المخالفون ودواعي الخلاف

إنصاف الإسلام والعرب

أخذ أبناء الغرب يتمتعون بعد القرن السابع عشر بحرية الفكر والوجدان، فنشأت فيه طائفة من العلماء تم لها معظم أدوات الفضل، وقد راعها ما شاهدت وحققت، فردت أقوال من ظلموا العرب والإسلام، متوخية كشف القناع عن وجه الصواب الذي غشيته الغواشي١ في الدهر الغابر، ومن أبناء الغرب المعتدلين من استهدفوا للطعن؛ لأنهم لم يمالئوا الكاتبين الأولين على ما كتبوه، وخرجوا عن المألوف فأنصفوا المخالف، ولم يثنهم عن عزيمتهم نقد ناقد، ولا طعن طاعن، وراحوا يهزءون بمن اتهموهم ظلمًا بأمانتهم، ويصدعون بالحق الذي تبين لهم.

ولذلك وجب على أصحاب هذه المدنية، وهذه الدعوة الإسلامية، أن يشكروا لأولئك المنصفين، وأن لا يغرقوا باللائمة على من ينظرون إلى أشياء غيرهم، بغير العين التي يبصرون بها أشياءهم، فمن الظواهر الاجتماعية هنا، ما نرى له ما يماثله في المجتمع الغربي، كُسيت هناك ثوبًا جميلًا بفعل الحضارة الممتدة الرواق، وبقيت هنا على سذاجتها للتأخر الطارئ من تراجع المدنية، والقوى قد تبدو سيئاته فيُخيل لقصار النظر أنها حسنات، أو يفسر معاني غيره تفسيرًا يظنه ضعاف النظر آيات بينات، والضعيف مهما أحسن مغمور مدحور، وربما قُلبت حسناته سيئات، والعالم على الدهر عبد القوة القاهرة.

وما دامت المعضلة معضلة تخالف في عقيدة، وتخالف في تربية وعادة، وتخالف في عنصر وبيئة، فمن الواجب علينا أن نساد ونقارب حتى تفعل الأيام فعلها: نعذر المنابذ المعتدل، إذا كان ممن يؤمن بما يقول، ونشكر للموافق العادل الذي يصدر رأيه عن عقيدة واقتناع، وعلينا أن لا ننسى أيضًا أن مجتمعنا ما كان في الحقيقة في عامة أدواره وأطواره فائضًا بالعدل والتسامح، فقد عهدنا طوائف بالغت في الحط من المخالف لأفكارها، فحاربته بكل سلاح تحت كل كوكب، فأضعفت بعملها العقل، وقضت على الحضارة بأن وضعت العقبات في محجتها.

نحن اليوم قد نستفيد من سماع أقوال المخالف، ومنازع الصريح في نقده قد تقوم المعوج وتصلح الفاسد، لا جرم أن من المسائل ما يصعب تمييز بهرجه من صحيحه، إلا بمعاناة طويلة، وأناة وروية، ورفق جميل، وقد يكون منشأ التعقيد على الأغلب من الواضع الأول، إما لسوء فهم، ومشايعة وهم، أو لتعمد في إفساد حكم، بعلم وبغير علم، فيتسرب الضعف إلى العقول، ويتأصل فيها بمرور الأيام، والضلالة إذا رسخت احتاجت إلى جهود طويلة حتى تُنزع من الأذهان، والحق إذا اختلط بالباطل وامتزج باللحم والدم استلزم التفريق بينهما معالجة طويلة، وهذا ما يصدق على تاريخ الإسلام، وحكم بعض الغربيين عليه منذ القديم، فإن الخطأ فيه عندهم عمدًا أو عن غير عمد، قد أتت عليه القرون حتى انتفى، وظهرت بين ظهرانيهم حقيقته على جليتها، ولذلك يحمد قصد من أنصفوا في أحكامهم علينا، والعدل من القريب حلو ومن البعيد أحلى، ومن خالفنا في مسألة ووافقنا في مسائل كان أقرب للتقوى.

