انفصال الباكستان
كان انفصال الباكستان ضرورة لا محيد عنها … ضرورة حاول ساسة الهند جميعًا أن يتجنبوها فلم يفلحوا، وأن يتجاهلوها فلم يستطيعوا؛ لأنها غير قابلة للتجنب أو التجاهل، فهي الحل الوحيد الذي تستقر عليه مشكلات الهند كما تستقر المادة في موضعها بحكم قوانينها، فهي ختام كل محاولة.
وقد كانت المحاولات كثيرة متعددة، وكان المشتركون فيها كثيرين متعددين، منهم إنجليز ومنهم هنود برهميون، أو بوذيون، أو جينيون، ومنهم هنود مسلمين على مذهب السنة أو على مذهب الشيعة، وقد يكون من حسن الشهادة للزعماء المسلمين أنهم جميعًا بدءوا حياتهم السياسية وهم من أنصار الوحدة الهندية التي تشمل أقوام الهند كافة، وأنهم جميعًا جربوا كل محاولة قبل المحاولة الأخيرة، ولكنهم كما أسلفنا كانوا يتجاهلون حقيقة لا تقبل التجاهل، فعادوا إلى الاعتراف بها مكرهين، ثم آمنوا بها إيمانًا لا يزعزع، لأن التجارب التي استغرقت كل تجربة معقولة قد خلصتها من الشكوك، وختمت بالحسم الفاصل كل محاولة، فلا سبيل إلى محاولة جديدة.
وكان إيمان الجماهير في هذه القضية سابقًا لتفكير الزعماء.
كان إيمان الجماهير بوجوب الانفصال شيئًا أقوى من الرأي وأقوى من الرغبة وأقوى من الهوى، كان كأنه القابلية المادية التي تتمثل في خصائص الأجسام: جسم لا يقبل الذوبان في جسم آخر، فلا موضع هنا للآراء ولا للرغبات ولا للأهواء.
لهذا تساوى منطق جناح وشعور أتباعه، ولهذا تلاقى تفكيره العملي وغيرتهم القبلية، فلم تكن به حاجة إلى إثارة شعور أو تلبيس حقيقة بطلاء مقبول؛ لأن الكلمة الصريحة المستقيمة هنا كافية بل فوق الكافية؛ إذ هي الكلمة اللازمة دون غيرها، فكل ما عداها ضياع وإسراف وفضول، ومن عجائب القصد في أطوار الطبيعة أن يدخر جناح للنهوض بأعباء هذه القضية؛ لأنها قضية لا تتطلب زعامة تنفق جهودها في التزويق والتأثير، بل تتطلب الزعامة التي تجسمت قوتها كاملة في الصراحة والاستقامة إلى القصد، وتجمعت وسائلها كلها في التنظيم ومضاء العزيمة وصحة التفكير، فكان تفكيره السليم وغيرة أتباعه قوتين متشابهتين في العمل والاتجاه.
كان معظم المتتبعين لمشكلات الهند يتخيلون مسألة الباكستان كأنها مسألة قلة تنشق عن الكثرة في وطنها، وكانوا يحكمون عليها كما تخيلوها فيخطئون غاية الخطأ، ولا يحسنون الاهتداء إلى رأي سديد في تلك المشكلات.
وتصحيح هذا الخطأ هو الخطوة الأولى التي لا بد منها قبل الاستقامة على الطريق السوي، فإذا صحح هذا الخطأ أول الأمر؛ فكل خطوة بعده واضحة لمن يريد أن يبصر بعينيه.
لم تكن الهند قط وطنًا واحدًا بأي معنى من معاني الوطنية، ولم يكن لها قط اسم واحد قبل دخولها في حوزة الدولة البريطانية، وإنما أطلق عليها هذا الاسم؛ لأنه أيسر من اختراع اسم جديد، وما كانت الهند قبل ذلك تطلق على غير نهر السند ثم واديه، وهو جزء من القارة الهندية كان يجهله كثير من سكانها المتفرقين في أرجائها الفساح.
بل لم تكن قط وحدة جغرافية في زمن من الأزمان؛ إذ كانت المواصلات فيها منقطعة أو متعذرة، فلم تكن أنهارها موصلة إلى جميع أجزائها، ولم تكن وسائل النقل فيها تقوى على وحول الأمطار في الشتاء، ولم تكن الحاجة إليها ماسة في غير الشتاء.
