سمكة القرش الزرقاء
كان سباق الحياة يشتد كل دقيقة بين الشياطين الأربعة … وبين أسماك القرش المتوحِّشة من ناحية … ورجال «كاسينا» في الطائرة الهليكوبتر من ناحية أخرى … وكانت الطائرة قد بدأت تظهر في الأفق … كأنها ذبابة صغيرة على لوح كبير من الزجاج … ثم بدأ حجمها يتزايد تدريجيًّا … وكان خطأً فاحشًا من الشياطين أنهم جميعًا نظروا إلى الطائرة التي فوق … ولم ينظروا إلى العدو الذي تحت … وكأنما انتهزت أسماك القرش هذه الفرصة … فشنَّت هجومًا وحشيًّا على قارب «أحمد» و«عثمان»، وقبل أن ينظر أحدهما إلى المياه … انشقت عن سمكة قرش زرقاء ضخمة لا مثيل لضخامتها … صدمت القارب صدمةً قويةً أطاحت به بعيدًا وكادت تقلبه، لولا أن «أحمد» تنبَّه في الوقت المناسب وارتمى على الجانب الذي مال إلى فوق فأعاد للقارب توازنه …
قال «أحمد» ساخطًا: يا لها من سمكة متوحِّشة!
ولم يكَد ينتهي من جملته حتى كانت السمكة الضخمة قد أقبلت مرةً أخرى …
واستطاع أن يرى العينَين الكبيرتَين على جانبَي رأسها الضخم … كانت العين منهما في حجمِ رغيفِ العيش! … وقد بدت فيها نظرة جامدة كأنها نظرة إنسان آلي … أقبلت السمكة كالصاروخ … كان رأسها في ضخامة القارب، ذات لون أزرق يميل إلى السواد وكأنه لون الموت … وقال «أحمد» صائحًا: ارفع البندقية ثم أطلق الرصاص! … ولكن السمكة غاصت في المياه سريعًا وذهبت طلقات الرصاص هباءً … ووضع «عثمان» البندقية مرةً أخرى على ركبتَيه.
كان «أحمد» يُجدِّف بكل قوته … وقد أخذ يبتعد عن القارب الثاني الذي سبقهما ناحية الجزيرة، وأخذ صوت الطائرة يرتفع … وحجمها يكبر ويكبر … وكان واضحًا أنها ستلحق بهما خلال دقائق … وعادت السمكة للهجوم، ومال «أحمد» على جانب القارب واستعد للضرب … هذه المرة سوف يضرب في العين … لا بد في العين … وأقبلت السمكة … ولكن هذه المرة لم تكن وحدها … كان بجوارها سمكة أخرى أقل حجمًا. وكان وجود الاثنَين معًا كافيًا لأن يرتبك «أحمد» … على أيهما يُطلق الرصاص … ولكن «عثمان» الذي كان يرمق المياه، أنقذ الموقف وأدار الدفة دورةً قويةً أبعدت القارب عن هجوم السمكتَين، وكسب بذلك دقيقةً أو أكثر …
كانت حرارة الشمس قد اشتدَّت … وبدأ العرق يسيل من الشياطين … وبدأ العطش يلح عليهم … وتحالفت قوى الطبيعة ضدهم … فقد كان التيَّار يجذب القاربَين بعيدًا عن الشاطئ … وأخذت الطائرة تقترب وتقترب. كانوا في العراء تمامًا … ولو استطاعت الوصول إليهم فستكون نهايتهم محتمة … بضع طلقات وينتهي كل شيء … وكان الشاطئ يقترب … ويقترب. رغم التيار المعاكس كانت إرادة الشياطين تدفعهم إلى بذل أقصى الجهد … ولكن السمكة الزرقاء الرهيبة كانت لا تزال تُهاجم … وقد فعلت آخر ما كان يتوقَّع الشياطين أن تفعل … لقد غاصت في القاع واختفت دقائق … ثم عادت من أسفل القارب … كان «أحمد» يبحث عنها في كل اتجاه … وكان «عثمان» يبذل أقصى جهد في التجديف عندما اندفعت السمكة من أقصى العمق … وضربت القارب ضربةً واحدةً أطارته في الهواء، وطار معه «أحمد» و«عثمان»، ثم سقطا في المياه …
كان «قيس» قد شاهد ما حدث … وصاح ﺑ «خالد»: اتجه ناحية القارب الثاني … وعندما سقط «أحمد» كانت البندقية ما زالت في يده … ووجد نفسه فجأةً وجهًا لوجه مع السمكة … كانت كعادة أسماك القرش لا بد أن تميل جانبًا لتلتهم الفريسة … فإن فمها كالقوس أسفل رأسها … وعندما مالت وضع «أحمد» البندقية في فمها، وهزَّت السمكة رأسها في عنف ودارت مبتعدة … بينما اقترب قارب «خالد» و«قيس» ومدَّا أيديهما وانتشلا «أحمد» و«عثمان» … كان القارب معدًّا لشخصَين فقط؛ لهذا فعندما أصبحوا أربعة؛ غاص في المياه ولم يبقَ بينه وبين الغرق إلا بضعة سنتيمترات تكفي أي موجة صغيرة، أو أي خبطة من سمكة من أسماك القرش ليقع بمن فيه …
تفرَّغ «عثمان» و«خالد» للتجديف، وتفرَّغ «أحمد» و«قيس» لضرب أسماك القرش بالرصاص وإبعادها عن القارب … وقد استطاع «قيس» في إحدى المرات إصابة إحدى الأسماك الضخمة في عينها بطلقةٍ مباشرة … واصطبغ الماء بلون الدم الأحمر … والدماء تجذب أسماك القرش … وسرعان ما تجمَّع عددٌ كبير منها حول جثة السمكة المقتولة … وأخذت جميعًا تشترك في نهش لحمها … ونسوا القارب ومن فيه …
واقترب القارب من الشاطئ الرملي الذي انتشرت عليه أشجار النخيل والأعشاب، في نفس الوقت الذي أصبحت الطائرة على بعد مئات الأمتار منهم … وألقى «أحمد» و«قيس» بأنفسهما في الماء وأخذا يسبحان … وزادت سرعة القارب … وعندما أصبحت الطائرة فوقهم مباشرة، ودارت لتستعد للضرب، كانوا قد غادروا القارب جميعًا واتجهوا إلى النخيل … وألقى كلٌّ منهم نفسه خلف إحداها … وأخذت الطائرة تلف وتدور … كان الشريط الساحلي ضيقًا ومزدحمًا بالنخيل … وخلفه مباشرةً تقع سلسلة من التلال العالية … ولم يكن هناك مخلوق حي في المكان …
اتجهت الطائرة إلى الناحية الأخرى من الجزيرة … وأسرع الشياطين الأربعة إلى الاجتماع، وقال «أحمد»: اذهب فورًا يا «خالد» وأحضر كل الأسلحة التي في القارب … إننا سنخوض فورًا معركة حياة أو موت مع هؤلاء القادمين …
وأسرع «خالد» لإحضار الأسلحة … بينما أخذ الثلاثة يتناقشون … قال «أحمد»: ستهبط الطائرة على الجانب الآخر من الجزيرة … وسوف يُقبلون خلال نصف ساعة.