العوامل في جفاء الغربيين

وهناك عقدة مدنية وعقدة دينية، إذا سهل الخطب في الأولى عسر في الثانية؛ لأنها صعبة المراس، متعذرة على الانتزاع، مهما جهدت بكل جهدك، وجمعت كل عقلك، وحكم الغرب على العرب منبعث في الأصل من تباين في المعتقدات، والمعتقدات وليدة التسليم والاستهواء والعادات، ومن الصعب استئصال ما تأصل في النفوس بمرور الأيام؛ لأن العناد في الاعتقاد، فطرة لا تبغي عنها النفوس البشرية حِوَلًا، والعاقل من أنصف غيره من نفسه.

وأهم أسباب الجفاء بين الغربيين والشرقيين في القرون الأولى من الهجرة؛ كون الإسلام جاء لهداية البشر كافة، فأتى على الوثنية في البلاد التي انتشر سلطانه فيها، ودخل فيه من الصابئة واليعاقبة والنساطرة والمجوس واليهود وغيرهم جمهور كبير، وخافت أوروبا النصرانية من تسربه إلى ربوعها، فاتفقت كلمة الملوك ورجال الدين على حربه، حتى وقفت دعوته عند جزيرتي الأندلس وصقلية وما إليهما من أرض الفرنجة، ثم نشأت الحروب الصليبية ودامت قرنين كاملين، يجيش فيهما الغرب على الشام ومصر، حتى كُتبت الغلبة الأخيرة للإسلام في أرض الشام.

وبديهي بعد هذه الطوائل والأحقاد التي طالت لياليها السود — خصوصًا بعد أن هزَّت الدولة العثمانية في العصور الأخيرة أعصاب أوروبا زمنًا، حتى دب الهرم فيها — أن يقول الخصم في خصمه ما قد يحط من قدره، ويصغر من أمره، ولا يفوتنا النظر أن الجهل كان فاشيًا في الغرب، وأن الدين كان آخذًا بمخنق٢ كل عالم وباحث، وأن آراء المؤرخين حتى في العهد الحديث تختلف في الجوهر والعرض أحيانًا في الحادثة الواحدة؛ لأن من مظاهر هذا العصر اشتداد سلطان التحزب القومي، إلى ما لم يصل إليه في عصر من عصور التاريخ.
ولما انبلج فجر الأدوار الأخيرة من القرون الوسطى، وجاء دور النهضة والانتباه في الغرب، أنشأ المشتغلون بتلمس الحقائق يخففون من شِرتهم على العرب، ويقللون من النيل من دينهم ومدنيتهم، وزادت معرفة الغرب للإسلام، يوم أنشأت بعض جامعات الغرب دروسًا لتعليم اللغات الإسلامية، وفي مقدمتها اللغة العربية، وذلك للدعوة إلى النصرانية في الشرق، ثم انقلب الغرض إلى درس الحضارة العربية والإسلام، من طريق العقل والنظر، وكان من مجموع هذه الأبحاث بأَخرَة،٣ استبطان أحوال الإسلام ودياره، لغرض الفتح والتجارة.
يقول قاسم أمين:٤ إن العداوة القديمة التي استمرت أجيالًا بين أهل الشرق والغرب بسبب اختلاف الدين، كانت ولا تزال إلى الآن سببًا في أن جهل بعضهم أحوال بعض، وأساء كل منهم الظن بالآخر، وأثرت في عقولهم حتى جعلتها تتصور الأشياء على غير حقيقتها؛ إذ لا شيء يبعد الإنسان عن الحقيقة أكثر من أن يكون عند النظر إليها تحت سلطان شهوة من الشهوات؛ لأنه إن كان مخلصًا في بحثه، محبًّا للوقوف على الحقيقة، وهو ما يندر وجوده، فلا بدَّ أن تهوِّش عليه شهوته في حكمه، وأدنى آثارها أن تزين له ما يوافقها وتستميله إليه، وإن كان من الذين لا منزلة للحق من نفوسهم، وهم السواد الأعظم، ضربوا دون الحق أستارًا من الأكاذيب والأوهام والأضاليل، مما تسوِّله لهم شهوتهم، حتى لا يبقى لشعاع من أشعة الحق منفذ إلى القلوب.٥

