«مون» يفي بوعده
اختبأ الشياطين خلف الأشجار … وتركَّزت عيونهم على «عثمان» الذي كان يلبس ثيابه في الكوخ … وكانوا يعرفون أنه من الصعب أن يسمع الأصوات؛ فقد كانت الريح تأتي من اتجاهه … وهكذا في ثانيةٍ واحدة … كان رجال «كوجانا» يظهرون أمام الكوخ … و«عثمان» يخرج منه … ورفعوا مدافعهم … ولم يكن في استطاعة الشياطين أن يفعلوا شيئًا وإلا قُتل «عثمان» على باب الكوخ … فقد كان بعض رجال «كوجانا» يحملون المشاعل ويُنيرون المكان …
تردَّد «عثمان» لحظةً واحدة … كان يُريد العودة إلى الكوخ … ولكن صوت المدافع الرشاشة وهي تتهيَّأ للإطلاق … مع صوت «كوجانا» الخشن وهو يصيح: لا تتحرَّك! … كان كافيًا ليقف «عثمان» مكانه … وتقدَّم منه «كوجانا» وخلفه أحد الرجال المسلَّحين … ثم أزاحه جانبًا ودخل الكوخ وانطلقت صيحة غضبٍ من «كوجانا»، وأخذ يسب ويلعن … ثم خرج وواجه «عثمان» بوجه ممتلئٍ بالغضب وصاح: أين زملاؤك؟!
أجاب «عثمان» على الفور: لا أدري … لقد خرجوا قبلي منذ لحظات.
كوجانا: وأين الحارس؟
عثمان: لا أدري … لعله ذهب معهم.
رفع «كوجانا» يده مُهدِّدًا وهو يقول: سأُقطِّعك إرْبًا إذا لم تدلني على مكانهم … إنني لا أُريد أن أسمع منك كلمة لستُ أدري!
عثمان: أؤكد لكَ أنني لا أعرف … ليس خوفًا من تهديدك … ولكنها الحقيقة.
وقد كانت الحقيقة بلا شك …
صاح «كوجانا» برجل الجزيرة الذي كان معهم مُهدِّدًا … وأخذ يُشير بيدَيه أنه يُريد مقابلة زعيم الجزيرة … وأشار الرجل إلى كوخ منعزل … واندفع «كوجانا» ومعه رجل من أعوانه إلى الكوخ … ولم تمضِ سوى دقائق قليلة حتى ظهر الزعيم «مون» وقد بدت عليه مظاهر الدهشة الشديدة وهو يفرك عينَيه من أثر النوم العميق … وصاح به «كوجانا»: «إنك تتحدَّث الإنجليزية … هكذا فهمتُ من هذا الرجل». وأشار إلى الرجل الذي معهم، فردَّ «مون»: نعم … ماذا تُريد؟
كوجانا: أُريد طائرتي … وأُريد اللصوص الذين سرقوها!
فهم الشياطين الثلاثة … و«عثمان» أيضًا … أن «كوجانا» لم يعثر على الطائرة … ودُهشوا؛ فهي ليست حقيبةً صغيرةً يمكن إخفاؤها … وقد تركوها على الشاطئ … وهذا الرجل الذي معهم يعرف مكانها، فماذا حدث؟!
ردَّ «مون»: من أنتم؟
رفع «كوجانا» يده مهدِّدًا وقال: أنا الذي أسأل فقط! … أين الطائرة؟! …
لوى «مون» شفتَيه وقال: لا أعرف!
زاد هياج «كوجانا» وصاح: سأعرف كيف أجعلك تتحدَّث … إنني أستطيع أن أقتلك كما أقتل ذبابةً بالضبط!
ردَّ «مون» بهدوء: أرجو أن تعرف أن رجالي هنا يزيدون على خمسمائة رجل، وإذا فعلتَ شيئًا لا يُعجبني فلن تخرج أنت وهؤلاء أحياءً من هنا …
كان «كوجانا» جبانًا … فلم يكد يسمع هذا التهديد حتى هدأت ثورته وقال: أرجو ألَّا أكون قد أغضبتُك يا سيدي … المهم أننا نُريد القبض على لصوص الطائرة وأخذهم معنا.
