التمثال ذو الأحد عشر وجهًا
أخذ «أحمد» يُفكِّر في إجابة … وكانت الشمس الاستوائية قد مالت للمغيب … وأخذت زُرقة السماء الصافية تنسحب أمام ظُلمة الليل … وقال «مون»: إنكم بلا شك تعملون في التهريب …
ابتسم «أحمد» فقد وجد إجابةً وقال: أحيانًا أيها الزعيم …
مون: في هذه الحالة … هناك شيء أُحب أن تنقُلوه في هذه الطائرة …
أحمد: أيُّ شيء أيها الزعيم؟
مون: إنه تمثال «كانون» الواقف ذو الأحد عشر وجهًا.
تذكَّر «أحمد» على الفور أنه قرأ مقالًا عن سرقة هذا التمثال … من معبد «شورنجس» في مدينة «نارا» باليابان … وهو تمثال لا يُقدَّر بثمن.
كانت فرصةً رائعةً للمساومة … فقال «أحمد»: لا مانع أيها الزعيم … ولكن هناك بعض الشروط.
مون: ما هي؟
أحمد: أولًا: تأمين سلامتنا حتى موعد السفر … ثانيًا: ماذا ستدفعون لنا بالمقابل؟
أخذ «مون» يعبث بلحيته وينفث الدخان، ثم قال: سندفع لكم بعدما تُسلِّمون التمثال إلى الجهة التي نُحدِّدها …
لم يكن «أحمد» جادًّا في طلب النقود … ولا الاشتراك في عمليات التهريب … ولكن كان يعرف أنه إذا لم يشترط شيئًا بالمقابل … فإن «مون» سوف يستريب فيه … وهكذا عاد يقول: لا بد أن هذا التمثال مهم جدًّا أيها الزعيم؛ لهذا فنحن سنطلب ما يُساوي ألف جنيه إسترليني مقابل نقله …
نظر «مون» إلى الرجال الذين معه، وتحدَّث إليهم بلغتهم السريعة غير المفهومة … ولكن «أحمد» فهم من الحديث أن المبلغ كبير … وفي نفسه كان يضحك … فلم يكن هذا المبلغ يُهمُّه في شيء … ولكن المشكلة أنه كان يُريد أن يتظاهر بأنه مهرِّب محترف يُفاصل في كل شيء …
وتحدَّث «مون» فقال: إني رجالي يرون أنك تُبالغ كثيرًا أيها الصديق، وهم يرون أن ٥٠٠ جنيه كافية لهذا الغرض.
تظاهر «أحمد» بأنه يُفكِّر بعمق … ثم التفت إلى الشياطين الثلاثة وتحدَّث إليهم باللغة العربية … كانوا بالطبع يفهمون مناورة «أحمد»، ولهذا رفع «عثمان» صوته معترضًا على ضآلة المبلغ … ولكن «أحمد» أخذ يتظاهر بأنه موافق … وبعد لحظات من تمثيليةٍ متقنةٍ بين الشياطين الأربعة، التفت «أحمد» إلى «مون» وقال: من أجل خاطرك أنت أيها الزعيم «مون» سوف نقبل مبلغ ٦٠٠ جنيه؛ فإن هذه الطائرة تُكلِّفنا كثيرًا.
