مطاردة الصوت
أخذت شواطئ الجزيرة تبتعد، والنيران المشتعلة في الفيلا الضخمة تنعكس على الأفق كأنها أصابع خرافية تُقوِّض كل شيء … وكان الشياطين الأربعة «أحمد» و«عثمان» و«قيس» و«خالد» يقفون في كابينة القيادة في الزورق الضخم الذي استولَوا عليه، وهو يبتعد بسرعة هائلة عن جزيرة «سنتشوزا» حيث جرت آخر مغامراتهم.
قال «عثمان»: إن «كاسينا» لن يُصدِّق ما حدث … لقد بنى هذه الفيلا وأحاطها بكل أنواع الحراسة حتى تُصبح حصنًا منيعًا لا يمكن اقتحامه ولا يمكن الفرار منه!
أحمد: الحقيقة أنني لم أرَ في حياتي مأوًى أفضل من هذا … جزيرة محاطة بالمياه، وعليها سياج من الحُرَّاس … وفيها أقفاص الحيوانات المتوحِّشة، وفي مياهها تمرح أضخم التماسيح … إن «كاسينا» لن ينسى لنا ما فعلنا!
قيس: المهم متى يبدأ مطاردتَنا؟
أحمد: فورًا … فهو الآن يتخلَّص من المأزق الذي وضعناه فيه … لقد أحرقنا الفيلم الذي فعل كل شيء من أجل الحصول عليه … ثم أحرقنا حصنه المنيع … أظن أنه سيتبعنا إلى أقصى العالم!
تكلَّم «خالد» لأول مرة قائلًا: وما هي وجهتنا الآن؟
أحمد: سيتحدَّد هذا بإمكانيات هذا الزورق … وكمية الوقود التي به، والأكل والمياه، وغير ذلك … وأعتقد أنك أقدر الناس على تقدير الموقف.
انصرف «خالد» إلى داخل الزورق … وأخذ «أحمد» و«عثمان» ينظران إلى الخرائط الملاحية في كابينة القيادة.
كانت المنطقة التي يُبحرون فيها حافلةً بالجزر الصغيرة … جزر مجهولة أكثرها لا يظهر على الخرائط العادية … ولمَّا كان الزورق الكبير يتجه جنوبًا، فإن جزيرة «سومطرة» كانت على يمينهم، وقال «أحمد» محدِّثًا «عثمان»: إن فرصتنا أن نصل إلى «سومطرة»؛ فمن الصعب العثور علينا هناك … إنها جزيرة استوائية تحفل بالغابات، ومن الممكن الاختفاء فيها … وإذا استطعنا أن نصل إلى شاطئها الغربي فإننا يمكن أن نعبر خارجين من هذا العالم الاستوائي كله إلى أوروبا، ثم إلى القاهرة!
عثمان: حتى الآن لا أجد شيئًا يُهدِّدنا!
أحمد: إن ذلك أخطر … فلو أن العدو واضح أمامنا لعرفنا كيف نتعامل معه، أمَّا الآن فلسنا ندري ماذا سيحدث!
ولم يكد «أحمد» ينتهي من جملته حتى ظهر «قيس» قادمًا من مقدمة الزورق وقال: هناك طائرة هليكوبتر تُحلِّق فوقنا، وقد سارعتُ بإطفاء أنوار الزورق، وأرجو ألَّا يكون ذلك بعد فوات الأوان!
قفز «أحمد» و«عثمان» معًا إلى ظهر الزورق … وكان «قيس» قد عاد إلى كابينة القيادة … وانكمش الاثنان بجوار الكابينة، واستطاعا أن يُشاهدا أضواء الهليكوبتر وهي تدور وتلف بحثًا عنهم، وفجأةً ألقت الطائرة قنبلةً مضيئةً فأحالت الجو المحيط بهم إلى نهار … وظهر واضحًا أنهم عثروا على بغيتهم.
قال «عثمان»: لقد تحرَّكوا بأسرع ممَّا نتوقَّع!
