المخالفون ودواعي الخلاف
إنصاف الإسلام والعرب
ولذلك وجب على أصحاب هذه المدنية، وهذه الدعوة الإسلامية، أن يشكروا لأولئك المنصفين، وأن لا يغرقوا باللائمة على من ينظرون إلى أشياء غيرهم، بغير العين التي يبصرون بها أشياءهم، فمن الظواهر الاجتماعية هنا، ما نرى له ما يماثله في المجتمع الغربي، كُسيت هناك ثوبًا جميلًا بفعل الحضارة الممتدة الرواق، وبقيت هنا على سذاجتها للتأخر الطارئ من تراجع المدنية، والقوى قد تبدو سيئاته فيُخيل لقصار النظر أنها حسنات، أو يفسر معاني غيره تفسيرًا يظنه ضعاف النظر آيات بينات، والضعيف مهما أحسن مغمور مدحور، وربما قُلبت حسناته سيئات، والعالم على الدهر عبد القوة القاهرة.
وما دامت المعضلة معضلة تخالف في عقيدة، وتخالف في تربية وعادة، وتخالف في عنصر وبيئة، فمن الواجب علينا أن نساد ونقارب حتى تفعل الأيام فعلها: نعذر المنابذ المعتدل، إذا كان ممن يؤمن بما يقول، ونشكر للموافق العادل الذي يصدر رأيه عن عقيدة واقتناع، وعلينا أن لا ننسى أيضًا أن مجتمعنا ما كان في الحقيقة في عامة أدواره وأطواره فائضًا بالعدل والتسامح، فقد عهدنا طوائف بالغت في الحط من المخالف لأفكارها، فحاربته بكل سلاح تحت كل كوكب، فأضعفت بعملها العقل، وقضت على الحضارة بأن وضعت العقبات في محجتها.
نحن اليوم قد نستفيد من سماع أقوال المخالف، ومنازع الصريح في نقده قد تقوم المعوج وتصلح الفاسد، لا جرم أن من المسائل ما يصعب تمييز بهرجه من صحيحه، إلا بمعاناة طويلة، وأناة وروية، ورفق جميل، وقد يكون منشأ التعقيد على الأغلب من الواضع الأول، إما لسوء فهم، ومشايعة وهم، أو لتعمد في إفساد حكم، بعلم وبغير علم، فيتسرب الضعف إلى العقول، ويتأصل فيها بمرور الأيام، والضلالة إذا رسخت احتاجت إلى جهود طويلة حتى تُنزع من الأذهان، والحق إذا اختلط بالباطل وامتزج باللحم والدم استلزم التفريق بينهما معالجة طويلة، وهذا ما يصدق على تاريخ الإسلام، وحكم بعض الغربيين عليه منذ القديم، فإن الخطأ فيه عندهم عمدًا أو عن غير عمد، قد أتت عليه القرون حتى انتفى، وظهرت بين ظهرانيهم حقيقته على جليتها، ولذلك يحمد قصد من أنصفوا في أحكامهم علينا، والعدل من القريب حلو ومن البعيد أحلى، ومن خالفنا في مسألة ووافقنا في مسائل كان أقرب للتقوى.
العوامل في جفاء الغربيين
وهناك عقدة مدنية وعقدة دينية، إذا سهل الخطب في الأولى عسر في الثانية؛ لأنها صعبة المراس، متعذرة على الانتزاع، مهما جهدت بكل جهدك، وجمعت كل عقلك، وحكم الغرب على العرب منبعث في الأصل من تباين في المعتقدات، والمعتقدات وليدة التسليم والاستهواء والعادات، ومن الصعب استئصال ما تأصل في النفوس بمرور الأيام؛ لأن العناد في الاعتقاد، فطرة لا تبغي عنها النفوس البشرية حِوَلًا، والعاقل من أنصف غيره من نفسه.