عاد الزعيم يتحدَّث مع رجاله الذين ابتسموا موافقين … بعد أن انتصروا على الشياطين وخفَّضوا المبلغ ٤٠٠ جنيه …
قال «مون»: إن رجالي موافقون … وسيتم تجهيز التمثال في الفجر …
أحمد: ألَا يمكن أن يُجهَّز الآن …
مون: لا … إنه ليس هنا … فسوف يُنقل من جزيرة مجاورة حيث نُخفيه …
لم يكن أمام الشياطين إلا الرضوخ، فقال «أحمد»: إذن فهل يمكن أن نتناول طعامنا أيها الزعيم «مون» ونجد مكانًا للنوم؟ …
مون: بالطبع، بالطبع …
ثم صفَّق «مون» بيدَيه … وسرعان ما ظهر خادم من غرفةٍ في الكوخ الكبير انحنى أمام الزعيم مرتَين … وحدَّثه «مون» بلغتهم … وانصرف الخادم بعد أن انحنى مرتَين أُخريَين …
هبط الظلام … وارتفع صوت الرياح والأمواج … وبعد نحو نصف ساعة جاء الخادم وانحنى مرتَين وأعلن أن الطعام جاهز … وقام الشياطين الأربعة ودخلوا غرفةً جانبيةً ومعهم الزعيم «مون» وبعض الرجال … كان الطعام موضوعًا على مائدةٍ منخفضة لا ترتفع عن الأرض بأكثر من ربع متر فقط … وجلس الرجال حولها على رُكَبهم … وقلَّدهم الشياطين … وكان الطعام كله مصنوعًا من صيد البحر … أسماك وقواقع … وأعشاب … وبعض الأرز. وكان شكل المائدة جميلًا … فقد تناثرت عليها الورود والأزهار … وأشار «مون» بيده فبدأ الجميع يأكلون … كانت بعض أنواع الطعام غير مستساغة الطعم بالنسبة للشياطين، خاصةً أعشاب البحر المطبوخة … ولكنهم إكرامًا لمضيفهم … أقبلوا على الطعام …
انتهى العشاء … وقُدِّم الشاي الأصفر الخفيف … ثم قادهم خادمٌ إلى غرفةٍ واسعةٍ من خشب البامبو بها أربعة أَسِرة … استلقَوا عليها على الفور … كانت رحلةً مجهدةً منذ ليلة أمس، لم يذوقوا فيها طعم النوم …
استغرقوا في النوم فورًا … وكانت العاصفة في الخارج قد اشتدَّت … وأخذت الرياح تُصفِّر خلال خشب «البامبو» … ولكن رغم كل هذا استطاع «قيس» الذي كان ينام في طرف الكوخ أن يستيقظ على صوتٍ غريب … وفتح نصف عين ونظر في ظلام الكوخ المضاء إضاءةً خفيفةً بالقناديل … واستطاع أن يرى «كوجانا» عدوهم اللدود … كان وجه «كوجانا» في ضوء القناديل كوجه شيطانٍ هارب من الجحيم … وقد بدت في عينَيه نظرة ضبع يُريد الانقضاض على فريسته …
ظلَّ «قيس» هادئًا، وظلَّ يُراقب «كوجانا» بعينه نصف المفتوحة … ثم ظهر وجه آخر بجوار وجه «كوجانا» في فتحة الباب … كان أحدَ رجال «كاسينا» … وعرف «قيس» أن العصابة استطاعت أن ترصد مكان الطائرة، وأن تصل إلى جزيرة «لنجا» حيث يختبئون …
أخذ «كوجانا» وزميله يهمسان لحظات، ثم انسحبا … وانتظر «قيس» ثوانٍ أخرى، ثم نزل من فراشه بهدوء كالقط … وخطا بضع خطوات حتى وصل إلى الباب … واستطاع أن يرى في الساحة الواسعة التي جلسوا فيها عند وصولهم مجموعةً من رجال «كاسينا» يتحدَّثون … وكان معهم أحد رجال «مون» … وكان يتحدَّث خائفًا تحت تهديد مسدَّس مصوَّب إلى رأسه … وكان حديثه إشارات بعضها مفهوم …
عاد «قيس» سريعًا إلى الداخل … وأخذ يوقظ الشياطين الثلاثة بخفة شديدة، حتى استطاع أن يوقظهم دون أن يصدر من أيِّ واحدٍ منهم صوت … وقال «عثمان» هامسًا: «كوجانا» ومعه بعض رجال «كاسينا» في الخارج … لقد دخل «كوجانا» إلى الكوخ منذ لحظات … ومن الواضح أنه ينوي قتلنا دون رحمة … ولا أدري لماذا لم يُنفِّذ رغبته ونحن نيام.
عثمان: المشكلة أننا لا نملك أسلحة … فالأسلحة في الطائرة! …
أحمد: انظر يا «قيس» … ماذا يفعل «كوجانا» ومن معه؟
عاد «قيس» ينظر من الباب وتحدَّث هامسًا فقال: إنهم يتجهون إلى الشاطئ الذي هبطنا عليه بالطائرة … ومن الواضح أنهم جعلوا أحد الوطنيين يتكلَّم عن مكانها تحت تهديد السلاح.
عثمان: ألم يتركوا حرسًا؟
قيس: حارسٌ واحد جالس ووجهه إلى باب الكوخ … ومعه مدفع رشَّاش …
أخذ «أحمد» يدور في الكوخ … كان النوافذ الموجودة صغيرةً جدًّا من البوص المجدول … فالكوخ كان أشبه بمعتقل …
قال «عثمان»: سأخرج وأنتهي من هذا الحارس.
