من السماء … وفي السماء
كانت صدمة الزورق قويةً ألقت ﺑ «أحمد» و«عثمان» على السطح، واختلَّت عجلة القيادة في يد «خالد» … وبدا كل شيء كأنه ضاع … وانقضَّت الطائرة بكل قوتها على الزورق، وهي تُطلق نيرانها … واستطاع «عثمان» في لحظةٍ أن يتمالك نفسه، ويتكئ على ركبتَيه، ثم رفع مدفعه الرشاش وأطلق سيلًا من الرصاص على الطائرة … فأصابت الطلقات الطائرة، واندفع منها عامود من الدخان، واضطربت حركتها، وتوقَّفت عن الهجوم، ومالت على جانبها ودخلت الغابة.
وصاح «أحمد»: يا لك من صائد ماهر! سنُسمِّيك صائد الطائرات.
ظهر «قيس» على سطح الزورق الذي استعاد توازنه وقال: إن المياه تتسرَّب من فتحةٍ في قاع الزورق!
وأسرع الثلاثة ينزلون السلالم إلى القاع … وقابلتهم المياه عند الدرجة الأخيرة من السلَّم … وخاضوا في المياه حتى وصلوا إلى الفتحة التي يتدفَّق منها الماء … وقال «أحمد»: لقد اصطدم الزورق بصخرة ناتئة عند الشاطئ … يجب وقف تدفُّق المياه وإلا ضعنا جميعًا!
رغم ضيق الفتحة فقد كان الماء يتدفَّق منها كالشلَّال الصغير … وكانت المشكلة ذات شِقَّين … أولًا: أن تصل المياه إلى غرفة الآلات فتتوقَّف، والثانية: أن تملأ الزورق فيغرق والمنطقة حافلة بأسماك القرش الرهيبة التي يأتي بها تيَّار «ملجا» من قلب المحيط.
أخذ الثلاثة يعملون بهمة ونشاط … أحضروا مضخات النزح وتناوبوا العمل … وفي كل مرة يُحاولون فيها سد الثغرة المخيفة … تتمكَّن المياه من دفع السدادة واقتحام المكان، حتى قال «قيس»: أعتقد أن علينا الآن أن نُغادر الزورق في قوارب الإنقاذ … إن أي محاولةٍ نبذلها مقدَّر لها الفشل.
توقَّف الثلاثة عن العمل بعد هذه الجملة … ثم عادوا إلى ظهر الزورق …
كان ضوء الشمس قد بدأ يظهر … وكان الزورق قد ابتعد كثيرًا عن الشاطئ، وأصبح يسير في وسط ممر «ملجا» المائي، بين جزيرة «سنغافورة»، وجزيرة «سومطرة». ذهب «أحمد» إلى «خالد» في كابينة القيادة وقال له: إن الزورق يغرق ولا أمل في إنقاذه، وعلينا أن نُغادره … هل يمكن العودة إلى الشاطئ؟
خالد: لقد أصبحتْ إدارته شديدة الصعوبة … ولا بد أن المياه قد أثقلته.
أحمد: إذن ثبِّت عجلة القيادة … وسننزل في قوارب الإنقاذ.
صعدا معًا إلى السطح، كان «عثمان» و«قيس» قد أعدَّا قاربَي الإنقاذ المطاطَين، وأخذ الأربعة يضعون فيهما المؤن والمياه اللازمة … ولم ينسَ «عثمان» أن يُحضر بعض الأسلحة الخفيفة … وعندما صعدت الشمس إلى الأفق … كان الأربعة يُغادرون الزورق … «أحمد» و«عثمان» في قارب، و«خالد» و«قيس» في القارب الثاني … وعندما بدأت المجاديف تعمل قال «عثمان»: يجب أن نبتعد سريعًا؛ فإن الزورق عندما يغرق سيُحدث دُوامةً واسعة.
وأشار «عثمان» إلى «قيس» صائحًا: ابتعد بسرعة!
