العالم الإسلامي
كانت الحركات التي تجاوبت بها أرجاء العالم الإسلامي خلال القرن التاسع عشر عاملًا في توجيه قضية الباكستان إلى الوجهة التي تدرجت في الاتجاه إليها حتى استقرت عند منتصف القرن العشرين على وضعها الأخير.
وكانت حوادث العالم الإسلامي خارج الهند لا تقل عن حوادث الهند الداخلية في تحويل أنظار مسلميها رويدًا رويدًا إلى ضرورة الاستقلال بحكومة منفصلة، وهي حكومة الدولة التي عُرفت الآن باسم دولة الباكستان.
وكانت الحوادث الخارجية والداخلية معًا ترسم مصير القضية وتقرره وتقيم له حدوده، حتى أصبح ذلك المصير كما قدمنا حلًّا مفروغًا منه متفقًا عليه بين القادة والجماهير، فلا حاجة به إلى تلك المؤثرات البلاغية أو السياسية التي يلجأ إليها القادة كثيرًا لإقناع أتباعهم بما هم معتنقون به، ولكنهم يستجيشون لها شعور الجماعات تهيئة لقبوله على النحو الذي تتهيأ له نفوس الجماعات.
وكان القرن التاسع عشر منذ أوله فترة قلق شديد في بلاد العالم الإسلامي من أقصى أطرافها إلى أقصاها، وتلاحقت فيه الدعوات بغير انقطاع في كل أمة على النهج الذي يناسبها، فلم يخلُ بلد واحد في العالم الإسلامي من دعوة أو من حركة أو من ثورة، وكلها تطلب التغيير ولا ترضى بالواقع الذي صارت إليه.
وتجتمع تلك الدعوات جميعًا في خصلة واحدة على تباين أشكالها وغاياتها، وهي أنها جميعًا كانت «رد فعل» سريع لطغيان الاستعمار الأوروبي على الأقطار الشرقية، وقد ذهبت حملات الاستعمار حينًا باستقلال أمم، وأضعفت أحيانًا كيان الأمم التي بقيت مستقلة، وكشفت لهذه وتلك عن سوء حال لا قرار عليه.
ووقع في النفوس حيث اصطدم المسلمون بسلطان الدول المستعمرة أنهم أصيبوا بما أصيبوا به من جراء الفساد والفسوق والانحراف عن أحكام الدين، فلو عملوا بأحكام دينهم لما اصطلحت عليهم عوامل الضعف، ولا نزل بهم ذلك العقاب جزاء وفاقًا من الله.
وتحركت كل أمة على النحو الذي يناسبها لعلاج هذا الضعف وتجديد قوة الدين، فقامت في بعض الأمم دعوات تحارب الترف وتنكر كل بدعة من بدع الحضارة الحديثة، وقامت في بعضها دعوات توفق بين قواعد الدين وفرائضه وبين العلوم العصرية والمطالب الدنيوية، وراجت في الأمم جميعًا دعوات التطهير والاعتصام من الفتنة بعبادة الله على طريقة من الطرق الصوفية، وظهر في البلاد التي يعتقد أبناؤها برجعة الإمام المنتظر كثير من أدعياء الإمامة والهداية الذين يبشرون بمذاهبهم تارة على سنة القديم، وتارة على سنة لهم يبتدعونها ويجتهدون بها في استئناف قوة الإسلام على نمط يخالف الإجماع.
من هذه الدعوات دعوة محمد بن عبد الوهاب في نجد، ودعوة الباب والبهاء في فارس، ودعوة القادياني في الهند، ودعوة السنوسي في المغرب، ودعوة محمد أحمد المهدي في السودان، ودعوة جمال الدين الأفغاني وتلاميذه في كل بلد وصل إليه بشخصه أو برسالته، ومن هذه البلاد فارس، والهند، ومصر، والعراق، وتركيا، وأطراف من المغرب الأقصى، والمشرق الأقصى إلى تخوم التركستان والصين.