نظر «مون» إلى «عثمان» وعرف أنهم ليسوا لصوصًا … فقد كانت نظرة «عثمان» إليه تعني تكذيب ما يقوله «كوجانا» … فقال «مون»: إذن ننتظر للصباح.
كوجانا: ولماذا الصباح؟!
مون: لأنني لا أستطيع معرفة مكان الطائرة في هذا الظلام … وأنت تبحث عن اللصوص أيضًا كما تقول … فكيف نعثر عليهم في الجبال وفي العاصفة … وفي الظلام؟!
لم يكن أمام «كوجانا» ما يفعله فقال: إننا رهن إشارتك يا سيدي.
مون: إذن تفضلوا بالنوم الآن … وفي الصباح سيتم كل شيء.
كوجانا: سنأخذ هذا اللص … مُشيرًا إلى «عثمان» معنا.
مون: سأضعه في سجن الجزيرة … فهذا أضمن حتى لا يهرب منكم.
وأشار «مون» إلى الكوخ الذي كان ينام فيه الشياطين الأربعة، فدخل «كوجانا» ورجاله … ونظر «مون» إلى «عثمان» وابتسم، وابتسم الشياطين في مخبئهم … لقد أثبت «مون» أنه ممثِّل بارع … وتحرَّك ومعه «عثمان» في اتجاه الشياطين الثلاثة، حيث كن ثمة طريق جانبي بين الأشجار … وما كاد يقترب من حيث اختبأ الشياطين حتى قال: في إمكانكم أن تخرجوا.
ذُهل الشياطين الثلاثة … ولكنهم خرجوا، وقال «مون» وهو يغمز بعينَيه: إنني أشم رائحة الناس أيها الأصدقاء الشبان …
أحمد: وأين الطائرة؟
مون: معذرةً لأنني شككتُ في أمانتكم … فقد توقَّعت أن تخرجوا ليلًا … وتأخذوا الطائرة وتهربوا … لهذا فقد طلبت من رجالي أن يُخفوها خلف غابةٍ صغيرة هنا … وقد فعلوا ما أمرتُ به.
أحمد: إنك رجل شديد الذكاء أيها الزعيم «مون» …
مون: إنني لستُ من سكَّان هذه الجزيرة … وأنتَ تُلاحظ الفارق بيني وبينهم؛ فقد غرقتْ سفينتي يومًا قُرب هذه الجزيرة … فأتيتُ إليها سابحًا … وبالصدفة … البحتة، استطعتُ اصطياد سمكة قرشٍ زرقاء، وهم يظنون أن من يصطاد سمكةً من هذا النوع النادر، فمعنى ذلك أن الآلهة تلحظه بعنايتها!
أحمد: سمكة قرش زرقاء!
مون: نعم؛ فهي سمكة نادرة لا تظهر إلا كل عشر أو عشرين سنة!
كانوا يسيرون في دروب الغابة عندما قال «أحمد»: لقد شاهدنا سمكة قرش زرقاء أيها الزعيم «مون» أمس!
توقَّف «مون» عن السير وقال: أين؟!
أحمد: قريبًا من شواطئكم …
مون: هل أنتَ جاد؟!
أحمد: بالطبع … وسَل أصدقائي …
قال «قيس» و«خالد» و«عثمان»: نعم … هذا صحيح.
أحمد: أكثر من هذا … لقد هاجمتني هذه السمكة وهي من النوع الضخم، فوضعتُ بندقيتي في فمها.
مون: معنى ذلك أنها ستموت وقد تظهر في أية لحظة!
أحمد: أعتقد هذا!
مون: لو اصطدنا هذه السمكة … فإن قيمتي سوف ترتفع في نظر هؤلاء الناس.
أحمد: في إمكاننا أن نُساعدك بتحديد المكان الذي ظهرت فيه السمكة.
مون: عظيم … في الفجر سوف نذهب لصيدها …
أحمد: ولكن هؤلاء الرجال أيها الزعيم «مون» يُريدون قتلنا …
قال «مون» باستهزاء: هل يظن هذا الثور الكبير أنه يُهوِّشنا بحديثه وبالآلات التي معه … إن شيئًا صغيرًا جدًّا سيجعلنا نتغلَّب عليه.
