ولكنها … مغامرة أخرى
لو لم يكن الشياطين الثلاثة يُدركون جيدًا أنهم في مغامرةٍ خطيرة … وأن حياتهم معلَّقة بخيط رفيع؛ لكان هذا الفجر من أجمل المشاهد التي مرَّت بهم … فقد كان المحيط هادئًا … والشمس قد بزغت في جانب الأفق … والقوارب الصغيرة تشق طريقها وسط المياه … والرجال يُجدِّفون بمهارة، وقد جلس كلٌّ من «أحمد» مع الزعيم «مون» في قارب … و«عثمان» و«قيس» وأحد الوطنيين في قاربٍ آخر … وكان هناك ثلاثة قوارب أخرى في رحلة الصيد العجيبة …
مضت القوارب تنزلق على سطح المياه … والعيون كلها تبحث عن سمكة القرش الزرقاء …
كان «أحمد» يُحس أنه أبله، بل شديد البله! … كيف يُفكِّر في البحث عن سمكةٍ واحدة في المحيط؟! … إن هذا البحث قد يستمر أيامًا … وقد يستمر أسابيع وشهورًا … وتذكَّر قصة الكاتب الأمريكي الشهير «ميلفيل» … قصة «موبي ديك»، وتدور حوادثها حول صيَّاد يُريد أن يصطاد حوتًا أبيض كان قد أصابه بضربةٍ من ذيله فشوَّه وجهه … لقد استمرَّت المعركة بين الرجل والحوت شهورًا طويلة …
اقتربت القوارب من المنطقة التي أشار «أحمد» إليها … كان يتصوَّر أن سمكة القرش عندما ابتلعت البندقية قد مزَّقت أحشاءها … وأنها مهما عاشت فلن تستمر طويلًا … وسوف تطفو على سطح المياه … فهل يحدث هذا؟
مضت الساعات … وأخذت نبال الصيادين تصيب أسماك القرش الكثيرة التي أخذت تتجمَّع وتتفرَّق بينهم … ولكن سمكة القرش الزرقاء لم تظهر مطلقًا … وجاء وقت الظهيرة … وقال «مون»: سنعود الآن … وسنخرج مرةً أخرى في المساء.
قال «أحمد»: ألَا تُحاولون صيدها أنتم ونذهب نحن بالطائرة لتسليم التمثال؟!
هزَّ «مون» رأسه وقال: إن سمكة القرش لن تظهر إلا لك أنت!
أحمد: إنك بالطبع تعلم أيها الزعيم «مون» أن ذلك ليس صحيحًا؛ فهذه السمكة ليست صديقتي وحدي ولا عدوتي وحدي!
مون: إن سكَّان هذه الجزيرة عندهم مقدَّسات لا يمكن تجاهلها، وهم يقولون إن سمكة القرش الزرقاء تتبع رجلًا واحدًا فقط!
سكت «أحمد» وهو يشعر بضيق شديد … إن رقم «صفر» الآن يبحث عنهم في كل أنحاء العالم … فقد انقطعت أخبارهم عنه منذ مدة طويلة … ولا يمكن أن يتصوَّر أنهم الآن في رحلةٍ بعيدة … وهم لا يستطيعون الاتصال به.
فجأةً حدث ما لم يكن في الحسبان … انشق الماء عن سمكة القرش الزرقاء، وظهرت كأنها جبل قد ظهر من قاع المحيط … وصاح «مون»: إنها هي!
ولكن قبل أن يتمكَّن أحدهما من عمل شيء كانت السمكة قد صدمت القارب الصغير برأسها صدمةً رهيبةً قلبت القارب … ووجد «أحمد» نفسه بجوار السمكة … وكان بطنها ينزف دمًا … وفي عينَيها الكبيرة المتحجِّرة نظرة مميتة … كان واضحًا أنها في الرمق الأخير … وأنها جاءت لتنتقم؟
استدارت السمكة، وفتحت فمها الضخم لتقضم «أحمد» قضمةً تقضي عليه، ودار الشيطان في الماء، وانحرف يسارها، ثم نزل تحت بطنها … ووجد البندقية قد ثقبت جدار البطن، ودُهش كيف استطاعت السمكة أن تتحمَّل هذا الجرح الكبير؟!
دار الصراع بين السمكة وبين «أحمد»؛ هي تُريد أن تتمكَّن من قضمه … وهو يُحاول الفرار … وكانت بقية القوارب قد توقَّفت ودارت وأحاطت بساحة المعركة، واقترب «عثمان» بقاربه … واقترب «قيس» بقاربه … ثم قفز الاثنان إلى الماء … وشقَّ «قيس» طريقه إلى السمكة وفي يده خنجر ضخم … وفي نفس الوقت قذف أحد الواقفين بخنجره المقوَّس إلى «أحمد» الذي التقطه … وانتقل «أحمد» من الدفاع إلى الهجوم وهو يُشاهد زميلَيه يُحيطان بالسمكة … وغاص «أحمد» تحتها، ثم أغمد خنجره في فتحة الجرح … وازداد تدفُّق الدم، وثارت السمكة ثورةً عنيفة، وأخذت تتقلَّب يسارًا ويمينًا، ولكن كان من الواضح أنها فقدت قواها ونزفت حتى الرمق الأخير.