وأخذ القاربان الصغيران يندفعان إلى الأمام … ونظر الأربعة إلى الزورق الضخم. كانت المياه قد ملأته، وأخذ يترنَّح، ثم مال على أحد جانبَيه، وابتلعه المحيط.
كان قارب «أحمد» و«عثمان» يسير في المقدمة … وقال «أحمد»: سوف لا نستطيع العودة إلى «سنغافورة» وإلا اصطادونا … ولا إلى جزيرة «سومطرة» فإنها بعيدة، وأعتقد أن الحل الأفضل أن نتجه جنوبًا.
عثمان: إلى أين؟
أحمد: لقد رأيتُ على الخريطة مجموعةً من الجزر الصغيرة جنوب «سنغافورة»، منها ثلاث جزر كبيرة هي: «بنتان» و«ولنجا» و«سنجي كيب»، ولو استطعنا الوصول إليها لاستطعنا الاختفاء عن عيون رجال «كاسينا»، الذي سوف يبذل كل وسعه للوصول إلينا … لقد استطعنا أن ننتصر عليه ثلاث مرات … مرة عندما أحرقنا الفيلم، والثانية عندما أحرقنا حصنه المنيع في جزيرة «سنتشوزا» … والثالثة عندما أخذنا زورقه الضخم الذي ابتلعته المياه.
عثمان: هناك نقطة ضعف هائلة في هذا الموضوع.
أحمد: ما هي؟
عثمان: إذا وصلنا إلى إحدى هذه الجزر … فكيف نخرج منها؟
أحمد: لا أدري … إننا الآن نُحاول فقط إنقاذ أنفسنا، والاختفاء عن أعين المطاردين … بعد ذلك سنجد حلًّا.
ساد الصمت بعد هذا الحديث … وأخذت المجاديف تعمل … وأخذت الشمس الاستوائية الحارة ترتفع في الأفق، وفجأةً تذكَّر «أحمد» شيئًا فقال: أين قردك الصغير؟ لقد تركناه يغرق في الزورق!
ابتسم «عثمان»، ودون أن يرد كشف غطاءً عليه ضمن علب المؤن، وأطلَّ وجه القرد الصغير … كان نائمًا … وقال «عثمان»: لقد أحدثتُ بعض الثقوب في العلبة حتى يصل إليه الهواء.
قال «أحمد»: يا لك من شيطان!
مضت نحو نصف ساعة والمجاديف تعمل في الاتجاه جنوبًا، وأمسك «عثمان» بنظارة مكبِّرة وأخذ يُديرها، ثم توقَّف عند نقطة معيَّنة، وأشار بإصبعه وقال: إنني أرى على البعد مجموعةً من الجزر تبدو كنقط على سطح المحيط.
أحمد: سوف نتجه إليها.
فأدار «عثمان» الدفة في الاتجاه، ثم ثبَّتها في مكانها، ومضى يُجدِّف بنشاط، ومضت ساعة أخرى وقال «عثمان»: إنني أُحس بجوعٍ شديد.
أحمد: وأنا مثلك.
وتوقَّف «أحمد» عن التجديف وأشار للقارب الآخر لينضم إليهما.
بعد لحظات كان القاربان يقفان متجاورَين … وأخذ الشياطين الأربعة يتناولون بعض الطعام … وكانت المفاجأة «شاي ساخن» كان مع «خالد» في الكابينة، ولكن هذه المفاجأة السعيدة انتهت سريعًا … فقد اهتزت المياه فجأةً حول القاربَين، وشاهد «قيس» على جانب القارب الأيمن «ثلاثة ذيول» لثلاثة أسماك من سمك القرش …
قال «عثمان»: إنها أسماك القرش …
خالد: ويا لها من عدو مخيف إذا كانت ستهتم بنا!