وأهم أسباب الجفاء بين الغربيين والشرقيين في القرون الأولى من الهجرة؛ كون الإسلام جاء لهداية البشر كافة، فأتى على الوثنية في البلاد التي انتشر سلطانه فيها، ودخل فيه من الصابئة واليعاقبة والنساطرة والمجوس واليهود وغيرهم جمهور كبير، وخافت أوروبا النصرانية من تسربه إلى ربوعها، فاتفقت كلمة الملوك ورجال الدين على حربه، حتى وقفت دعوته عند جزيرتي الأندلس وصقلية وما إليهما من أرض الفرنجة، ثم نشأت الحروب الصليبية ودامت قرنين كاملين، يجيش فيهما الغرب على الشام ومصر، حتى كُتبت الغلبة الأخيرة للإسلام في أرض الشام.
صعوبة درس التاريخ
وليس البحث في تاريخ بلد واحد بالأمر السهل، على من كُتب له حظ من البحث والنظر، فما بالك بتاريخ أمة عظيمة تباعدت أرجاء بلادها كالأمة العربية؛ ولذلك رأينا الغربيين لما بلغ العلم هذه الدرجة العالية من الارتقاء والتشعب، يقسمون التاريخ أقسامًا كثيرة، فمن بحث منهم في تاريخ قرن أو قرون من تاريخ أمة، لا يتطال إلى البحث في دور آخر من أدوارها، أو من خاض في تاريخ إقليم أو بلد يُحظر عليه، أو يحظر على نفسه الخوض في تاريخ إقليم أو بلد آخر، ومن اختص بجانب من تاريخ الرومان، يتعذر عليه معالجة التاريخ الحديث، ومن تاقت نفسه أن يتناول في أبحاثه النظر في حال أمة من أمم الشرق، لا يجود تأليفًا له في تاريخ الغرب؛ ولذلك تقل قيمة سفر يؤلفه واحد على الأغلب، إن كان متشعب المقاصد، فكتب المَعْلَمَات أو دوائر المعارف ينشئها مئات، وأحيانًا ألوف من العلماء عندهم، وكتب التاريخ والجغرافيا والآداب يؤلفها عشرات من المؤرخين والأدباء والجغرافيين، وربما لا تكتفي أمة بما عندها من الرجال فتستعين برجال من غير أمتها، تلاحظ أنهم أرقى كعبًا.
إذًا فالتاريخ اليوم صعب المراس لتنوُّع أغراضه، فكيف يعتمد على من يقرأ بضعة كتب في تاريخ العرب، ويحكم على أهله ومدنيتهم، ألا يعدُّ من كان هذا شأنه من كتاب العامة؛ لقلة بضاعته، فما الحال بما يصدره من الآراء، وهو على رأي له قديم اصطنعه، وما استطاع أن يتحلل من قيوده، وهذا فيما نرى ما دعا «رنان» أن يقول: إن التاريخ مجموعة ظنون أو علم صغير سداه ولحمته من الفرضيات البعيدة، وقالوا: كل امرئ يحاول أن يدمج في التاريخ أفكاره من طرف خفي، وأن يتصور الحقيقة ويخلقها؛ وذلك لقلة الوثائق التي تثبت على محك النظر، ويحاول المؤرخون أبدًا أن يحيوا نظريات قائمة على نظريات أخرى، ويدخلوا إلى روح أشخاص يجهلون مزاجهم، وما ورثوه من تربية وأفكار؛ ولذلك يصعب جدًّا كتابة تاريخ عصر أو رجل، وما زال البشر منذ عهد «توسيديد» و«هيرودتس» يحاولون كتابة التاريخ، وقلما وصلوا إلى الحقائق؛ لقلة معرفتهم باكتناهها، ويحاولون شرح الحوادث ومعرفتها وحفظها؛ ليدخلوا شيئًا ضئيلًا كالخيال من العناصر التي تركها العالم في ماضيه السحيق، وكان «تاسيت» يحاول أن يضع نفسه فوق الحوادث وأن يحكم عليها، ويحاول «مونتسكيو» و«هردر» أن يستخرجا من نصوص التاريخ فلسفة، وحاول «رنان» أن يوفق بين الحوادث، ويكشف أسرارها الممكنة الظهور، وأن يورد وقائعها ملموسة ذات وحدة، ولكل مؤرخ طريقته. يقول كارلايل: إن التاريخ مجموعة إشاعات، وفولتير يقول: إنه مجموعة أساطير قبلها الضعفاء.
