موازنة بين غاندي وجناح
ما وراء التاريخ … كل تاريخ
علم وزير إنجليزي من أحرار العمال أن الهند تمضي في طريق الحرية؛ لأنه رأى فيها زعيمًا يملك شجاعة الرأي ويواجه بها المئات من المخالفين منفردًا مصرًّا على استقلاله، وهو محمد علي جناح.
والعلامة التي لمحتها فراسة السياسي الخبير علامة صادقة، ولكن هناك علامة أصدق منها على استعداد الهند للحرية، وهي أنها احتاجت إلى زعيمين صالحين لقيادتها في طريق الحرية فوجدتهما حيث احتاجت إليهما، وهما غاندي في الهند، ومحمد علي جناح في الباكستان.
كلاهما صالح لقيادة أمته.
وكلاهما عمل غاية ما يرجى من الزعيم لأداء أمانته.
كلاهما رسم الخطة التي تكره المستعمر على الجلاء، فنفذت كما رسم، وإن اختلفا بينهما فيما رسماه.
وكلاهما ولا شك كان مخلصًا لمبادئه، مخلصًا لدعوته، مخلصًا في وجهة نظره، ولهذا لزم الوجهتين قائدان، ولزم كلًّا منهما أن يقف أمام صاحبه موقف المعارضة والخلاف.
وإذا رأينا أن أحدهما كان أقرب إلى الدهاء، وأن الآخر كان أقرب إلى الصراحة فذلك هو حكم القضيتين عليهما، أو ذلك هو حكم الإخلاص عند كل منهما لقضيته ووجهة نظره.
كان غاندي يطلب التغليب والتسليم بسياسة واحدة، ولا معدى لمن يطلب هذا من محايلة ومحاولة.
وكان جناح يطلب الانفصال ويرفض السيادة الواحدة، ولا معدى لمن يطلب هذا من صراحة ومجاهرة بكل ما يريد.
وما من مقابلة أو موازنة بين عظيمين تخلو من منافعها الفكرية والعملية في جميع هذه الأغراض.
إلا أن الموازنة بين الزعيمين الهنديين تذهب بنا إلى مدى أوسع جدًّا من الموازنات الشائعة بين الزعماء من قبيل واحد أو من أنماط متعددة؛ لأنها تكشف لنا النقاب عن سر من أسرار التاريخ طالت فيه المناقشة، بل طالت فيه المكابرة، ولا تزال تطول.
هل المرجع في التاريخ إلى ضمير الإنسان، أو إلى المادة الذي توزن حينًا بميزان الطعام، وتوزن حينًا بميزان النقد في الأسواق؟
والمقابلة بين الزعيمين الهنديين تُجيب على هذا السؤال جوابًا يحار في نقضه من يستضعفون عمل الضمير، ويرجعون بكل عامل من عوامل التاريخ إلى «المادة» بمختلف الأسماء.
ها هنا رجلان ولدا في إقليم واحد، وهو إقليم راجكوت ودرجا في جيل واحد، وهو الجيل الذي نشأ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وتكلما في صباهما بلغة واحدة وهي اللغة الكوجراتية.
ونبتا في طبقة واحدة، وهي الطبقة الوسطى المتيسرة التي يغلب عليها اليوم اسم البرجوازية.
وتعلما على نسق واحد، فدرسا القانون في الجامعات الإنجليزية، بعد إتمام الدراسة الثانوية في البلاد الهندية.
والسن بينهما متقاربة، بل التكوين البدني فيهما يتقارب إلى الدقة والنحافة، وإن كان أحدهما إلى الطول والآخر إلى القصر.
واشتغلا بالمحاماة أولًا ثم اشتغلا بالسياسة في ميدان واحد؛ وهو ميدان القضية الهندية أمام الاستعمار البريطاني كما يتولاها حزب المؤتمر.
ثم حكمت العقيدة الدينية حكمها؛ فإذا بكل منهما في طرف من طرفين لا يلتقيان.
وليس المفترق بينهما في برامج السياسة التي تتغير بتغير الحكومات والأحزاب، بل هو مفترق في أطوار الفكر والمزاج كأنهما ينتميان إلى أبعد الأقاليم والبيئات، ولم ينتميا قط إلى إقليم واحد وطبقة واحدة، أو يتكلما في المهد والصبا بلغة واحدة، ويتخرجا في الشباب والرجولة من معاهد تعليم واحد.