أحمد: من المؤكَّد أن «كاسينا» وضع في اعتباره كل الاحتمالات!
اقتربت الطائرة من الزورق … وأخذ «قيس» يسير في خطوط متعرِّجة، ولكن الطائرة كانت أقدر على المناورة في الجو، وسرعان ما كانت تقترب من الزورق وتهبط تدريجيًّا … وأسرع «أحمد» إلى الكابينة وأمسك بعجلة القيادة، وأخذ يُدير العجلة وهو يصيح: فرصتنا الوحيدة أن نلجأ إلى الشاطئ … إن الغابات الكثيفة يمكن أن تُخفي القارب عن عيونهم، ثم نُغادره ونختفي في الغابات.
دار القارب دورةً واسعةً أبعدته قليلًا عن الطائرة … ولكن فجأةً انهمر سيل من الرصاص كأنه سلسلة من أصابع النيران … واجتاح الرصاص سطح القارب، ولكن لم يصب أحدًا … وأخذ القارب يقترب سريعًا من الشاطئ … والطائرة تُطارده بسيل منهمر من الرصاص … وأخيرًا استطاع «أحمد» أن يصل بالقارب إلى منطقة الغابات الكثيفة التي تُغطِّي مساحةً كبيرةً من الشاطئ، ثم دخل به سريعًا تحت ألوف الأغصان المتشابكة، واحتكَّ بها بشدة دفعت العصافير النائمة على الأغصان لليقظة وإطلاق آلاف الأصوات المذعورة … وفي نفس الوقت استيقظت مختلِف الحيوانات مذعورةً من رقادها … وسقط قرد صغير فوق القارب وأخذ يقفز هنا وهناك وهو يصرخ كطفل صغير فقَد أمه … وأسرع «عثمان» إليه … وقفز القرد إلى صدره وهو يصرخ … وقال «أحمد»: سنوقف محرِّك القارب وننتظر؛ فهذه المنطقة عامرة بسمك القرش ولا يمكن السباحة فيها.
أوقف «خالد» المحرِّكات … وبدا صوت الطائرة واضحًا في السماء … وقال «عثمان»: لا بد أن في القارب أسلحة … إننا في أشد الحاجة إليها!
ابتسم «أحمد» رغمًا عنه وهو يقول: ابتعد أنت مع طفلكَ الجديد … وسأذهب للبحث، وعليك يا «قيس» أن تُراقب الطائرة.
وبينما صعد «قيس» إلى سطح القارب، هبط «أحمد» إلى قلبه وأخذ يدور هنا وهناك يُفتِّش عن مخزن الأسلحة … وقد وجده سريعًا … كان موجودًا في الصالون الواسع وفتح «أحمد» بابه ودُهش لضخامة عدد قِطع السلاح الموجودة به وتنوُّعها … وأسرع يأخذ مدفعَين رشاشَين من العيار الثقيل وصندوقًا من الذخيرة، ثم أسرع يعدو خارجًا … كانت طلقات الرشاش التي تُطلقها الهليكوبتر مُصوِّبةً بعيدًا عن القارب … أمَّا خطة «أحمد» فهي اللجوء إلى ما تحت الأشجار العالية … وبذلك أصبحت كل طلقات الرشاشات المصوبة من الطائرة طائشة.
صعد «أحمد» إلى السطح ووجد الشياطين الثلاثة؛ «قيس» في غرفة القيادة، و«خالد» و«عثمان» يقفان بجوار الكابينة … وكان الزورق يقف ساكنًا تحت أفرع الأشجار.
قال «أحمد»: هناك مخزن رائع للأسلحة … إننا يجب أن نُحافظ على هذا الزورق مهما كان الثمن!
خالد: وقد وجدتُ مخازن الطعام والماء ممتلئة، ويمكن أن تكفي لمدة تتراوح بين أسبوع وعشرة أيام!
أحمد: عظيم!
عثمان: وما هي الخطة؟
أحمد: أعتقد أنهم سيهبطون بالهليكوبتر في مكانٍ مناسب من القارب، ثم يُحاولون اصطيادنا من الشاطئ.