التعصب الديني
والتعصب بين المختلفين في العقيدة من أهل الهند أصعب أنواع التعصب المعروف في كل اختلاف؛ لأنه لا يقوم على تباعد الآراء، بل على تباعد العادات الاجتماعية التي تحس فوارقها في كل يوم، بل في كل ساعة، ومن أعسر الأمور تعديلها؛ لأنها تتعلق بالحياة الأبدية لا بحياة الفرد من مولده إلى وفاته، فمن ولد من طبقة المنبوذين مثلًا فهو قضاء أبدي يسبق مولده ويلاحقه بعد وفاته، فكل تعديل في نحلة من النحل أو في شعائرها ومراسمها فهو هروب من المشيئة الأبدية التي يتعلق بها خلاص الأرواح.
وقد تذمر البرهميون أشد التذمر حين أمرت الحكومة الهندية بإلغاء «السوتي» وهو إحراق النساء مع أزواجهن المتوفين، فلما صدر الأمر بإلغائه في سنة ١٨٢٩ هبت عاصفة من السخط على الحكومة، وأمطرها البرهميون شكايات يلتمسون فيها إلغاء ذلك القرار، ويُقاس على التشبث بهذه السُّنة مبلغ التشبث بغيرها مما هو أقل منها نكرًا ومجافاة للشعور والعاطفة الإنسانية، فكل سُنة، بل كل عادة، هي قضاء مبرم لا يجوز عليه التبديل أو التخفيف.
وقد وهم الكثيرون أن تحريم أكل الحيوان سُنة عاطفية لجأ إليها البرهميون رحمة بالحيوان، ولكن الواقع أنها سُنة تقليدية نشأت مع الإيمان بتناسخ الأرواح، وأن الأحياء الدنيا قد تحل فيها أرواح الناس على سبيل العقاب، فأكلها قطع لسلسلة التناسخ ودورة الأرواح في الأجساد من الآزال إلى الآباد.
فقد يكون الهندي مسامحًا برأيه وفكره، وقد تكون عقيدته في الله عقيدة مسالمة لأصحابه ومعاشريه، ولكن المعضلة الكبرى هي هذه العادات التي تدور عليها معيشة كل يوم، وترتبط بها المشيئة الأبدية فلا تقبل المسالمة والمسامحة، وتلك هي المعضلة التي يعانيها المخالفون للعقيدة الهندية حين تكون السيطرة عليهم لأصحاب تلك العقيدة، وحين يكون المرجع كله إليهم في سلطان الدولة، وهذه المعضلة هي خلاصة الضرورة التي جعلت من الحتم الحاتم أن تنفصل الباكستان، أو كما قال القائد الأعظم في تلخيصها: «نحن نأكل البقرة وهم يعبدونها فكيف نتفق على نظام واحد.»
لهذا ولغيره من الاعتبارات الاقتصادية، والجغرافية، والعاطفية؛ أصبحت العقيدة قوام الأمة في الهند، وحدث في الهند ما لم يحدث في غيرها من قبل؛ وهو تحول الصلة الدينية إلى صلة قومية، فقيل في السيخيين مثلًا: إنهم عقيدة أصبحت أمة؛ لأنهم أناس من سلالات الهند لا فاصل بينهم وبين سائر أبنائها بغير العقيدة، هذا والنحلة السيخية قد نشأت في القرن الخامس عشر للميلاد، فقس على ذلك نشأة الإسلام أو القومية الإسلامية بمقومات كثيرة غير العقيدة؛ وهي الثقافة، والدولة، والآداب الاجتماعية.