وانتهوا جميعًا من إفطارهم … وعادت المجاديف تعمل … والقاربان الصغيران يشقان المياه في اتجاه «أرخبيل» الجزر الصغيرة جنوب «سنغافورة» … ولكن لم تمضِ دقائق حتى نظر «أحمد» إلى يساره، فشاهد قرب سطح المياه ظهر سمكة قرش ضخمة تتجه ناحية القارب المطاط … وكان يكفي أن تصدم القارب برأسها أو تشقه بزعنفتها الضخمة أو تضربه بذيلها لتأتي النهاية … فمن الذي يستطيع محاربة وحوش البحر المرعبة في هذا المحيط الشاسع؟! …
صاح «أحمد»: أدِر الدفة يا «عثمان» … سمكة قرش ناحية اليسار …
وأدار «عثمان» الدفة سريعًا … وانحرف القارب حتى كادت ينقلب بهما، وتجاوزتهما السمكة بجوار القارب تمامًا، ثم اندفعت ذاهبة … وشاهدا طولها المخيف الذي كان يمتد نحو أربعة أمتار … وكان رأسها المسطَّح واضحًا تحت الشمس … كانت سمكةً زرقاء من النوع الضخم …
ربما لأول مرة في حياته أحسَّ «أحمد» بالفزع … إن العدو هذه المرة لا يمكن مقاومته … مجموعة من أسماك القرش الجائعة على استعداد لعمل أي شيء في سبيل وجبةٍ شهية … وهل هناك من وجبة أشهى من أجسام هؤلاء الشبان؟!
قال «أحمد»: إنها لن تكف عن مطاردتنا …
عثمان: سأستخدم البندقية سريعة الطلقات …
أحمد: المهم أن تُصيبها في رأسها بالضبط … وأن تكون فوق السطح؛ فإن المياه تُضعف من قوة المقذوف …
ترك «عثمان» المجداف … وثبَّت الدفة … وأمسك بالبندقية وأعدَّها للإطلاق … وأخذ «أحمد» يُجدِّف بكل طاقته … ولحق بهما القارب الثاني … وصاح «أحمد»: أسماك القرش تطاردنا! … أحدكما يُجدِّف والثاني يستعد لإطلاق الرصاص …
مضت بضع دقائق هادئة … وفجأةً صاح «أحمد»: خلفك يا «عثمان»! …
واستدار «عثمان» سريعًا … كانت سمكة القرش تندفع بكل قوتها ناحية القارب الصغير … وأدار «عثمان» الدفة بيده سريعًا … وأصبحت السمكة بجواره … ورفع البندقية وانتظر، ولكن السمكة لم تظهر على وجه الماء، ومضت بعيدًا …
قال «أحمد»: إنها ليست نفس السمكة …
عثمان: نعم … هذه لونها يشوبه بعض البياض على الظهر …
أحمد: إنها مجموعة من الأسماك الجائعة … ولو كانت عاقلةً لهاجمتنا كلها مرةً واحدةً ولقضت علينا …
لم يملك «عثمان» نفسه من الابتسام وهو يقول: لا ترفع صوتك … حتى لا تسمعك …
أخذ «أحمد» يُجدِّف بسرعة … وأخذت الجزر تظهر أكثر وضوحًا … ولكن من بعيد. جاء صوت تنخلع له القلوب … صوت الطائرة الهليكوبتر تزن في الفضاء الواسع …
تبادل «أحمد» و«عثمان» النظرات … لم يكن هناك ما يمكن قوله … هذه المرة لن يكون هناك غطاء … ولا وسيلة للهرب … الطائرة في السماء، وسمك القرش القاتل في الماء … ولا بد أن أحد العدوَّين سوف يقتلهم … لم يكن هناك إلا حل واحد؛ التجديف بأقصى سرعة إلى الجزر الصغيرة … فوضع «عثمان» بندقيته على ركبتَيه … وأمسك بالمجدافَين، ووضع كل قوته في التجديف، وكذلك فعل «خالد» في القارب الآخر … وأخذ صوت الطائرة يزداد وضوحًا …