مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (آل عمران، الآية: ١٥٩)، وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ (الشُّورى، الآية: ٣٨) «القرآن الحكيم».
•••
كانت الدولة العثمانيَّة — منذ أسسها السلطان عثمان ذلك الرجل المدير العصامي، إلى نهاية أيام السطان عبد المجيد العاقل الأبيِّ — دولة حربيَّة بحتة، شادت بناء عظمتها على أسس الإقدام والشجاعة والغلب، فلم يمضِ زمن كبير حتى أصبحت من الدول ذوات البأس اللائي يُتقى غضبهن، وتُخطَب مودَّتهن؛ فأمعنت في الفتوحات، واسترسلت في الغزوات، وقلما كانت ترجع من غزوة إلا وبنود الفلج تخفق فوق رأسها، ورايات الظفر تتمايل في أيدي رجالها الكماة صلفًا وفخرًا؛ فعزَّ مكانها، وتطاول بنيانها، واتسع ملكها حتى تغلغلت في أحشاء أوروبا، بعد أن استحوزت على آسيا الصغرى وجزء كبير من أفريقيا.
كانت سريعة الخُطى في هذه السبيل؛ فسادت وشادت، وبنت على أطلال الدولة السلجوقيَّة دولة عظيمة قويَّة، وما كان العظم في تلك العصور التي يسمونها العصور المظلمة إلا بقوة المراس، وثبات الجأش، والنشوء بين صليل السيوف، ومزاحف الصفوف.
أخذ بعضدها فاتح القسطنطينيَّة، وكان تقيًّا صالحًا؛ فأناف بها على اليفاع، وتوقل بها سنيَّ المراتب، ناهيك بمالك القسطنطينيَّة إذا كان خيِّرًا عادلًا، وما زالت تتدرج في منازل العظمة، ومواطن السؤدد، حتى كانت أيام السطان سليمان القانوني، وفيها بلغت آخر مدى، ووقفت عند منتهى الغائيَّة، وهو صاحب الفضل في جعلها حكومة نظاميَّة قانونيَّة، بعد أن كانت تجري على تقاليد محفوظة، لا غناء بها، ولا نظام لها، ومن ذلك الحين دبَّ الضعف في جسمها، وكان إهمال أولي الأمر وجهلهم وسومهم الرعيَّة سوء العذاب مساعدًا على نماء الضعف، وسريانه في جسم الدولة، إلى أن تولى السلطان محمود الثاني، ذلك المحب للإصلاح، والدولة على شفا جرفٍ هارٍ ينذرها بالاضمحلال والفناء، ألفاها وقد فقدت تلك القوة التي كانت تباهي بها، ولم تضرب بسهم في العلم الذي أصبح السلاح القاطع والقوة الكبرى في ذلك الحين وهذا الحين، فقوَّم منآدها بما في وسعه، وأصلح فاسدها بما في طوقه، ومما يُذكر له بالثناء عليه تنكيله بالانكشاريَّة الذين كان زمام الملك في يدهم لذلك العهد، وكانوا من أشدِّ العوامل في إفساد الدولة وإضعافها، ثم تولى الملك السلطان عبد المجيد والدولة في قلاقل داخليَّة ومشكلات خارجيَّة تضعف الرجاء في إقالتها من عثرتها، وإنهاضها من كبوتها، بل إرجاعها إلى سابق عزِّها، وسالف مجدها، فأخذ ببعضها، وحدَّد للحكومة وظائفها، وبيَّن للرعيَّة حقوقها، ويكفيه فخرًا أنه هو الواضع لخط «كلخانه» المعروف.
لم يكد عبد المجيد يُوارَى في رمسه حتى قام السلطان عبد العزيز وهو الذي زُيِّن له حب الشهوات، وأولع بحب السيطرة، وأُشرب قلبه القسوة، ينكث فتل سلفه، ويصدع رأب سابقه، وكان عونًا له على هذا التخريب وزيره محمود نديم باشا، حبيب «أغناتيف» السفير الروسي في ذلك العهد، ومنفذ غايه ومقاصده.
ثم جلس على سرير الملك السلطان عبد الحميد الثاني، بعد أن تولى الملك السلطان مراد مدة لم تتجاوز ثلاثة وتسعين يومًا، ولم يكد يستقر على السرير حتى أحاط به جمهور من الأحرار، وزينوا له أن يسير على سنن أوروبا، فتكون حكومته دستوريَّة حرَّة، وكان مدحت باشا هو الرأس المدبر لهذه الحركة، واليد العاملة فيها، ولم تكد تقرُّ عيونهم بتحقيق الرغيبة، حتى فوجئوا بالنفي والإبعاد، وإلقائهم في غيابة السجون، وإغراقهم في لجج البوسفور!