الإسلام والاستعمار
وكأنما كانت هذه العوامل القوية بحاجة إلى مزيد يوسع فوارق الانفصال فوق اتساعها؛ فجاءت سياسة الاستعمار بجملة من هذه الفوارق مقصودة أو غير مقصودة؛ إذ كان الاستعمار الإنجليزي قد تسلل إلى الهند وليس فيها دولة تقاومه أقوى من الدولة الإسلامية، فوقر في أخلاد المستعمرين أن الخطر على سيطرتهم إنما يتوقع من هذه الناحية قبل غيرها، وعملوا على إضعاف شوكة المسلمين وإقصائهم من الوظائف كبيرها وصغيرها، وكان المسلمون في إبان دولتهم قانعين من الحياة العامة بالوظيفة الحكومية، وذادهم عن الاشتغال بالصيرفة أنهم يحرمون الربا، وعن ملك الأرض أن الأرض لم تكن مملوكة لأحد ولكنها كانت متروكة للزراع وللجباة الذين يؤدون للحكومة حصتها من الضرائب، وكان أكثر هؤلاء الجباة من البرهميين المشتغلين ببيع الغلال وتصريفها، فلما أصدر الإنجليز قانونًا لتسوية مسائل الأرض الزراعية جعلوا هؤلاء الجباة ملاكًا، وجعلوا الزراع أُجراء في أرضهم، واعتمدوا على هذا النظام زمنًا لتحصيل الضرائب ومحاسبة الجباة عليها، فاجتمع الحرمان من الوظائف والحرمان من الأرض على إقامة العزلة بين المسلمين وغيرهم في الحياة الاجتماعية.
•••
هذه العوامل جميعًا، ما كان منها طبيعيًّا وما كان منها مصطنعًا بتدبير السياسة، قد جعلت المسلمين أمة مستقلة تفصلها من الهنديين كل معالم القومية، وأصبحت الموازنة بين أسباب الانفصال وأسباب الاختلاط عند خروج الإنجليز من الهند «عملية حسابية» لا لبس فيها، فكل صعوبة جغرافية أو إدارية تحول دون الانفصال؛ فهي أسهل تذليلًا وتمهيدًا من صعوبات البقاء في ظل حكومة واحدة، وقد يطول شرح الأسباب إذا توخينا التفصيل والاستقصاء، ولكن القارئ خليق أن يستغني عنها جميعًا بعرض موجز لسيرة الزعيمين الهنديين اللذين تعاقبا الزعامة منذ جيلين؛ وهما طيلاق وغاندي. فأما طيلاق فكانت دعوته الصريحة تخليص الهند من الواغلين الإنجليز والمسلمين على السواء، وكان برنامجه يقوم على إلغاء اللغة الأردية في الدواوين ومطالبة الحكومة بإباحة الزفات الموسيقية أمام المساجد، وكانت محرمة بنص القانون.
وأما غاندي فقد كان جزاءه القتل لتسامحه في معاملة المسلمين، وكان قاتله من جماعة كثيرة الأشياع ترى أن الحل الأمثل لمشكلة الأجناس في الهند هو استئصال تلك الأجناس.
لا جرم كان منطق القائد الأعظم الواضح الرصين مرادفًا في معناه ووجهته لشعور الجماهير، فكانت صراحته في دعوته قوة لها، ولم تكن عقبة يحتاج إلى تذليلها وتخطيها على سنة الأكثرين من زعماء الجماهير، وصح القول أن شعور الجماهير في هذه المعضلة كان أكثر من شعور وأكثر من حكمة عملية؛ لأنه كان كالقابلية المطبوعة التي تستقر في خصائص الأجسام.
ومع شهادة المؤلف للمسلمين بالفضل في تعليم البرهميين مبادئ المساواة قال: «إن إحدى النتائج التي نجمت من حكم المسلمين في الهند؛ أن المجتمع قد انقسم في عهدهم قسمة رأسية، وكان قبل القرن الثالث عشر ينقسم ولكن قسمة غير رأسية، ولم تستطع البوذية ولا الجينية أن تُحدثا مثل هذا الانقسام؛ لأنهما ما عتمتا أن اندمجتا في المجموع بسهولة وسرعة، على حين أن الإسلام قد شق المجتمع من الأسفل إلى الأعلى شطرين متقابلين: براهمة، ومسلمين، فنشأ في أرض واحدة مجتمعان متوازيان متغايران في جميع طبقاتهما قل أن تصل بينهما علاقة في المعيشة أو المعاشرة، واشتدت محافظة البرهميين أمام غيرة الإسلام في نشر دعوتهم الدينية، واندفعوا مع خوفهم وحرصهم على حماية مجتمعهم إلى المبالغة في قيود الطبقات والطوائف، وما إليها من القيود الاجتماعية.»
ومن العسير أن يقال عن خطة تمليها وقائع التاريخ وبدائة الشعوب، غير أنها ضرورة لا محيد عنها ولا طاقة بالرجوع فيها، وإن أُريد الرجوع.