أثر الدعوات الدينية
كل دعوة من هذه الدعوات كان لها أثرها المباشر في البلاد الهندية، فأقبل المسلمون بالألوف على دعوة ابن عبد الوهاب، وقام شريعة اللة بنشر الطريقة «الفرائضية» التي يدل اسمها على غايتها، وهي إيجاب الفرائض والعمل بنصوص الشريعة، وتُنسب إلى هذه الطريقة وسائر الطرق التي أخذت بالدعوة الوهابية ثورة المسلمين في الحركة التي اشترك فيها أهل الهند سنة ١٨٥٧، وسميت بحركة «العصيان»، وكانت لها عند «البراهمة» أسبابها الدينية أيضًا؛ لأنهم اعتقدوا أن الإنجليز سيرغمونهم على استباحة بعض المحرمات.
وقد كان ترديد الهند للدعوة الوهابية أمرًا مفهومًا يسير التعليل لقدم العلاقة بين الجزيرة العربية وشواطئ الهند الشرقية، ولكثرة الحجاج من مسلمي الهند في كل سنة، ولانتشار أخبار القتال بين الوهابيين وغيرهم في أنحاء البلاد الآسيوية، ولا سيما الإسلامية منها، كبلاد الملايا وبلاد الأفغان.
أما العجيب حقًّا فهو انتشار أخبار الثورة المهدية في السودان بين الأمم الآسيوية، وتحفز القبائل للثورة على حدود الأفغان، حتى توجس الإنجليز واهتموا باستطلاع آراء العظماء من المسلمين عن حقيقة الرسالة المهدية، وحض الفقهاء والعلماء على إصدار الفتاوى التي يبينون بها نصيب تلك الرسالة من الصحة أو من الموافقة للعقائد الإسلامية.
لكن الحالة النفسية التي كان عليها مسلمو الهند في تلك الآونة تفسر هذه العجيبة، وتجعلها من مألوفات كل يوم بالقياس إلى تلك الحالة النفسية، فإن العقيدة الدينية حلت في نفس الهنود — من المسلمين وغير المسلمين — محل الغيرة الوطنية، وجاءت غاشية الحزن التي غمرت نفوس المسلمين خاصة بعد زوال دولتهم وانكسار شوكتهم، فأضافت إلى عقيدة الدين قوة على قوة، واشتد بهم السخط مع الاضطهاد المتعمد والحرمان المدبر فتطلعوا إلى أبواب الأمل من كل فج قريب أو بعيد، وأصبحت حوادث السودان عندهم كأنها من حوادث الحدود.
ولم يزل هؤلاء المسلمون يسمعون في بلادهم، وفي البلاد التي يرحلون إليها حجاجًا، أو تجارًا، أو زوارًا أن الطمع في استعمار الهند هو سبب البلاء الذي أصاب أمم الشرق جميعًا، ولا يزال يصيبها ويعرضها واحدة بعد أخرى لضياع الاستقلال وكساد الحال، فوقر في النفوس أنهم مسئولون قبل غيرهم عن محنة العالم الإسلامي بأسره، وأن غيرهم من أمم العالم الإسلامي حقيقون منهم بالعطف على الأقل إن لم يكن لها منهم عون بالعمل أو المقال.
وليس من محض المصادفة أن يكون أعظم دعاة النهضة الإسلامية في أواسط القرن التاسع عشر — جمال الدين الأفغاني — متاخمًا للهند في نشأته، ومتطلعًا إلى الهند أول ما تطلع لنشر دعوته، وهناك قال لهم قولته المشهورة: «لو كنتم يا أبناء الهند ضفادع بعدتكم من الملايين، ثم أردتم أن تزيلوا الجزيرة البريطانية من موقعها في البحر لزحزحتموها عنه، وقذفتم بها إلى قراره.»
مسألة الخلافة
إلا أن المسألة التي تضاءلت إلى جانبها كل مسألة من مسائل العالم الإسلامي في حساب مسلمي الهند؛ هي مسألة الخلافة الإسلامية، وكانت يومئذ في آل عثمان بالقسطنطينية.
فقد كان أمراء الهند أنفسهم يستقبلون تلك الخلافة في الشدائد، وينظرون إليها نظرتهم إلى الثمالة الباقية من عز الإسلام ودولته الدنيوية.