كان «أحمد» بجوار عينها اليمنى، وكاد يُغمد خنجره فيها، ولكن نظرةً من العين الساكنة كانت كافيةً ليرد يده … كانت نظرةً تقول له: لقد انتصرتَ وهذا يكفي!
وفي الدقائق التالية كانت السمكة الضخمة قد استلقت على ظهرها وأحاط بها رجال «مون» كالنمل … وسرعان ما كانت عشرات الحبال تربط السمكة إلى قاربَين أخذا يشدانها ناحية الشاطئ.
كان الزعيم «مون» شديد السعادة؛ فسوف ترتفع قيمته في نظر شعبه الصغير بعد اصطياد السمكة الثانية الزرقاء مدة حكمه السعيد لجزيرة «لنجا» … وكان الوطنيون في القوارب المرافقة لهم يغنون الأناشيد … وعندما اقتربوا من الشاطئ كان مئات من سُكَّان الجزيرة قد أعدُّوا استقبالًا حافلًا … وعلَّقوا على رقبة الزعيم والضيوف الثلاثة أطواق الزهور والورود.
قفز الشياطين الثلاثة إلى الشاطئ، وأخذ الوطنيون يسحبون سمكة القرش الزرقاء وهم يُغنون … كانت سمكةً ضخمةً حقًّا … وكانت البندقية تبرز من جانبها الأيمن … وتقدَّم الزعيم «مون» ووقف بجوار رأس السمكة وأخذ يتلو صلاةً قصيرة … وتجمَّع الناس من كل مكان.
كان ذهن «أحمد» يعمل بسرعة: يجب أن ينطلقوا قبل أن يستيقظ «كوجانا» ورجاله … صحيح أن «مون» ورجاله معهم، ولكن من الذي يستطيع أن يحسب النتائج لهذا؛ فإن «أحمد» انتظر حتى انتهى «مون» من صلاته … وخلفه شعب جزيرة «لنجا» يُصلِّي … ثم تقدَّم منه قائلًا: أيها الزعيم «مون»، إننا سعداء أن قدَّمنا لكَ هذه الخدمة البسيطة … والآن أرجو أن تسمح لنا بالسفر.
قال «مون»: إن شعبي يُريد أن يحتفل بكم.
أحمد: أرجو أن يتم هذا الاحتفال في وقتٍ آخر … سوف نعود إليكم، أليس بيننا اتفاق بتسليم التمثال والعودة لأخذ النقود؟
مون: نعم … هذا صحيح، وسأُعطيك عنوان المكان الذي ستُسلِّم فيه التمثال.
ودخلا معًا إلى كوخٍ صغير … وأخرج «مون» من طيات ثيابه خريطةً قديمةً لجنوب شرق آسيا، ثم أشار إلى جزيرة «بورينو»، ووضع إصبعه على جزيرةٍ صغيرةٍ في طرفها الغربي وقال: هذه هي جزيرة «ماجا». إنها جزيرة مهجورة لا يسكنها أحد … ولكن رجال حزب «الميجي» الذين يُناهضون الحكم في اليابان، ويُحاولون إعادة حكم سلالة الإمبراطور «ميجي» في انتظارك هناك. إن حصولهم على تمثال «كانون» الواقف ذي الأحد عشر وجهًا سوف يدعم موقفهم.
أحمد: هل نطلب منهم شيئًا مقابل التمثال؟
مون: لا … إن أحد رجالنا هناك، وسوف يتسلَّم مستحقاتنا بمجرَّد تسليم التمثال، وسوف تعودون لأخذ أجركم عن العملية.
أسرع الشياطين الثلاثة إلى الطائرة … كان «خالد» يجلس بجوارها وقد أحسَّ بالملل لطول الوقت الذي استغرقه الشياطين في رحلة الصيد … وقال «أحمد» ضاحكًا: لا تُقابلنا بهذا الوجه المتجهِّم … سوف نرحل فورًا.
وأحاط رجال «مون» بالطائرة التي قفز إليها الشياطين الأربعة، وأدار «خالد» المحرِّكات … وارتفعت الأيدي بالتحية، ثم أخذت الطائرة تتحرَّك صاعدة، وفي هذه اللحظة شاهد الجميع «كوجانا» ورجاله قادمين.
كانوا يحملون أسلحتهم، وقد وجَّهوا فُوَّهات مدافعهم الرشاشة إلى الطائرة، وأخذ «كوجانا» يصيح في جنون … وصاح «أحمد»: هيا يا «خالد»!
وارتفع «خالد» بالطائرة في الجو … واندفع بها إلى البحر في نفس الوقت الذي أطلق فيه رجال «كوجانا» النيران … ولكن الطائرة أخذت تبتعد حتى تجاوزت مدى إطلاق المدافع … وسرعان ما أخذت جزيرة «لنجا» تغيب عن عيون الشياطين الأربعة، وبدأت مغامرة أخرى.