خالد: كيف؟
عثمان: إن الظلام كثيف في الخارج … وإذا خلعتُ ثيابي الخارجية فمن الممكن وأنا في لون الظلام أن أزحف على الأرض وأخرج من تحت الباب دون أن يراني.
خالد: وإذا رآك فستموت بطلقةٍ واحدة …
لم يتمالك «عثمان» نفسه من السخرية وقال: أعتقد أن طلقةً واحدةً لا تكفي …
كان يُشير بذلك إلى مغامرة لهم باسم «رصاصة واحدة تكفي» … وقال «خالد»: إنني أقترح ثلاث حركات متصلة … سنقف خلف الباب … وأنت منبطح على الأرض … وسأدفع الباب بيدي بشدة بحيث يُصدر صوتًا عاليًا عندما يرتطم بالجدار، وسوف يلفت هذا نظرَ الحارس … وتتسلَّل أنت …
أحمد: هناك عيبٌ واحد … إن الحارس قد يُطلق الرصاص … وسوف يسمعه بقية الرجال ويعودون فورًا.
خالد: لقد ابتعدوا.
قيس: خطة «عثمان» أفضل … فهناك مسافة واسعة بين الباب والأرض … وأعتقد أن الحارس لن يراه؛ فلا بد أن يتم التغلُّب عليه وتجريده من سلاحه دون ضجة.
أخذ «عثمان» يخلع ثيابه الخارجية … وكانت ملابسه الداخلية لحسن الحظ زرقاء داكنة … وانتهى من خلع ثيابه في ثوانٍ قليلة … ثم انبطح على الأرض وأخذ يزحف من تحت فتحة الباب … وكانت مسافةً ضيقة … واستطاع «عثمان» بمرونته ألَّا يجعل الباب يهتز … وفي ثوانٍ قليلة كان قد خرج وابتلعه الظلام …
اقترب «أحمد» من الباب … وأخذ ينظر … كان الحارس لحسن الحظ يُشعل سيجارةً في هذه اللحظة، ولعل هذه السيجارة هي التي أنقذت حياة «عثمان»؛ فقد غفل الحارس عن مراقبة الباب لثوانٍ قليلة، كانت كافيةً ليخرج «عثمان» …
وقف «أحمد» يرمق الموقف بعين الصقر … كانت حياتهم جميعًا معلَّقة بالشيطان الأسمر «عثمان»، وخطأٌ واحدٌ يكفي للقضاء عليهم جميعًا … وكانت الريح تهز الأشجار بعنف، ولم يستطع «أحمد» أن يرى شيئًا في الظلام … إلا الحارس وسيجارته المشتعلة … والمدفع الرشَّاش اللامع بين يدَيه …
مرَّت دقائق ثقيلة … و«أحمد» يُشير بيده إلى «قيس» و«خالد» أن لا شيء حتى الآن … ودُهش «أحمد» لأن «عثمان» لم يكن ليستغرق كل هذا الوقت من أجل إتمام المهمة … وخشي أن يكون قد حدث له مكروه … وأخذ يُفكِّر في خطةٍ أخرى بديلة … وكانت خطته أن يُشعل النار في الكوخ بأحد القناديل … وعندما ينشغل الحارس بالنار … يمكن مهاجمته … ولكن لم يكن في حاجةٍ إلى تنفيذ الخطة … فقد شاهد الحارس وقد انثنت رأسه إلى الخلف كأنما شدتها قوة غير منظورة … ووجد ساقَيه ويدَيه ترتفعان وتنخفضان كأن آلةً هائلةً تعتصر جسده … وعرف أن «عثمان» يُؤدِّي مهمَّته … فقفز إلى الخارج وتبعه «قيس» و«خالد» … وفي قفزتَين كان يجذب المدفع الرشاش من بين يدَي الحارس، الذي انتهت مقاومته واستسلم للإغماء بين ذراعَي «عثمان» القويتَين … وقال «أحمد»: أسرِع يا «عثمان» لتلبس ملابسك … سنتولَّى نحن بقية المهمة …
أسرع «عثمان» يدخل الكوخ … بينما قام «قيس» و«خالد» بتقييد الحارس، ثم سحْبه خلف الأشجار العالية … وسمعوا في هذه اللحظة أصواتًا تتحدَّث، وعرفوا أن «كوجانا» قد عاد …