صعوبة درس التاريخ

وليس البحث في تاريخ بلد واحد بالأمر السهل، على من كُتب له حظ من البحث والنظر، فما بالك بتاريخ أمة عظيمة تباعدت أرجاء بلادها كالأمة العربية؛ ولذلك رأينا الغربيين لما بلغ العلم هذه الدرجة العالية من الارتقاء والتشعب، يقسمون التاريخ أقسامًا كثيرة، فمن بحث منهم في تاريخ قرن أو قرون من تاريخ أمة، لا يتطال إلى البحث في دور آخر من أدوارها، أو من خاض في تاريخ إقليم أو بلد يُحظر عليه، أو يحظر على نفسه الخوض في تاريخ إقليم أو بلد آخر، ومن اختص بجانب من تاريخ الرومان، يتعذر عليه معالجة التاريخ الحديث، ومن تاقت نفسه أن يتناول في أبحاثه النظر في حال أمة من أمم الشرق، لا يجود تأليفًا له في تاريخ الغرب؛ ولذلك تقل قيمة سفر يؤلفه واحد على الأغلب، إن كان متشعب المقاصد، فكتب المَعْلَمَات أو دوائر المعارف ينشئها مئات، وأحيانًا ألوف من العلماء عندهم، وكتب التاريخ والجغرافيا والآداب يؤلفها عشرات من المؤرخين والأدباء والجغرافيين، وربما لا تكتفي أمة بما عندها من الرجال فتستعين برجال من غير أمتها، تلاحظ أنهم أرقى كعبًا.

إذًا فالتاريخ اليوم صعب المراس لتنوُّع أغراضه، فكيف يعتمد على من يقرأ بضعة كتب في تاريخ العرب، ويحكم على أهله ومدنيتهم، ألا يعدُّ من كان هذا شأنه من كتاب العامة؛ لقلة بضاعته، فما الحال بما يصدره من الآراء، وهو على رأي له قديم اصطنعه، وما استطاع أن يتحلل من قيوده، وهذا فيما نرى ما دعا «رنان» أن يقول: إن التاريخ مجموعة ظنون أو علم صغير سداه ولحمته من الفرضيات البعيدة، وقالوا: كل امرئ يحاول أن يدمج في التاريخ أفكاره من طرف خفي، وأن يتصور الحقيقة ويخلقها؛ وذلك لقلة الوثائق التي تثبت على محك النظر، ويحاول المؤرخون أبدًا أن يحيوا نظريات قائمة على نظريات أخرى، ويدخلوا إلى روح أشخاص يجهلون مزاجهم، وما ورثوه من تربية وأفكار؛ ولذلك يصعب جدًّا كتابة تاريخ عصر أو رجل، وما زال البشر منذ عهد «توسيديد» و«هيرودتس» يحاولون كتابة التاريخ، وقلما وصلوا إلى الحقائق؛ لقلة معرفتهم باكتناهها، ويحاولون شرح الحوادث ومعرفتها وحفظها؛ ليدخلوا شيئًا ضئيلًا كالخيال من العناصر التي تركها العالم في ماضيه السحيق، وكان «تاسيت» يحاول أن يضع نفسه فوق الحوادث وأن يحكم عليها، ويحاول «مونتسكيو» و«هردر» أن يستخرجا من نصوص التاريخ فلسفة، وحاول «رنان» أن يوفق بين الحوادث، ويكشف أسرارها الممكنة الظهور، وأن يورد وقائعها ملموسة ذات وحدة، ولكل مؤرخ طريقته. يقول كارلايل: إن التاريخ مجموعة إشاعات، وفولتير يقول: إنه مجموعة أساطير قبلها الضعفاء.