عثمان: عندي اقتراح …
والتفت إليه «قيس» و«أحمد»، فقال: أرى أن نستولي نحن على الطائرة … إن هذا هو الحل الوحيد!
قال «قيس» متحمِّسًا: أوافق.
أحمد: وأنا أيضًا.
قيس: في هذه الحالة يجب أن نستطلع من أين سيأتون، ثم نذهب في الاتجاه المخالف …
أحمد: طبعًا ستكون هناك حراسة على الطائرة … وسنُقسِّم أنفسنا إلى قسمَين؛ قسم يُغطِّي … وقسم يُهاجم حُرَّاس الطائرة …
عثمان: لا أعتقد أنهم سيتركون للحراسة أكثر من شخصٍ واحد …
وصل «خالد» في هذه اللحظة … كان يحمل بندقيتَين سريعتَي الطلقات ومسدسَين … وأخذ كلٌّ من «أحمد» و«عثمان» مسدَّسًا … وأخذ «قيس» بندقيةً سريعة الطلقات … وبدءوا السير … أخذوا يتسلَّقون التلال زحفًا وهم ينظرون في كل اتجاه … وعندما وصلوا إلى أقصى التل أشار «قيس» إلى الطرف الغربي للجزيرة وقال: هناك أكواخ كثيرة …
قال «أحمد»: يبدو أنه الجزء الصالح للسكن من الجزيرة!
وانحدروا في الاتجاه الذي ذهبت إليه الطائرة … وبعد نحو ربع ساعة من السير والزحف قال «أحمد» منصتًا: اسمعوا …
وانبطح الجميع على الأرض … وتسمَّعوا … واستطاعوا أن يتبيَّنوا أصواتًا تتحدَّث … وتبيَّنوا فيها بعض الكلمات الإنجليزية … وقال «عثمان»: سوف أتسلَّل قريبًا منهم انتظروا هنا.
اتجه «عثمان» ناحية مصدر الصوت … وأخذ يزحف على بطنه محتميًا بالأعشاب، حتى وصل إلى قرب الأصوات، ثم نظر … وشاهد أربعة أشخاص يسيرون في اتجاه الشاطئ الذي نزلوا عنده … لم يكن بينهم «كاسينا»، ولكن كان فيهم «كوجانا» بقوامه الضخم … وقد حمل مدفعًا رشاشًا يكفي لقتل فرقة، وأحسَّ «عثمان» برغبة شديدة في إطلاق الرصاص … كان في إمكانه فعلًا أن يصطاد منهم واحدًا أو اثنَين … ولكن خطة خطف الطائرة دون إحداث ضجةٍ كانت أفضل فتركهم يُكملون سيرهم … وعاد إلى الشياطين … وقال: إنهم أربعة … بينهم «كوجانا» وليس معهم «كاسينا»…
ردَّ «أحمد»: إن «كوجانا» رجل سيئ الحظ … فلم يشترك في أي معركة معنا إلا خرج مهزومًا … هيا بنا …
وفي هذه المرة ساروا مرفوعي القامة حتى وصلوا إلى التلال التي تُغطِّي الشاطئ الآخر من الجزيرة الصغيرة … ورفع «قيس» رأسه بحذرٍ ونظر … كانت الطائرة تقف على أرضٍ مستوية وقد جلس بجوارها رجل يحمل مدفعًا رشاشًا … وهمس: حارس واحد ومدفع رشاش.
قال «عثمان»: اتركوا هذه المهمة لي … كنتُ أتمنَّى أن تكون معي كُرتي الجهنمية ولكن … سوف أتصرَّف.
وانسحب «عثمان» وحده … وأخذ الشياطين الثلاثة يرقبونه وهو يتحرَّك كالثعبان، دون أن يُحدث أي صوت دار حول التل … ثم هبط بمحاذاة النخيل، وأخذ يتنقَّل من واحدةٍ إلى أخرى، حتى اقترب من الطائرة … وفي هذه اللحظة وقف الحارس وحرَّك مدفعه الرشاش في اتجاه «عثمان»، ووضع الشياطين الثلاثة أيديهم على أسلحتهم.