هذا يقاطع الحضارة، وذاك يستزيد من الحضارة.
هذا يرى القوة في تحطيم الصناعة الكبرى، وذاك يرى القوة في تأسيس هذه الصناعة الكبرى وتدعيمها.
هذا يعول على المقاومة «السلبية» على شرعة الاهمسا، وذاك يعول على التنظيم والتأهب بالجماعات المنظمة للعمل في حينه، وكما تقتضيه دواعيه.
هذا يسميه قومه «المهاتما» وذاك يسميه قومه القائد الأعظم، وفي مفترق التسمية مفترق المسميات، كأبعد ما يكون الافتراق.
لم يختلفا قط إلا في عقيدة الضمير، ولم يتفقا في شيء قط بعد ذلك، حين دخلا في ميدان العمل الحاسم، وكلاهما مخلص لعمله بغير جدال.
والرجلان في هذا مثالان صادقان للأمتين: أمة الهند الكبرى من البرهميين، وأمة الباكستان الناشئة من المسلمين.
لم تكن الوحدة الجغرافية هى التي فعلت فعلها الأكبر في نشأة الباكستان، فإنها شطران من الأرض بين الشرق والغرب يفصلهما أكثر من ألف ميل.
ولم تكن الوحدة الاقتصادية هي التي فعلت فعلها الأكبر في نشأتها؛ لأن السكان في شرقها يزدحمون كل سبعمائة في الميل المربع، ولا يزيدون في غربها عن مائة في الميل، ومحصولاتها الرائجة تُصنع في غير مصانعها، ومنها جهات لا محصولات فيها ولا صناعات، وجهات تتعلق مرافقها بالشقة الأخرى من الهند البرهمية.
ولم يكن جنس السلالة هو الفارق بين الهند والباكستان، فإن محلل الدم لو أغمض عينيه وحلل دم ألف من أهل الباكستان، ودم ألف من أهل الهند لخرج من التحليل بنتيجة متقاربة، أو لكان الفارق بينهما كالفارق بين ألف من الباكستان وألف أيضًا من الباكستان.
وليس في وسع أحد أن يبرز عاملًا واحدًا مفسرًا للتاريخ كما برز عامل العقيدة وحدها في الباكستان، فهو العامل الموجود حيث تختفي جميع العوامل أو توجد على ضعف وتفرق، وهو العامل الذي قام وحده في وجه كل العوامل، فكان له قضاؤه الذي لا مرد له ولا معقب عليه.
ويترائى لنا من مراجعة التاريخ الحديث خاصة في بلاد الهند أن هذه البلاد ساحة لا نظير لها لتحرير الأصول التاريخية التي يصعب تحريرها في أكثر بلاد العالم؛ لأن تاريخها قد تكفل بعزل كثير من العوامل التي توقع اللبس في ذهن المؤرخ فلا يدري متى تعمل مشتركة، ومتى تعمل على انفراد.
إن الكيماوي الذي يجرب فعل المواد في الأجسام يعزلها واحدًا فواحدًا؛ حتى يتسنى له الجزم بفعل كل مادة في الجسم الذي يختبره.
والأمم الشرقية والغربية قد اختلطت فيها عوامل الوطنية والجامعة الدينية والتيارات الخارجية وحروب الطبقات والطوائف، فكل ما يُنسب فيها إلى فعل عامل من هذه العوامل يجوز أن يشترك فيه عامل آخر، ويصعب تقدير الباعث فيه والغاية على وجه صريح خلو من اللبس والاختلاط.
بيد أن تاريخ الهند قد عزل التيارات الخارجية بعد سيطرة المستعمرين على البلاد الهندية، فكل ما وصل إليها من تيارات الخارج فإنما كان سلطان أولئك المستعمرين، أو مما يأذن به ذلك السلطان.
هذا الذي عنيناه حين قلنا: إن تاريخ الهند الحديث، خاصة، قد تكفل بعزل كثير من العوامل التي توقع اللبس في ذهن المؤرخ؛ فلا يدري متى تعمل مشتركة ومتى تعمل على انفراد.