وقال لبون:٦ «منذ القديم كان الإنصاف في التاريخ صفة جوهرية في المؤرخ، ويؤكد عامة المؤرخين منذ عهد تاسيت خلوهم من الغرض، وتجرُّدهم عن الهوى، وحقًّا إن الكاتب يرى الحوادث، كما يرى المصوِّر منظرًا من المناظر، بحسب مزاجه وخلقه وروح عنصره، وإذا جئت تضع عدة مصوِّرين أمام منظر واحد، فإنك ترى كل فرد منهم يعبر عنه بالضرورة تعبيرًا يخالف فيه صاحبه، ومنهم من يعني بتفاصيل أهملها غيره، وعلى هذا تأتي كل نسخة صورة خاصة لمصوِّرها، بمعنى أنها تمثل شكلًا خاصًّا من التأثير، وهكذا الحال في الكاتب، فلذلك تعذر على المؤرخ أن يقول الإنصاف كله، كما يتعذر ذلك على المصوِّر. لا جرم أن للمؤرخ أن يأتي بالوثائق كما هو العرف اليوم، ولكن هذه الوثائق إذا طال عهدها عن عهدنا كالثورة الفرنسية مثلًا؛ إذ قد بلغ من اتساعها أن حياة رجل لا تكفي للإحاطة بها، وجب الاختصار على لباب ما فيها، وقد يبلغ بالمؤلف عن عمد أو غير عمد، أن يختار المواد التي توافق أهواءه السياسية والدينية والأخلاقية؛ ولذلك تعذر تأليف كتاب في التاريخ بلغ من الإنصاف مداه، اللهم إلا إذا اقتُصر فيه على إيراد الحادثة في سطر واحد وفي زمن واحد، وليس هذا في طاقة مؤلف، ولا يؤسف لعدم اقتدار المؤلفين عليه، وقد بلغ من انتشار دعوى عدم التحزب في التاريخ اليوم، أن ظهرت للناس آثار تافهة تورث مللًا وأي ملل، بحيث يتعذر بالرجوع إليها فهم تاريخ عصر من العصور.» ا.ﻫ.
وقيل: إن التاريخ٧ رواية يخترعها كل كاتب من توليد خياله، وينتحل لها الأسماء والأعلام، من سير الناس وحوادث الأيام، وكلما اتفق المؤرخون على رواية مسطورة كان ذلك أدعى إلى الشك فيها، والتردد في قبولها؛ لأنه دليل على الأخذ بالسماع والتسليم بغير مناقشة، فأما إذا اختلفوا واضطربت أقوالهم بين الثناء والمذمة والترجيح والتضعيف، فأنت إذًا حيال التاريخ في بابل من الفروض والآراء، ومضلة من الحقائق والشكوك، ويحتاج المؤرخ إلى كل ما يحتاج إليه القاضي من الشهادات والأسانيد والبينات، وقد ينقصه كل أولئك في أكثر الحوادث التي يتصدَّى لها بالبحث والتقرير، فكل حادثة تاريخية قوامها الأشخاص والأخبار والمصالح والآراء، ولكل عنصر من العناصر آفة تتطرق إليه بالزغل والارتياب، فالأشخاص يحيط بهم الحب والبغض، والرغبة والرهبة، والظهور والخفاء، والأخبار يعتورها الصدق والكذب، والفهم والجهل، والوضوح والغموض، والمصالح تتفق ولا تتفق، وتجاري الحقيقة وتناقضها، وتصبغ الأشياء عامدة أو غير عامدة، بصبغة تلوح لهذا غير ما تلوح لذاك، والرأي عرضة لاختلاف العلم والنظر والمزاج، وكل ما يدخل في تكوين الآراء وتقدير الأحكام، وإذا تأتى للمؤرخ أسباب الحكم على الأعمال الظاهرة، فقد تعوزه أسباب الحكم على النيات الخفية، والبواعث المستورة، والعوامل التي يحجبها الإنسان عن خلده، ويغالط فيها ضميره، وهبه تأتى له كل ما يتأتى للقاضي من الشهادات والأسانيد والبينات، فهل يسلم القاضي من الزلل؟ وهل يأمن الزيغ في الفهم، والمحاباة في الهوى، وانتشار الأمر عليه في القضايا التي لها خطر، وللناس بها اهتمام؟ أما سفساف الحوادث فسواء أصاب فيها القاضي أو أخطأ فهي أهون من أن يتعلق بها خبر في تاريخ أو مذهب في قضاء. ا.ﻫ.