أحمد: ما هو هذا الشيء الصغير أيها الزعيم؟
مون: كمية قليلة من المخدِّر سوف توضع في نيران القناديل … وسوف ينامون حتى نُلقي بهم في البحر.
ابتسم «أحمد» لهذا الخاطر … وظلوا يسيرون حتى وصلوا إلى قرب الشاطئ، ثم انحرفوا يسارًا ودخلوا في ممر من الشجر والأعشاب … ووصلوا إلى ساحة واسعة ظهرت فيها الطائرة الهليكوبتر … وبعد قليلٍ ظهرت مجموعة من الرجال قادمين من ناحية البحر وهم يحملون لُفافةً كبيرةً على محفةٍ من أغصان الشجر …
قال «مون»: هذا هو التمثال.
ونظر «أحمد» إلى ساعته على ضوء المشاعل … كانت قد أشرفت على الرابعة صباحًا … وظهرت تباشير الفجر في الأُفق … قال «مون»: افتحوا الطائرة … قفز «خالد» إلى الطائرة وفتح الباب … ثم ساعد الرجال في وضع التمثال فوق كومةٍ من الأعشاب في الامتداد الخلفي للطائرة … وتمنَّى «أحمد» في هذه اللحظة أن يقفز إلى الطائرة ويذهب بعيدًا … وقد كان يستطيع هذا؛ ﻓ «خالد» في الطائرة يستطيع أن يُسيطر على الساحة التي يقفون فيها … وهو يحمل مدفعًا رشاشًا … ولكن موقف «مون» الشريف منهم … وعدم خضوعه لتهديد «كوجانا»، وأمله في اصطياد سمكة القرش الزرقاء … كل ذلك دفع «أحمد» إلى الانتظار حتى يرى كيف تنتهي هذه المغامرة الغريبة …
قال «مون»: الآن سنخرج لاصطياد السمكة … إن هذا أفضل موعدٍ لصيد سمك القرش … فهو يُصاب بالجوع في هذه الساعة ويظهر بكثرة …
أحمد: هيا بنا … إننا يجب أن نُسافر في وقتٍ مبكِّر …
مون: سوف أقول لكم أين ومتى تُسلِّمون التمثال … وأنتم تعرفون بالطبع أنه لا يُقدَّر بثمن.
أحمد: بالمناسبة أيها الزعيم … ألن تحكي لنا كيف حصلتم على هذا التمثال؟
ابتسم «مون» وقال: هذا من أسرار عملنا.
تحدَّث «مون» إلى رجاله باللغة الغريبة التي يتحدَّثون بها … فأخذوا يجرون هنا وهناك وقد دبَّ فيهم إحساسٌ مفاجئ … وعرف الشياطين أن «مون» حدَّثهم عن سمكة القرش الزرقاء المقدسة …
بعد نحو ساعةٍ كان الشياطين الأربعة يتناولون الشاي وبعض قطع العيش الساخن المغطَّى بالزبدة … وكانت مجموعة من القوارب الخشبية السريعة قد أُعدَّت على الشاطئ ومعها بعض الحراب …
قال «مون»: هيا بنا.
أحمد: والرجال النائمون في الكوخ؟!
مون: لقد أرسلتُ أحد رجالي فخدَّرهم جميعًا ولن يستيقظوا قبل الظهر.
أحمد: ومع ذلك أرجو أن تُوافق على أن أترك أحد أصدقائي للحراسة …
فكَّر «مون» لحظات، ثم قال: لا بأس.
وقفز الجميع إلى القوارب وقد بدأت أشعة الشمس تتسلَّل إلى الأُفق الاستوائي، وقد هدأت العاصفة … وأصبح المحيط الهادئ كأنه حصيرة لا أثر لموجٍ فيها … وبدأت رحلة الصيد … رحلة لا أحد يعرف مصيرها … فقد يصطادون سمكة القرش الزرقاء المقدسة … وقد تقتلهم سمكة القرش … أو غيرها من سمك القرش المخيف في هذه الحياة العميقة … كان «أحمد» يُفكِّر في كل هذا ولكن لم يكن له أن يختار … لقد وعد الزعيم «مون» وعليه أن يفي بوعده …