ابتدأت المظالم منذ ذلك الحين تحارب الأمة في جميع مقومات الحياة، والتفَّ حول السلطان فريقٌ من الجواسيس «يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية» فطفقوا يُرضون المخلوق بما يُسخط الخالق، وافترعوا ضروبًا من الظلم، وأفانين من الإرهاق والتضييق، كانوا يصولون بها على الأمة صيال الوحوش الضارية، والطيور الكاسرة ذوات المخالب، وامتدَّ بهم الإفساد إلى أن سلَّطوا بعض رجال الأمة على بعض، ففتوا في عضدها، وأفسدوا أخلاقها، حتى بات الابن يخشى أن يأتيه الضرُّ من قِبَل أبيه، والأخ يتوقع أن يحيق به البلاء من ناحية أخيه، وكان العلم أخوف ما يخافونه، فنكَّلوا برجاله شرَّ تنكيل، ففرَّ منهم من أفلت من ظلمهم إلى أوروبا وأمريكا ومصر.
كان الأحرار في غضون هذه اللمعات والكوارث النازلة بأمتهم قد أجمعوا أمرهم سرًّا، وأنشئوا الجمعيَّات السياسيَّة في بلاد الحريَّة التي تبوءوها، ونشروا الجرائد والكتب والرسائل، وكلها تنديد بالحال الحاضرة، وغلا في ذلك قوم واستخذى آخرون، حتى قام فريقٌ من الشبان في الأستانة — ومعظمهم من طلاب المدرسة الطبيَّة والمتخرجين فيها — فأسسوا جمعيَّة الاتحاد والترقِّي منذ ثماني عشرة سنة، ثم نمت وعظمت بعد ذلك، وانتظم في سلكها كثيرون من كبار الأحرار وخيار العقلاء، وقد كان لرجالها تكتُّم غريب، وتحفُّظ شديد، وحزم عظيم، كانت بدايته السلامة من صولة الجواسيس، ونهايته ذلك الفوز الكبير والنصر المبين؛ إذ قاموا بقلب أعرق حكومة في الاستبداد إلى حكومة دستوريَّة حرَّة، من دون أن تُراق في سبيل ذلك نقطة دم، مع أن المسطور في التواريخ أن مثل هذا الانقلاب لم تصل أمة إلى ساحله إلا بعد خوضها في بحر لجِّيٍّ من الدم.
لم تكن دهشة الأمة العثمانيَّة وإعجابها بهذا الانقلاب بأكثر من دهشة سائر الأمم الأخرى، فقد تجاوزت صيحات «نيازي» و«أنور» بلاد الدولة العليَّة إلى مدن أوروبا وغيرها؛ فالتفتت مذعورة حائرة من هذا المصير العجيب الذي ما كان يخطر لها ببال، ولا يزال الناس فيها وفي غيرها من بلاد الدنيا معجبين بهذا الانقلاب الذي لم يعِ التاريخ في صدره له ضريعًا، حائرين في أسبابه ومقدماته، حتى قام اليوم الكاتب السياسي، والأديب الألمعيُّ، صديقنا محمد روحي بك الخالدي، عضو القدس الشريف في مجلس النواب العثمانيِّ، بتأليف رسالة جليلة في هذا الموضوع، أماط فيها اللثام عن الأسباب المجهولة، والحقائق المخدرة، وقد بحث فيها بحثًا فلسفيًّا في أصل الاستبداد ونشوئه، وشكل الحكومة العثمانيَّة في بدء تأسيسها، وبيان تقاليدها الموروثة ونظاماتها المكتسبة، وشيوع الخلل في إدارة الدولة واستبداد أولي الأمر فيها، مما أدى بها إلى شرِّ حالة، وكان سببًا في قيام الأحرار ومطالبتهم بالإصلاح، وأفاض القول في شئون الأحرار وتاريخ ظهورهم، وبيان الطرق التي سلكوها ليصلوا إلى مقاصدهم، مع تراجم لمشهوريهم.
جال المؤلف في ذلك جولة المؤرخ الواقف على الحقائق، واستنتج من الحوادث التي سردها أن الانقلاب هو النتيجة التي لا بد منها لتلك المقدمات التي سبقته، فكان ما كتبه جديرًا بأن يكون رائدًا لمن يأنس في نفسه شغفًا إلى استكناه تلك الغوامض التي أدهشت العالم، وقلبت كيان السياسة، وأي قارئ ليس شغوفًا بذلك؟
ونُشرت الرسالة في مجلة «المنار»، فكانت موضع استحسان العلماء العقلاء، والكُتَّاب الأبيناء، وكان بدا لي أن أستأذن مؤلفها في طبعها على حدة لتكون كتابًا مستقلًا تلذُّ مطالعته، وتسهل مراجعته، فكتبت إليه راغبًا في ذلك، فرجع القول ملبيًا الطلب؛ سامحًا بتنقيح ما لا تسلم منه كتابة المتسرع، ولا سيَّما إذا كان كمؤلفنا لم يُتح له أن يعيد النظر على ما كتب.
وإني أزفُّها اليوم إلى الناطقين بالضاد مطبوعة طبعًا صحيحًا نظيفًا، رجاء أن يستفيدوا من تحقيق مؤلفها، ويقفوا على أسباب ذلك الانقلاب العجيب، وخليق بأهل هذا القطر الذين شُغفوا بالدستور وقد ضلوا طريقه، ولم يهتدوا إلى بابه، أن يمعنوا في معانيها، ويتبيَّنوا مراميها، عسى أن يتأسُّوا بأولئك الأحرار، ويكونوا من خير المحتذين لهم في هذه الديار.