تفنيد «لبون» أقوال مَن نالوا من العرب والإسلام

وما أجمل ما قال لبون في كتابه حضارة العرب:٨ «وإذا كان للأديان تأثير عظيم في الأخلاق، كما يُنسب إليها في العادة، ونحن ممن لا يقول بهذا التأثير على ما يزعم الزاعمون، فإنا نجد المقابلة مدهشة بين الإسلام وسائر المعتقدات التي تزعم مع هذا أنها أسمى منه، ولقد قال بارتلمي سان هيلير — وهو من العلماء المتدينين — في كتابه في القرآن: تدمثت نفوس قساة الطباع من سادة القرون الوسطى، بملابستهم العرب وتمازجهم بهم، وعرف الفرسان بدون أن يفقدوا شيئًا من شجاعتهم شعورًا أرق وأشرف وأعرق في الإنسانية من شعورهم، ومن المشكوك فيه أن تكون النصرانية وحدها، على ما حملت من المنافع، هي التي ألقت في روعهم ما ألقت، وبعد هذا النظر ربما تساءل القارئ، ولماذا غمط اليوم حق العرب وتأثيرهم، وأنكر حسناتهم علماء عُرفوا باستقلال أفكارهم، وكانوا بحسب الظاهر بمعزل عن الأوهام الدينية؟ وهذا السؤال قد سألته نفسي، وأرى أن لا جواب عليه غير ما أنا كاتب، ذلك أن استقلال آرائنا هو في الواقع صوري أكثر مما هو حقيقي، ونحن لسنا أحرارًا على ما نريد في خوض بعض الموضوعات؛ وهذا لأن فينا أحد رجلين: الرجل الحديث؛ الذي صاغته دروس التهذيب، وعمل المحيط الأدبي والمعنوي في تنشئته، والرجل القديم: المجبول على الزمن بخميرة الأجداد، وبروح لا يعرف قراره يتألف من ماضٍ طويل، وهذا الروح اللاشعوري هو وحده الذي ينطق في معظم الرجال، ويبدو في أنفسهم بمظاهر مختلفة، يؤيد فيهم المعتقدات التي اعتقدوها، ويملي عليهم آراءهم، وتظهر هذه الآراء بالغة حدًّا عظيمًا من الحرية في الظاهر فتُحترم.»

«لا جرم أن أشياع محمد كانوا خلال قرون طويلة من أخوف الأعداء الذين عرفتهم أوروبا، فكانوا بتهديدهم الغرب بسلاحهم في عهد شارل مارتيل، وفي الحروب الصليبية، وبعد استيلائهم على الآستانة، يذلوننا بمدنيتهم السامية الساحقة، وإلى أمس الدابر لم ننجُ من تأثيراتهم، ولقد تراكمت الأوهام الموروثة المتسلطة علينا، والنقمة على الإسلام وأشياعه في عدة قرون، حتى أصبحت جزءًا من نظامنا، وكانت هذه الأوهام طبيعة متأصلة فينا، كالبغض الدوي المستتر أبدًا في أعماق قلوب النصارى لليهود.»

«وإذا أضفنا إلى أوهامنا الموروثة في إنكار فضل المسلمين هذا الوهم الموروث أيضًا النامي في كل جيل، بفعل تربيتنا المدرسية الممقوتة، ودعوانا أن جميع العلوم والآداب الماضية أتتنا من اليونان واللاتين فقط، ندرك على أيسر سبيل أن تأثير العرب البليغ في تاريخ مدنية أوروبا قد عم تجاهله، ويرى بعض أرباب الأفكار أن من المذل على الدوام أن يذهبوا إلى أن أوروبا النصرانية، مدينة لأعداء دينها بخروجها من ظلمة التوحش، وهناك أمر يحمل في مطاويه ذلًّا كثيرًا في الظاهر لا يقبل تحمله إلا بشيء من العنت، وذلك أنه كان للمدنية الإسلامية تأثير عظيم في العالم، وتم لها هذا التأثير بفضل العرب، بل بصنع العناصر المختلفة التي دانت بالإسلام، وبنفوذهم الأدبي هذبوا الشعوب البربرية التي قضت على الإمبراطورية الرومانية، وبتأثيرهم العقلي فتحوا لأوروبا عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية، وهذا ما كانت تجهله، وعلى ذلك كان العرب ممدنينا وأساتذتنا مدة ستمائة سنة.»