ومنذ عهد الاحتلال البريطاني توجهت الأنظار إلى سلطان آل عثمان، وكان في طليعة المتوجهين إليه سلطان ميسور على مقربة من سلطنة حيدر أباد، فإنه كتب إلى «الخليفة» يبلغه حقيقة الخطر على الديار الآسيوية، وينذره أن الخطر بالغ من غربها لا محالة إلى حوزة القسطنطينية، ولم يكن في وسع الخليفة أن ينجده بالعون الذي أراده، فكتب إلى نابليون يطلب هذا العون، وجاءه الجواب منه بانتظار المدد في جيش جرار يضرب الدولة البريطانية في مقتلها، ويخلي الطريق إلى الهند من شباكها.
ولم يزل أمراء الهند — فضلًا عن سواد أهلها — يتطلعون إلى الخلافة في القسطنطينية حتى زالت وانتهت بخاتم الخلفاء السلطان عبد المجيد، فسعى سلطان حيدر أباد إلى التزوج من إحدى بناته، وقيل فيما قيل عن أسباب هذا الزواج: إنه «زواج سياسي» يمهد به السلطان إلى إمامة المسلمين في الهند على الأقل، إن لم تنعقد له الإمامة على العالم الإسلامي بأجمعه.
ولم يتفق لمسلمي الهند ما يضعف مكانة الخلافة بينهم كما اتفق للمسلمين الذين حكمتهم الدولة العثمانية فتمردوا على حكمها، وتغلبت في نفوسهم دفعة الوطنية على الولاء لحكومة ساءت سياستها وخرجت في رأي الأكثرين من أحكام دينها، بل كان مسلمو الهند يزدادون عطفًا على دولة الخلافة كلما اشتدت بها المحن من داخلها وخارجها، وينسبون الثورات عليها أحيانًا إلى دسائس الاستعمار وغواية الدول الأجنبية بالرشاوى والوعود الكاذبة.
ودام الحال على هذا إلى أن كانت الحرب العالمية الأولى ووقع ما وقع من الاصطدام بين تركيا وبريطانيا العظمى في مصر والعراق مباشرة، وفي الأقطار الأخرى من طريق الدعوة أو تحريض الإمارات الوطنية بجزيرة العرب، طموحًا إلى إقامة دولة عربية واحدة تضم إليها الأمم العربية التي كانت خاضعة لسلطان بني عثمان.
وعمد ساسة الإنجليز إلى تهوين الأمر على مسلمي الهند تارة بقولهم: إن الحملة على تركيا إنما هي حملة على جماعة تركيا الفتاة الذين اغتصبوا سلطان الخليفة، وجعلوا الخلافة ألعوبة في أيديهم وتبرأوا من العصبة الإسلامية تمييزًا عليها للعصبة الطورانية، فدفعوا العرب بذلك دفعًا إلى إحياء العصبة العربية بزعامة أمير من سلالة بيت الرسول، وتارة يهونون الأمر على مسلمي الهند بتوكيد العهود لهم؛ أن بريطانيا العظمى لن تمس دولة الخلافة، ولن تسمح بتقسيمها في معاهدات الصلح بين الطامعين فيها.
فلما انعقدت معاهدات الصلح خابت آمال مسلمي الهند في وعود الدولة البريطانية، وأيقنوا أنهم خُدعوا وسيقوا إلى معونتها في هدم دولة الخلافة وتمزيق أشلائها، وأعلن زعماء المسلمين — تلاميذ أحمد خان — أن مسالمة الحكومة البريطانية في الهند سياسة قد انقضى أوانها ووجب نقضها؛ لأن هذه الحكومة قد أخلفت وعودها للمسلمين وللبرهميين في الشئون الدينية والسياسية، وانتهز غاندي الفرصة السانحة فجعل مسألة الخلافة من المسائل الأولى في برنامج المؤتمر، وراح مع الأخوين محمد علي وشوكت علي يجوبون أنحاء الهند شاهرين الحرب على الحكومة، معلنين الاتحاد بين جميع الهنود على حربها ورفض التعاون معها.
