الداعي إلى هذا التأليف

لما قرَّر المجمع العلمي العربي انتدابي إلى تمثيله في مؤتمر المشرقيات الذي عُقد في مدينة ليدن من بلاد القاع في صيف سنة ١٩٣١م، رغَّب إليَّ أعضاؤه المفكرون أن ألقي فيه جملةً أعرض فيها لما لا يزال يسري على أسلات أقلام بعض مؤلفي الغرب، ولا سيما علماء المشرقيات، من أمور نابية عن حدِّ التحقيق والنصفة، كلما ذكروا الإسلام وأهله، والعرب ومدنيتهم.

وفي الحق إن المعارف استفاضت في هذا العصر، حتى لم يبقَ مجهول إلا علم، ولا بعيد إلا اقترب، ولا صعب إلا سهل، وقد نُقل إلى لغات الغرب من طرق مأمونة منوَّعة عشرات من الأسفار في مدنية العرب، المَدِينة للإسلام بحسناتها وانبعاثها، فتجلى بها ما كان غامضًا على أهل المدنية الحديثة، فليس من الإنصاف إذًا أن يظل بعض من تأثروا بالمؤثرات القديمة على الاستمداد من عصور الظلمات، يُطَرسون على آثار من كتبوا من رجال الدين، وهؤلاء ما كان لهم من مصلحة غير تصوير الإسلام في صور باهتة، وإنكار فضل العرب في إنشاء مدنية كانت على الجملة من أعظم ما قام في الأرض منذ عُرف تاريخها.

وإن فئة تمثلت أساليب هذا العصر في البحث والحل، ولم تتحرر إلى اليوم من سلطان العوامل الجنسية والدينية والسياسية، لمؤاخذة كل المؤَاخذة بأحكامها الجائرة على الإسلام والمسلمين، بيد أن الإعجاب بطرائق أولئك الباحثين لا يمنع من مناقشتهم في آراء لهم غير سديدة، قال بها من قالوا ذهابًا مع أهواء النفس الكثيرة، وسبيل هذا الموجز الآن، تصحيح هفوات من أساءوا وما برحوا يسيئون للعرب ودينهم ورسولهم ومدنيتهم، وذكر ما أثرته الحضارة العربية في أمم الغرب والشرق، وما مُني به الإسلام، لما غير أهله ما بأنفسهم، من خصماء غير رحماء، نالوا من روحه وجسمه، فالتاثت أحواله، وتنكرت معالمه، والإلماع إلى ما قام به المسلمون بعد طول الهجعة، يلوبون على استعادة مجد أضاعوه، وعلقوا اليوم يقطعون إليه أشواطًا، حتى لم يبقَ أمامهم غير مراحل قليلة لبلوغ الغاية.

والرجاء في هذه الصفحات أن تنفع في باب اعتبار الأحفاد بذكرى صنيع الأجداد، وأن تنتصف بها حضارتنا ممن ثلموها وما رحموها، والعمدة في وضعها على ما أطال حكماء العلماء من الإفرنج في بسطه، وفي وصف ماضي الأمة العربية على مقتضبات من أمهات أسفارها المحررة، والمنهاج فيها إطلاق حرية التفكير والتقرير، والتقية ليس مذهبًا مجديًا في زمن لم يعرف البشر حرية كحريته، ولا علمًا أعظم من علم أهله، ولا عقولًا صفت كعقولهم، ولا طبقات رشيدة تعلمت حسن الاستماع على غرار طبقاتهم.

وأسأله تعالى أن يحل عقدة من لساني وقلمي؛ لأجمل ما توفرت من قراب أربعين سنة على الدعوة إلى الأخذ به، من حسنات الحضارتين العربية والغربية، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

محمد كرد علي
دمشق، في: ١٩ جمادى الثانية سنة ١٣٥٢
٨  أكتوبر سنة ١٩٣٣

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