وقال في حاشية هذا الفصل: إذا استحكمت الأوهام الموروثة وأوهام الثقافة في رجل، يعمى مع اتساع معارفه عن تفهم أسرار المسائل، وما هو إلا أن ينطوي على بغضين: بغض الرجل القديم الذي أنشأه الماضي، وبغض الرجل الحديث الذي هو ابن الملاحظة الشخصية، ولا يلبث أن يأتي بصور من التعبير عن الأفكار غريبة في تناقضها، ويجد القارئ مثالًا من المتناقضات في محاضرة في الإسلام ألقاها في جامعة السوربون كاتب مبدع عالم، عَنيت السيد رنان، حاول أن يثبت عجز العرب، فنقض بيده كل مزاعمه؛ فقد ذكر مثلًا أن ارتقاء العلم كان بفضل العرب خلال ستمائة سنة، وأبان أن التعصب في الإسلام لم يظهر كل الظهور إلا لما خلفت العرب عناصر منحطة كالبربر والترك، ثم جاء يؤكد أن الإسلام طالما اضطهد العلم والفلسفة، مدعيًا أنه قضى على العقل في البلاد التي افتتحها، ولكن باحثًا ذكيًّا كالسيد رنان لا ينام على رأي مخالف لأصول التاريخ الظاهرة، فما إن تزول الأوهام فيه حينًا حتى يتجلى فيه العالم فيضطر إلى الاعتراف بتأثير العرب في القرون الوسطى، وبما بلغته العلوم من الرقي في إسبانيا مدة استظلالها بظل سلطانهم، ومن الأسف أن الأوهام اللاشعورية تتغلب عليه حالًا، فيدعي على وجه أكيد أن علماء العرب ليسوا عربًا بأصولهم، بل هم أخلاط من أهل سمرقند وقرطبة وإشبيلية … إلخ، وبديهي أنه لا يتيسر النزاع في أصل الأعمال التي خرجت بفضل طرائق العرب، ولعمري هل من الميسور إنكار أعمال علماء الفرنسيين، بحجة أن من تمت على أيديهم كانوا من عناصر مختلفة كالنورميين والسلتيين والإكتيين وغيرهم، ممن كوَّنوا فرنسا بتمازجهم، وقد يكتئب هذا المؤلف العالم أحيانًا من الأسلوب الذي جرى عليه في إساءته للعرب، وينتهي الصراع بين الإنسان القديم والإنسان الحديث إلى هذه النتيجة التي لم تكن متوقعة منه، فيأسف لكونه لم يخلق مسلمًا قائلًا: «وما دخلت مسجدًا قط إلا وعراني خشوع يمازجه أسف على أني لم أكن مسلمًا.» ا.ﻫ.

نقد التاريخ وتوحيده

هذا وقد عقد لبون في آخر كتاب خطته يده في السنة الماضية، سماه الأسس٩ العلمية في فلسفة التاريخ فصلًا في النقد التاريخي، قال فيه: «رأينا في الفصول السابقة مدى الشكوك التي تعرض للوقائع التاريخية حتى لما كان منها معروفًا، فاقتضى للحكم عليها أن يتجرد فيها عن التأثيرات القومية والدينية والسياسية التي هي مرجع البت في معظم الأحكام؛ ولذلك جاءت التآليف التي كُتبت في مختلف البلدان حاملة تقديرات متباينة في الحوادث الواحدة، وللأوهام الدينية خاصة سلطان على المؤلفين، على حين يعتقدون أنهم نجوا من تأثيراتها، لا جرم أن كثيرًا من المؤرخين قد اندفعوا بسائق هذه الأوهام فأتوا بآراء بعيدة جدًّا عن محجة الصواب في بيان فضل الحضارة الإسلامية، ولا يزال التحامل على العالم الإسلامي القديم بحالة من الشدة؛ ولذلك وجب أن يعاد النظر في تاريخ القرون الوسطى بجميع أجزائه التي لها مساس بانتقال المدنية القديمة إلى العصور الحديثة.» ا.ﻫ.

وبعد، فلم يبقَ من رأي يُدلى به بعد هذا الكلام البالغ أقصى حدود الإنصاف والتعقل. وحقيقة إن من كتَّاب الغرب من إذا ذكروا الإسلام إلى اليوم، وصفوه بكل ما ينقص من قدره، وإذا اضطروا إلى الإشارة إلى المدنية العربية كأنهم يقولون بلسان الحال: إنها كعلم جابر، اقرأ تفرح، جرِّب تحزن، علمها لا ينفع، وجهلها لا يضر، يقول ماكس نوردو: «ولكم كبر مقام أناس بما دوَّن المدوِّنون من أخبارهم، حتى إن كثيرين ليعجبون من أرباب الرحلات السخفاء عجبهم من كبار الفاتحين المصلحين، وكم من أناس هم عظماء في نظر أمة، ولا يُذكرون عند أمة أخرى، وكم من زلازل وحرائق أثرت في الانقلاب البشري أكثر من الحروب والغارات، وما السبب في ذلك إلا المؤرخون فإنهم غالوا في هذه وسردوا أخبار تلك على وجه عادي.»