ويدل على مدى القلق الذي دهم نفوس المسلمين في الهند من جراء السياسة البريطانية مع الدولة العثمانية؛ أن ألوفًا من مسلمي الحدود هجروا بلادهم وقصدوا إلى بلاد الأفغان ليعيشوا في ظل حكومتها الإسلامية، وأن مولانا محمد علي قصد إلى تركيا، وفلسطين، ومصر ليجمع كلمة الترك والعرب على استبقاء الخلافة والاتفاق على تأسيس «دولة اتحادية» تضم إليها طلاب الاستقلال في غير سيادة لقوم من الأقوام على قوم آخرين.
وبينما الهند تغلي مراجلها بالثورة والمقاومة السلبية تارة والمقاومة الإيجابية تارة أخرى؛ إذا بمصطفى كمال يلغي الخلافة وينفي خاتم الخلفاء العثمانيين من القسطنطينية.
أمن المصادفة ما حدث بعد هذا أم من تلاحق الأسباب الكثيرة وتلاقيها في وقت واحد غير منظور قبل ذلك؟
قد يكون هذا وذاك تعبيرين مختلفين لمعنى واحد، فليست المصادفة إلا أسبابًا مجهولة أو غير مستقصاة إلى نهايتها، ولكننا على كل حال لا ننوي أن نرجح قولًا من القولين في هذا السياق؛ إذ الأمر المحقق أن القائد الأعظم قد برز للزعامة في السياسة الهندية خلال هذه الآونة بعينها، وأنه كان على آراء مخالفة لآراء زعماء المسلمين في مسألة الخلافة وفي مسألة المقاومة السلبية، فكان أحق الزعماء بأن يتناول عصا القيادة في الآونة التي فترت فيها حركة الخلافة، وبطل التعاون من جرائها بين المسلمين والبرهميين في المقاومة السلبية.
كان جناح من مبدأ الأمر يؤمن بضياع الجهود التي تُبذل في الهند لتأييد الخلافة العثمانية، وكان يؤمن كذلك بأن المقاومة السلبية سياسة ضررها بالهنود في النهاية أكبر من ضررها بالدولة البريطانية.
فلما تحولت جهود المسلمين الهنود إلى الداخل كان أصلح الزعماء لتوجيه تلك الجهود زعيم يحصر جهوده في بلاده، ولا يسلم مقودها لمن يتخذون مسألة الخلافة وسيلة للمناورات السياسية، ولم يكن تضافر المؤتمر وزعماء المسلمين على نصر الخلافة الإسلامية إلا مناورة من المناورات التي لا يسيغها طبع جناح، ولا تدخل في تفكيره ولا في شعوره.
وكان اجتماع الخواطر على استقلال المسلمين بدولتهم في الهند نتيجة طبيعية لقنوطهم من عمل شيء ناجع في إبقاء الخلافة العثمانية بعد أن تخلى عنها أبناؤها.
والمسلم على الدوام يفرق بين الحاكم وولي الأمر في فرائض الطاعة والمعاونة، فهو لا يدين بالطاعة لغير الله ولا يقبل الحكم من «ولي الأمر» إلا لأنه يتولاه بأمر الله، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
أما «الحاكم» الذي ليس «وليًّا للأمر» فطاعته ضرورة قاسرة، والخروج عليه واجب كلما امتنعت هذه الضرورة القاسرة، وقد كان العزاء من قبل أن ولي الأمر قائم بالخلافة وإن كانت ولاية روحية، فأما ولا خلافة فليس من المعقول أن يخرج المسلمون من طاعة الدولة البريطانية ليدخلوا في طاعة الدولة البرهمية، وخير العوض في هذه الحالة قيام دولة مستقلة للمسلمين في بلادهم، إن لم تكن هي دولة الخلافة فهي حكومة اختيار لا حكومة اضطرار في غير موجب للاضطرار.
كذلك كانت مسألة الخلافة — من مسائل العالم الإسلامي الكبرى — عاملًا مهمًّا في قيام الباكستان، وفي توجيه القيادة إلى الزعيم الذي آمن منذ البداءة بحصر الجهود في هذه الناحية، فكان هذا أيضًا تفسيرًا واضحًا للزعامة التي تقود الجماهير بالقول الصادق الصادع، من غير تأثير ولا اضطرار إلى أساليب التأثير.