تفنيد «لبون» أقوال مَن نالوا من العرب والإسلام
«لا جرم أن أشياع محمد كانوا خلال قرون طويلة من أخوف الأعداء الذين عرفتهم أوروبا، فكانوا بتهديدهم الغرب بسلاحهم في عهد شارل مارتيل، وفي الحروب الصليبية، وبعد استيلائهم على الآستانة، يذلوننا بمدنيتهم السامية الساحقة، وإلى أمس الدابر لم ننجُ من تأثيراتهم، ولقد تراكمت الأوهام الموروثة المتسلطة علينا، والنقمة على الإسلام وأشياعه في عدة قرون، حتى أصبحت جزءًا من نظامنا، وكانت هذه الأوهام طبيعة متأصلة فينا، كالبغض الدوي المستتر أبدًا في أعماق قلوب النصارى لليهود.»
«وإذا أضفنا إلى أوهامنا الموروثة في إنكار فضل المسلمين هذا الوهم الموروث أيضًا النامي في كل جيل، بفعل تربيتنا المدرسية الممقوتة، ودعوانا أن جميع العلوم والآداب الماضية أتتنا من اليونان واللاتين فقط، ندرك على أيسر سبيل أن تأثير العرب البليغ في تاريخ مدنية أوروبا قد عم تجاهله، ويرى بعض أرباب الأفكار أن من المذل على الدوام أن يذهبوا إلى أن أوروبا النصرانية، مدينة لأعداء دينها بخروجها من ظلمة التوحش، وهناك أمر يحمل في مطاويه ذلًّا كثيرًا في الظاهر لا يقبل تحمله إلا بشيء من العنت، وذلك أنه كان للمدنية الإسلامية تأثير عظيم في العالم، وتم لها هذا التأثير بفضل العرب، بل بصنع العناصر المختلفة التي دانت بالإسلام، وبنفوذهم الأدبي هذبوا الشعوب البربرية التي قضت على الإمبراطورية الرومانية، وبتأثيرهم العقلي فتحوا لأوروبا عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية، وهذا ما كانت تجهله، وعلى ذلك كان العرب ممدنينا وأساتذتنا مدة ستمائة سنة.»
وقال في حاشية هذا الفصل: إذا استحكمت الأوهام الموروثة وأوهام الثقافة في رجل، يعمى مع اتساع معارفه عن تفهم أسرار المسائل، وما هو إلا أن ينطوي على بغضين: بغض الرجل القديم الذي أنشأه الماضي، وبغض الرجل الحديث الذي هو ابن الملاحظة الشخصية، ولا يلبث أن يأتي بصور من التعبير عن الأفكار غريبة في تناقضها، ويجد القارئ مثالًا من المتناقضات في محاضرة في الإسلام ألقاها في جامعة السوربون كاتب مبدع عالم، عَنيت السيد رنان، حاول أن يثبت عجز العرب، فنقض بيده كل مزاعمه؛ فقد ذكر مثلًا أن ارتقاء العلم كان بفضل العرب خلال ستمائة سنة، وأبان أن التعصب في الإسلام لم يظهر كل الظهور إلا لما خلفت العرب عناصر منحطة كالبربر والترك، ثم جاء يؤكد أن الإسلام طالما اضطهد العلم والفلسفة، مدعيًا أنه قضى على العقل في البلاد التي افتتحها، ولكن باحثًا ذكيًّا كالسيد رنان لا ينام على رأي مخالف لأصول التاريخ الظاهرة، فما إن تزول الأوهام فيه حينًا حتى يتجلى فيه العالم فيضطر إلى الاعتراف بتأثير العرب