ومن أثر هذا العزل في دراسة تاريخها أن امتحان دلائل القصد أو المصادفة في التاريخ يتيسر هنا بأقل ما يمكن من دواعي اللبس والإشكال.
عرضنا لهذه المسألة في كتابنا عن غاندي فسألنا: «هل للتاريخ الإنساني وجهة معينة نستطيع أن نتبينها من جملة الحوادث الماضية؟»
وقلنا: إنه سؤال يتوقف جوابه على سؤال آخر وهو: ماذا عسى أن تكون وجهة التاريخ المعقولة إذا تخيلنا له اتجاهًا يتوخاه على نهج مرسوم؟
والجواب: شيء يتعلق بالفرد، وشيء يتعلق بالناس كافة أو بالإنسانية جمعاء، فالشيء الذي يتعلق بإتجاه الإنسان الفرد هو ازدياد نصيبه من الحرية والتبعة، والشيء الذي يتعلق بالإنسانية جمعاء هو ازدياد نصيبها من التعاون والاتصال.
وزيادة نصيب الفرد من الحرية والتبعة هو المطلب الشامل الذي تنطوي فيه جميع المطالب، فهو أشمل من القول بازدياد العلم أو ازدياد القوة أو ازدياد الفضائل والملكات؛ لأن هذه الخصال كلها تتمثل في زيادة استعداده لحق الحرية وزيادة قدرته على احتمال التبعة.
وكذلك يقال عن التعاون بين عناصر الإنسانية برمتها، فهو أشمل من القول بارتقاء النظم السياسية وارتقاء المعاملات التجارية، وارتقاء الأخلاق الاجتماعية؛ لأن هذه الخصال كلها تتمثل في التقارب بين الأمم والتعاون بينها على وسائل الوحدة والاتصال.
هذا وذاك هما الوجهة المعقولة التي نتخيلها للفرد وحده، وللناس كافة، إذا كان للتاريخ وجهة معقولة تدل عليها الحوادث الماضية.
ثم قلنا: ولم تكن الحروب ولا المطامع حائلًا دون هذا الاتجاه، بل لعلها كانت من دوافعه ودواعيه، فأسفرت كل حرب من حروب الرومان، والفرس، والعرب، والصليبيين، والعثمانيين عن تشابك بين ناحية وناحية من الكرة الأرضية، ومن جراء هذه الحروب تشابكت آسيا، وأوروبة، وأفريقية، وانفتح الطريق إلى القارات المجهولة.
«وإذا نظرنا إلى أثر الحروب في المخترعات وتسخير قوى الطبيعة جاز لنا أن نقول: إن وسائل المواصلات قبل غيرها مدينة للحروب بالشيء الكثير، فماذا يكون الطيران والرادار ومحركات القوى جميعًا لولا ضرورات الحروب، واشتراك غريزة الدفاع عن النفس في سباق هذا المضمار؟ بل نحن نتعلم من التاريخ أن الدولة الفاتحة لا تدوم إلا بمقدار ما لدوامها من رسالة عالمية، فدولة الرومان دامت حين كانت لازمة للعالم، وأخذت في الانحلال حين بطلت رسالتها العالمية …»
واستطردنا إلى دلائل ذلك الاتجاه في تاريخ الهند وفي حروب الاستعمار الأوروبي «وهي محنة طامة على الشرق بأسره، نقم منها الشرق لما أصابه من بلواها ورغب فيها الغرب لأمر أراده وأرادت الحوادث غيره، ولم يخطر للشرق ولا للغرب على بال.»
ومما أرادته الحوادث ولم يرده الغرب المستعمر اجتماع كلمة الهند في وحدة تحارب الغرب المستعمر، قلنا إنها — أي الهند: «لم تكن قط وطنًا واحدًا في عصر من العصور؛ لأنها كانت تتألف من شتى العناصر، وشتى المذاهب، وشتى اللغات، وشتى المصالح، وشتى المواقع الجغرافية، فلم تدافع قط دفاعًا واحدًا، ولم تشترك قط في هجوم واحد، ولم تجمع قط على مطلب واحد بينها وبين أبنائها، ولا بينها وبين الغرباء عنها والمغيرين عليها، فلما ابتليت باستعمار واحد طغى عليها من أقصاها إلى أقصاها وجد فيها وطن واحد يواجه ذلك الاستعمار بمطلب واحد، وهو مطلب الخلاص منه، كيفما تعددت وسائله بين طلابه.»
