فيها زوجته إلا تباعدًا مستمرًا عن فكرة الوحدة، واقترابًا مستمرًا من برنامج التقسيم والفصل بين الدولتين، وقد عنَّ لبعضهم أن الحادثين مرتبطان — حادث الأسرة وحادث السياسة الهندية — ولو لم تكن الحوادث السياسية في إنجلترا وفي الهند وفي العالم كافية لتفسير برنامج الانقسام؛ لأمكن القول بأن انقضاء الزواج بين الزعيم المسلم والفتاة الزردشتية كان له شأن في التعجيل، إن لم يكن في التعديل والتحويل، ولكن الخوالج النفسية التي تتعاور النفس في أمثال هذه الأحوال عودتنا أن تكون الذكرى بعد الموت أقوى من العلاقة الحية، فلو قيل: إن ذكرى القرينة المحبوبة كانت هي الآصرة المتجددة بينه وبين السلالات الأخرى بعد موتها؛ لكان هذا أحرى بالقبول من القول على أثر الوفاة في تفاقم سياسة الانفصال، فضلًا عن أن الزوجة كانت مسلمة وعاشت مع قرينها مسلمة لا تثنيه عن شيء في أعماله السياسية.
أخلاق جناح
والقول في أخلاق جناح كالقول في حياته الخاصة، فما كانت له أخلاق بين الأقلين تغاير أخلاقه بين الأكثرين، وما كان دأبه في معاملة أعضاء الهيئات الحزبية أو الحكومة يخالف دأبه في معاملة كاتبه أو ضيفه في بيته.
صراحته هنا هي صراحته هناك، واستقلاله في رأيه هو استقلاله في ذوقه، ونزاهته هي حيث كان.
وقد وصفه عارفوه، شخصيًّا وسياسيًّا، فتكلموا عنه بلسان واحد يصدق على الحالتين.
وقال مستر آرثر مور محرر الاستيتسمان: «إن صعود نجم جناح في المجلس الإسلامي لا تكفي لتأويله براعته في التنظيم والتدبير، ولكنه كما علمت من المسلمين جزاء له على سيرة طويلة في الحياة العامة تحققت فيها نزاهته عن اغتنام الفرص لنفسه، وإذا كان مستر غاندي معصومًا من غواية المال؛ لأن المال لا يغويه فمستر جناح معصوم من غوايته؛ لأنه يملك منه ما يكفيه ويغنيه، واستقلاله الذي تربى عليه في خدمة القانون خير كفيل له بالاستقلال عن المغريات.»
وقال الدكتور السيد حسين: «إنني على معارضتي للباكستان لا يسعني إلا أن أصرح بأن جناحًا هو الرجل الوحيد في الحياة العامة الذي هو أرقى ما يكون عن الشبهات. إنك لا تستطيع أن تشتريه بالمال ولا بالهبة ولا بالمنصب، ولم يستفد قط شيئًا من البريطان، وما هو من رجال هذا المعدن، فأخلاقه تسامي في الرفعة أرفع الأخلاق التي أثرت عن زعيم في الهند كيف كان، ولم يقبل قط شيئًا من البريطان سواء من النفع أو اللقب، وإن كان غاندي قد قبل شيئًا منهم بعد حرب البوير، وتعلم جماهير المسلمين أن جناحًا هو الرجل الذي لا يعوزه المال ولا يستهويه طمع السلطان.»
ولم يسع هوراس ألكساندر صاحب كتاب «الهند منذ كريبس» أن ينكر عليه الألمعية وتوقد الذكاء، غير أنه أراد أن يعيبه بالتناقض فدفع عنه أشهر التهم التي يرددها خصومه؛ لأنهم لا يجدون تهمة غيرها تلقى من الناس حظًّا من الإصغاء، وهي أنه حريص على نظام معيشته وهندامه، ولهذا عارض سياسة المؤتمر «غير الدستورية» … فإذا بصاحب الكتاب يعيبه بالتناقض؛ لأنه دفع بالعصبة في طريق المقاومة «غير الدستورية» وحولها من الوقار «الأرستقراطي» إلى الجلبة الشعبية!
وغاية ما ذهب إليه نهرو في تفسير خطته أن نجاحه المتأخر قد لواه عن قبول الآراء والاقتناع بما يقترح عليه، فلما سأله لورد مونتباتن في محادثة بينهما عن رأيه الخاص في جناح موجزًا في كلمات قال: «إنه رجل تأخر عليه النجاح، ولو أن الحكومة البريطانية تركته حتى يطلب هو ما تطوعت بإعطائه لكان أقرب إلى الاعتدال.»