أما الآن فمن المستحسن جد الاستحسان توحيد التاريخ في العالم، وتقليل جميع مصادر الأحقاد بين الأمم، على ما صرح بذلك رئيس مؤتمر التاريخ في لندن، وألحَّ بوجوب السير عليه أحد كبار علماء إيطاليا قبل بضع سنين في رومية، وترى طائفة من العقلاء في الغرب نبذ كل ما يثير الحقد، ويدعو إلى الظنة، ويفك عرى الألفة، ولن يتم قيام هذا المجتمع الحديث إلا بتعاون الشرق مع الغرب تعاونًا حقيقيًّا يقوم على الحرمة المتبادلة والمصلحة المشتركة، والعدل الذي لا يتجزأ، وللبشر اليوم مقصد أسمى من الخلافات والمناقشات التي جاءت القرون إثر القرون، وما زالت بحالها، لم تورث النفوس إلا اشمئزازًا، ولم يترك الزمن الحافز مجالًا للناس ليشتغلوا بأمور كان لها ما يبررها في عصور البطالة والجهالة، البشر بعد هذا التقارب في المواصلات والأفكار أحوج ما كانوا إلى التعارف والتعاطف، وإنصاف بعضهم بعضًا، ليقوم نظامهم على الوئام والسلام.

١  لحقته الدواهي، واحدتها غاشية.
٢  المخنق: العنق، وأخذ منه بالمخنق إذا لزه وضيَّق عليه.
٣  يُقال جاء أخرة وبأخرة أي أخيرًا.
٤  نصَّ الفارابي في بعض كتبه على أنه لا يُسمى العالم بعلم ما عالمًا بذلك العلم على الإطلاق، حتى تتوفر فيه أربعة شروط: أحدها؛ أن يكون قد أحاط معرفة بأصول ذلك العلم على الكمال، والثاني: أن تكون له قدرة على العبارة عن ذلك العلم، والثالث: أن يكون عارفًا بما يلزم عنه، والرابع: أن تكون له قدرة على دفع الإشكالات الواردة على ذلك العلم، ومن أجل هذا كان لقب عالم يضن به كثيرًا، وقد كان يُقال لجبير ابن زهير الحضرمي: «عالم أهل الشام»، وللخليل بن أحمد: «علامة البصرة»، ولمالك بن أنس: «إمام دار الهجرة»، ولعبد الله بن عباس: «رباني هذه الأمة»، وخُص في المتأخرين قطب الدين الشيرازي بالعلامة من بين علماء عصره؛ لأنه سبقهم كلهم في جميع أقسام العلوم، قال المقدسي: إن مراتب السادات مثل جليل وفاضل، رسم الرسائل لا رسم التصانيف. ونحن قد جرينا على ذلك فلم نذكر لمؤلف في مؤلفنا هذا لقبًا علميًّا ولا غيره، نأتي بأسمائهم مجرَّدة على عادة معظم المؤلفين.
٥  تحرير المرأة لقاسم أمين.
٦  الثورة الفرنسية وروح الثورات لجوستاف لبون Gustave Le Bon: La Révolution française et la Psychologie des Révolutions..
٧  ساعات بين الكتب لعباس محمود العقاد.
٨  La Civilisation des Arabes مما يؤسف له أن كتابًا جليلًا مثل هذا لجوستاف لبون أُلف قبل خمسين سنة ولم يُنشر إلى اليوم بالطبع في البلاد العربية، على ما يحمل من حقائق عن العرب لا يكاد يعرفها أعظم الباحثين من أبنائه، وقد نقله إلى العربية محمد مسعود من كتَّاب مصر ولم يُطبع إلى الآن.
٩  Gustave Le Bon: Bases Scientifiques d’une philosophie de l’histoire. الأسس العلمية في فلسفة التاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