وقد تعددت وسائله بين طلابه فكانت الباكستان وكانت الهند، ولكنهما قبل أن تصبحا دولتين كانتا «وحدة» متفقة على مكافحة المستعمر وإكراهه على الجلاء.
ولو شئنا لقلنا: إن قيام الدولتين بعد الخلاص من الاستعمار كان نفعًا مضافًا إلى نفع؛ لأنه يستصفي لكل منهما جهودها، ويفرغها لرسالتها التي هي أقدر عليها، ويعفيها من المنازعات الداخلية، ويفتح الباب للتعاون بين الدولتين في السياسة العالمية والإنسانية، ولكننا نكتفي باجتماع القوى على محاربة السيطرة الأجنبية؛ لأنه النتيجة الطبيعية التي لا خلاف عليها: نتيجة طبيعية غريبة لمقدمات طبيعية أغرب منها.
•••
«أقصد ذا المسير أم اضطرار؟»
إن المؤرخ الذي لا تلجئه هذه الأطوار وأشباهها في تاريخ الهند إلى إلقاء هذا السؤال على نفسه؛ يتعرض للنظر في التاريخ بعين لا تبصر، وليس أعمى من لا يريد أن يرى كما كان يقول جناح.
ومسألة «الزعيم المناسب» في الحركة الهندية الحديثة هي إحدى المسائل التي تلجئ المؤرخ إلى تكرار ذلك السؤال، ولا كذلك مسألة الزعيم في كثير من الأقطار ولا سيما الأقطار الأوروبية، فإن مكان الزعيم فيها يمتلئ كما يمتلئ مكان الحرف الناقص في الصحيفة المطبوعة، مكان محدود وحرف يتمم الكلمة كسائر الحروف، وكلمة معروفة التهجئة في كل الصندوق.
أما الزعيم الذي يأتي إلى مكانه في الحركة الهندية فهو أشبه بالحرف الذي يتعين به هجاء الكلمة ويتعين معناها، ولا تتم الكلمة قبل استقراره في مكانه.
كم تصفية للزعماء تمت قبل بعث العصبة الإسلامية.
كم تصفية للحوادث سبقت قبل أن تتهيأ الباكستان لزعامة جناح، وقبل أن يتهيأ جناح لزعامة الباكستان.
كم تطور جناح، وكم تطورت حوادث الهند، وكم تطورت حوادث آسيا بين الصين واليابان، والسياسة الأمريكية، والسياسة الأوربية على التعميم وسياسة بريطانيا العظمى على التخصيص؟ وكم بدل هذا التطور من عزائم الدول وعزائم القادة قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها.
وكم كان لهذا التطور من شأن في إعداد كل خطة، وإعداد كل قضية، وإعداد كل زعيم.
أقصد أم اضطرار؟
سؤال لا بد منه على الأقل، إن كان هناك بد من الجواب على نحو معلوم.
وتحضرنا هنا أحجية الشمسية التي أشار إليها جناح في بعض خطبه، فقد ضحك الناس من أول رجل شوهد في الطريق وهو يحمل شمسية … فلما كثر حاملوها ضحك حامل الشمسية الأول من أولئك الضاحكين المتعجلين.
مثل للزعيم الذي يبده الناس بفكرة غريبة، ثم لا تلبث تلك الفكرة الغريبة أن تصبح مألوفًا كأشيع المألوفات.
والمثل صالح للقياس عليه.
فمتى يكف الناس عن الضحك من حامل الشمسية؟ إنهم يكفون عن الضحك منه حين تكون حاجتهم إلى الشمسية قائمة، ولكنها مجهولة، فيسبقهم أي إنسان إلى إثبات هذه الحاجة، ويلحقون به بعد قليل.