ونهرو رجل فاضل لا يستجيز لضميره أو يواربه، ولكننا لم نفهم ما يعنيه بالنجاح المتأخر، فإن جناحًا نجح في صناعة المحاماة وهو دون الثلاثين، وكان المؤتمر على استعداد لانتخابه رئيسًا له ورئيسًا لأول وزارة يؤلفها، ورئاسته للعصبة وهو في نحو الخمسين هي تتويج نجاح وليست أول نجاح، وكلام نهرو — بعد — لا يعيب الرجل على أي وجه صرفناه.
•••
وقد راجعنا ما قيل عن جناح في كتب قصرت على ترجمته، وكتب أشارت إليه في سياق الحوادث، فلم نقرأ فيها وصفًا لحياته الخاصة الأصح أن يقال إنه كذلك وصف لحياته العامة، وإنه بهذه الصفات جميعًا منذور لغير الأثرة والأنانية، فصفاته الخاصة والعامة مما يوقف على خدمة الأمم، ولا تستأثر به خدمة فرد من الأفراد، غير مستثنى منهم جناح.
وفاء حتى الممات
قال جناح يوم المناداة بقيام دولة الباكستان: «إن الباكستان وسيلة وليست بغاية.» وإن قيامها ابتداء عمل ليس له انتهاء.
وجاء الواقع بحوادثه التي لا تنتهي ومطالبه التي يأخذ بعضها برقاب بعض، فأعاد ما قاله القائد الأعظم بألف لسان.
وراح القائد الأعظم يعمل في رئاسة الدولة كأنه لم يعمل شيئًا قبل ذلك، وكأنه مطالب بعد اليوم بأن يعمل كل شيء.
وكان عمله من قبل مرهقًا معنتًا فأصبح — بعد النجاح — أشد إرهاقًا وعنتًا.
وهذا هو النجاح الذي تتشبث به أحلام بني آدم وحواء: أعظم ما يكون أقسى ما يكون على الناجحين.
وقد حدث لليائسين كثيرًا أن بخعوا أنفسهم، ولم يحدث لناجح أنه بخع نفسه إشفاقًا من نجاحه، وما أغناه عن ذاك؟ إن النجاح لقمين أن يعمل ما لم يعملوه.
إلا أن القائد الأعظم كان يرهق نفسه قبل قيام الدولة، وعنده ذخيرة من القوة يسعفها مدد من الصحة والشباب.
وأما بعد قيام الدولة — وهو في السبعين — فالجهد في ازدياد والطاقة في نقصان.
وعلم أطباؤه هذا ولم يجهله أحد، فما هو من الخفاء بحيث يختلف فيه علم الأطباء وعلم الدهماء.
بل علمه القائد الأعظم قبل أن يعلمه طبيب، وكأنه لم يعلمه ولم يقع في خلده أن يعلمه، فلم يستمع إلى تحذير ولم يحفل بنذير.
وكلما وعد أن يمسك عن العمل، أو أن يجعل لعمله حدًّا، غلبته شهامة قلبه فنسي الوعد الذي لم يتعود قط أن ينساه، وأكب على عمل جديد، تعقبه أعمال جديدة؛ لأن الكف عن العمل — وهو ناظر إلى مطالبه — يتقاضاه من القلق والجهد أضعاف ما يتقاضاه شغلان فكره بالأعمال، وعذره لنفسه سائغ معقول.
إلا أن الشيخوخة في السبعين، ومعها إعياء القلب، لا تسيغ ذلك العذر ولا تعقله، ويستوي عندها من يجترئ على حكمها القاهر معذورًا أو غير معذور.
إلى أن بلغ الكتاب غايته وحم الأجل في يوم من أيام الصيف التالي لقيام الدولة الفتية، فشوهدت في سماء العاصمة طائرة قادمة من «بلوخستان» في ساعة الغسق، قل من كان يعلم ما فيها تلك الساعة … وفيها القوة المحركة للدولة كلها، جاءت إلى عاصمتها لتصبح رفاتًا بعد ساعات.