في القرون الوسطى، وبما بلغته العلوم من الرقي في إسبانيا مدة استظلالها بظل سلطانهم، ومن الأسف أن الأوهام اللاشعورية تتغلب عليه حالًا، فيدعي على وجه أكيد أن علماء العرب ليسوا عربًا بأصولهم، بل هم أخلاط من أهل سمرقند وقرطبة وإشبيلية … إلخ، وبديهي أنه لا يتيسر النزاع في أصل الأعمال التي خرجت بفضل طرائق العرب، ولعمري هل من الميسور إنكار أعمال علماء الفرنسيين، بحجة أن من تمت على أيديهم كانوا من عناصر مختلفة كالنورميين والسلتيين والإكتيين وغيرهم، ممن كوَّنوا فرنسا بتمازجهم، وقد يكتئب هذا المؤلف العالم أحيانًا من الأسلوب الذي جرى عليه في إساءته للعرب، وينتهي الصراع بين الإنسان القديم والإنسان الحديث إلى هذه النتيجة التي لم تكن متوقعة منه، فيأسف لكونه لم يخلق مسلمًا قائلًا: «وما دخلت مسجدًا قط إلا وعراني خشوع يمازجه أسف على أني لم أكن مسلمًا.» ا.ﻫ.
نقد التاريخ وتوحيده
وبعد، فلم يبقَ من رأي يُدلى به بعد هذا الكلام البالغ أقصى حدود الإنصاف والتعقل. وحقيقة إن من كتَّاب الغرب من إذا ذكروا الإسلام إلى اليوم، وصفوه بكل ما ينقص من قدره، وإذا اضطروا إلى الإشارة إلى المدنية العربية كأنهم يقولون بلسان الحال: إنها كعلم جابر، اقرأ تفرح، جرِّب تحزن، علمها لا ينفع، وجهلها لا يضر، يقول ماكس نوردو: «ولكم كبر مقام أناس بما دوَّن المدوِّنون من أخبارهم، حتى إن كثيرين ليعجبون من أرباب الرحلات السخفاء عجبهم من كبار الفاتحين المصلحين، وكم من أناس هم عظماء في نظر أمة، ولا يُذكرون عند أمة أخرى، وكم من زلازل وحرائق أثرت في الانقلاب البشري أكثر من الحروب والغارات، وما السبب في ذلك إلا المؤرخون فإنهم غالوا في هذه وسردوا أخبار تلك على وجه عادي.»
أما الآن فمن المستحسن جد الاستحسان توحيد التاريخ في العالم، وتقليل جميع مصادر الأحقاد بين الأمم، على ما صرح بذلك رئيس مؤتمر التاريخ في لندن، وألحَّ بوجوب السير عليه أحد كبار علماء إيطاليا قبل بضع سنين في رومية، وترى طائفة من العقلاء في الغرب نبذ كل ما يثير الحقد، ويدعو إلى الظنة، ويفك عرى الألفة، ولن يتم قيام هذا المجتمع الحديث إلا بتعاون الشرق مع الغرب تعاونًا حقيقيًّا يقوم على الحرمة المتبادلة والمصلحة المشتركة، والعدل الذي لا يتجزأ، وللبشر اليوم مقصد أسمى من الخلافات والمناقشات التي جاءت القرون إثر القرون، وما زالت بحالها، لم تورث النفوس إلا اشمئزازًا، ولم يترك الزمن الحافز مجالًا للناس ليشتغلوا بأمور كان لها ما يبررها في عصور البطالة والجهالة، البشر بعد هذا التقارب في المواصلات والأفكار أحوج ما كانوا إلى التعارف والتعاطف، وإنصاف بعضهم بعضًا، ليقوم نظامهم على الوئام والسلام.