وفي هذه الحالة نسأل: كيف وجدت الشمسية؟ هل وجدت لأن حاملها الأول اخترعها، أو لأن الناس محتاجون إلى اختراعه؟ ومن صاحب الأثر الفعال في هذه الحالة: المخترع أو الذين اختُرعت الشمسية لأجلهم، ومن أجل حاجتهم إليها كفوا عن الضحك منه واستغراب مفاجأته؟
وكيف أحس الرجل بحاجة الناس؟ أهي مصادفة أم هي حس أم هي إلهام على غير وعي منه ولا إرادة؟
المحقق أن الشمسية تظل مضحوكًا منها لو بقيت بدعة لا تتكرر، والمحقق أنها تبقى بدعة لا تتكرر لو لم يشعر الناس بالحاجة إليها.
والأحجية هي: لماذا اتفق اختراعها والناس يضحكون منها، ولماذا اتفق اختراعها وهم مستعدون للعلم بلزومها؟
هذا هو لغز التاريخ.
مفاجأة غريبة يبدو بعد حين أنها ليست بغريبة، ويتساءل الباحث: كيف تكون مقصودة وهي سخرية الساخرين، وكيف تكون مصادفة وهي حاجة مطلوبة؟ بعض العقول يفسر الأحجية على طريقته فيقول: إننا نحسب الاختراع مقصودًا مدبرًا؛ لأننا ننسى مئات من المفاجآت التي ضحك الناس منها ثم ماتت ومات ذكرها؛ لأنهم لم يشعروا بالحاجة إليها، فإذا جاءت مفاجأة في حين الحاجة إليها فتلك مصادفة صحت من مئات المصادفات التي عفى عليها النسيان.
وبعض العقول يفسر الأحجية على طريقته فيقول: إن «المصادفة» التي تصح ليست مصادفة؛ لأنها صحت بأسبابها ولم تصح بأسباب غيرها، ولم تدم بعد صحتها بمصادفات أخرى أوجبت لها الدوام.
وبين علماء الطبيعة خلاف كهذا الخلاف بين علماء التاريخ.
هل وجدت العين بهذا التركيب لتنظر؟
أو هي قد نظرت؛ لأنها وُجدت بهذا التركيب؟
وبعبارة أخرى: هل هو قصد أو اضطرار؟
ونخال بعد تقليب السؤالين على شتى الوجوه أن الخلاف بينهما كالخلاف بين القائل: إن الغطاء يطابق آنيته، والقائل: إن الآنية تطابق غطاءها! … فالمهم أن التوافق قد حصل.
غير أن القائلين بالمصادفة يقولون: إنه حصل بعد مليون سنة ولم يحصل بعد لمحة واحدة، فهل هم على صواب؟ ومن أين لهم أن تحقيق الغرض مرهون بوقت محدود، يشترط فيه على الدوام أنه وقت قصير؟
إن الفريقين يتفقان ويتقابلان في وسط الطريق، فكلهم يقولون: إن الوظيفة تخلق العضو الذي يؤديها، وإن إرادة النظر هي التي أوجدت أشكالًا وألوانًا من النواظر.
إرادة النظر تسبق النظر.
حسن … هذا في بنية حيوان صغير أو كبير، فكيف إذا كانت البنية بنية الكون بما رحب من الآزال إلى الآباد؟ أليست ثمة وظيفة تتبعها أعضاء تناسب المقام؟ أليست ثمة إرادة تتبعها أعمال صالحة لأغراضها؟ أيشترط في الوظيفة التي تسبق العضو أن تكون صغيرة محصورة ويمتنع عليها أن تكون عظيمة غير محصورة؟ أيفرض عليها أن تكون جزءًا من الكون ويحرم عليها أن تكون في الكون بما رحب من الآزال إلى الآباد؟
غاية الخلاف بين القائلين بالمصادفة والقائلين بالقصد في التاريخ وفي الحياة العضوية أن الغطاء يطابق آنيته، وأن الآنية تطابق غطاءها.
أو غاية الخلاف على وضع آخر أن المطابقة تمت في عشرات الملايين من السنين، أو هي قد تمت في لمحة وما دونها.
خلاف على العرض لا على الجوهر.
وإذا كانوا مع هذا الخلاف يتفقون على سبق الوظيفة للعضو، وسبق الإرادة للوظيفة، فلا حرج عليهم أن يسموا الوظيفة التي تريد للكون كله بما شاءوا من الأسماء، وليفهم من شاء ما بدا له أن يفهم من القصد، وليفهم من شاء ما بدا له أن يفهم من المصادفة، فإنهما كلمتان، معناهما سواء.