وكان حرس المطار من العارفين بوديعة تلك الطائرة المدلجة في الظلام، فأدوا لها التحية، وشاهدوا — لفرط دهشتهم — آخر حركة «رسمية» لذلك البنيان النحيل الذي ما كف يومًا عن الحركة: يتحامل على نفسه ليرد التحية وهو بين الحياة والموت.
وبلغت الساعة العاشرة منتصفها حين أذن القضاء بختام تلك الحياة، وسرى النبأ بطيئًا بطيئًا كأنه ينوء بحمله الثقيل، وخف الوزراء إلى الدار يمشون كالأشباح بين حجرات غارقة في الضياء.
وعجت الدار بالنشيج المختنق، وانفجر النشيج بعد مغالبة لم تفلح، فترامى في جوانب القصر رجال أشداء، جبابرة من جنود الحرس في موكب القائد المسجى على فراشه، تعودوا أن يذهبوا به وأن يعودوا به من حيث ذهبوا، وعلموا أنهم عما قليل سيذهبون به إلى حيث لا عودة، وسيذهبون به ولا يسمعون له صوتًا، وقد عهدوا له — حيث ذهب — صوتًا مسموعًا يتجاوب صداه في الدنيا، ويصغي إليه المنصتون في كل مكان.
وإلى جوار الجثة ظل لا يهتز ولا ينشج ولا يهم بالنشيج: تلك هي الآنسة الشقيقة في السواد، وهول الصمت في عينيها الجامدتين أشد من هول الدموع في أعين أولئك المردة الناحبين.
وما هو إلا أن سرى النبأ المرهوب في أنحاء العاصمة حتى غص الطريق بالوافدين: مائة ألف، مائتان ثم اشتملت الطرق المحيطة بالدار كل من في المدينة من قادر على المسير، لم يتخلف رجل ولا امرأة ولا طفل صغير.
وفتحت الأبواب للجموع المشيعة تلقي النظرة الأخيرة على الوجه الذي لن تراه بعد اليوم، فتعاقبت في نظام لم ينظمه أحد غير ما في باطن النفوس من خشوع، واستند بعضهم على أكتاف بعض يبكون، وألعج قلوبهم بالحزن وفجر عيونهم بالدموع تلك الابتسامة التي ارتسمت على الوجه القوي الوقور، رسمها الموت حيث ضنت متاعب الحياة أن تتركها هنالك مرتسمة عليه كل يوم.
من قال إن النقيضين لا يجتمعان فليمدد بصره إلى دخيلة النفس البشرية في ساعة من ساعات الهول: تصدق ولا تصدق، وتعجب ولا تعجب، وتحس الهول وكأنها لا تحسه، أو كأنها تتحداه بالأمل الذي يتراوح فيها بين الضمور والظهور.
قد مات القائد الأعظم … يا للهول!
هل مات القائد الأعظم؟ كلا، إنه لم يمت … لعله وهم، لعله خبر كاذب، لعلها معجزة تتجلى بعد حين … من قال إن رجلًا كهذا يموت؟
وفي ساعة الهول هذه كانت الآية الكريمة في كل خاطر تفرق بين الشك واليقين وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ … وكانت حوقلة المحوقلين عصمة الحائرين ومنفس المكظومين، لا حول ولا قوة إلا بالله، يسمعها السامع ويجيب بها المجيب.
وفرغت المنابر وأصوات الإذاعة في جوانب الباكستان لتلاوة القرآن الكريم يتخللها من ساعة إلى ساعة إعلان النبأ، والترحم على الفقيد العظيم.
قال زائر لعاصمة الباكستان بعد الوفاة ببرهة غير قصيرة: إنني كنت أعبر الطرقات وأحسب أنني سمعت القائد الأعظم في رؤيا حلم؛ لأنني كنت أشعر بمحضره حيث مشيت وحيث نظرت، ومن العسير عليَّ أن أصدق بموت إنسان يطل عليَّ وجهه من كل مكان.
إن حداد الباكستان على جناح كان حداد أمة على أبيها، وكان في العيون والوجوه والقلوب، ولكنه وفاء ساعات أو أيام أو شهور، ثم تسكن النفوس إلى القضاء كما قال شاعرنا الحكيم:
أما الوفاء الخالد، الجدير بالزعيم الخالد، فهو تخليده في عمله وأمله، وتصديق وصاياه فيما بقي من تراث مجده، وإنه لتراث حي ما بقيت أمته كما أرادها وتمناها، وما فهم الأوفياء هذا المعنى من الوفاء، وأيدوه بالعزم والصبر والولاء.