عثمان: يبدو أنهم يُحاولون ذلك فعلًا … فصوت الطائرة يبتعد!
أحمد: سننتظر حتى تبتعد، ثم نتحرَّك خارجين إلى البحر.
وتناول «قيس» أحد الرشاشَين وأخذ يملؤه بالرصاص … وفعل «عثمان» مثله.
كان القرد الصغير ما زال ملتصقًا بصدر «عثمان»، وتذكَّروا مغامرة «جبال القمر»، والتي كان قد صادفهم فيها قردٌ آخر.
قال «عثمان» وهو يُناول المدفع الرشاش ﻟ «أحمد»: سآخذ هذا القرد الصغير وأذهب لأبحث له عن بعض اللبن.
ونزل «عثمان» إلى المطبخ … وفتح علبةً من اللبن المحفوظ، وضعه على النار لحظات، ثم وضعه أمام القرد الذي لم يتردَّد، وقفز بجوار الطبق وأخذ يلعق اللبن بسرعة وهو ينظر إلى «عثمان» وكأنه يشكره.
صعد «عثمان» إلى السطح مرةً أخرى، كان صوت الهليكوبتر قد ابتعد تمامًا … وقال «أحمد»: سنتحرَّك!
أسرع «قيس» إلى كابينة القيادة، وطلب من «أحمد» الاستعداد للخروج إلى البحر مرةً أخرى … بينما نزل «عثمان» إلى قلب القارب وأدار المحرِّك، وسرعان ما تحرَّك القارب خارجًا … ومرةً أخرى انطلقت عاصفة الأصوات في الغابة من طيور وقرود، وقال «أحمد»: هذه الأصوات مع صوت المحرِّك كافية للفت نظر ركَّاب الهليكوبتر … فلْنكن قريبين من الشاطئ باستمرار … حتى نعود إلى حمايته إذا طارت الهليكوبتر مرةً أخرى.
أخذ القارب يشق طريقه في البحر … وكانت أضواء جزيرة «سومطرة» تبدو من بعيد كحبَّات الضوء المنثور … وكان الشياطين الأربعة يُفكِّرون في مصيرهم …
إن المعركة بين الطائرة الهليكوبتر وبين الزورق معركة غير متكافئة … فالطائرة أسرع وأقدر على الحركة … ولو كان معها قنابل فسوف تقضي عليهم فورًا … وفي نفس الوقت إذا نزلوا من الزورق إلى الغابة … فهناك الحيوانات المتوحِّشة من ناحية … وهؤلاء الرجال الذين يعرفون عن الغابة أكثر ممَّا يعرف الشياطين.
كان «أحمد» و«عثمان» يقفان معًا … و«خالد» يتولَّى قيادة الزورق … بينما كان «قيس» يتولَّى أمر المحرِّكات … وفجأةً سمعوا صوت الهليكوبتر مرةً أخرى … وقد كان قريبًا منهم بدرجةٍ غريبة … ويبدو أنها عندما هبطت كانت بمحاذاة الشاطئ حتى تتمكَّن من الهجوم السريع … وفعلًا كانت فوقهم تمامًا في دقائق … وأطلقت قنبلة إضاءة جعلت البحر كأنه سطح مرآة … ثم بدأت الهجوم … بينما اتجه «خالد» سريعًا بالزورق إلى حماية الشاطئ … ووقف «أحمد» و«عثمان» كلٌّ منهما يحمل مدفعه الرشاش، حتى إذا مالت الطائرة لتضرب، انطلق من المدفعَين سيلٌ من الرصاص.
ابتعدت الطائرة عن مرمى الضرب، ودارت دورةً واسعة، ثم عادت مرةً أخرى … كان الزورق قد عاد للاقتراب من الشاطئ، وفجأةً ارتطم شيء بالقاع … ودار الزورق حول نفسه، ومال على جانبه عندما تقدَّمت الطائرة بسرعة وبدأت في إطلاق النيران.