همجية البلاد الإنجليزية والفرنسية
في القرون التي كانت فيها العرب تنعم بلذائذ العقل والعمل، وتأخذ من مسرات الحياة
الفاضلة بأوفر نصيب، ويهاب سطوتها البادي والحاضر في كل قطر استصفته أو لم تستصفه،
وتؤلف أمة منطوية على علم كثير، وأدب غزير، وتُعرف لها وثبات ظاهرة، وحكومات ناهضة —
في
هذه القرون كان الغربيون متوحشين جاهلين، لا يعرفون طعم الراحة، ولا يتذوقون عيش
الرفاهية، لا أمن ولا إدارة، ولا ملوك يعرفون واجبهم في إقامة العدل وتوطيد الأمن، وهم
في كل أحوالهم إلى حالة البوادي أقرب منهم إلى حياة المدن والحضارة.
كانت إنجلترا
١ الأنجلوسكسونية في القرن السابع الميلادي إلى ما بعد العاشر فقيرة في
أرضها، منقطعة الصلات بغير بلادها، سمجة وحشية، تبني البيوت بحجر غير نحيت، وتشيدها من
تراب مدقوق، وتجعلها في وطأ من الأرض: مساكن ضيقة المنافذ، غير محكمة الإغلاق، واصطبلات
وحظائر لا نوافذ لها، تقرض الأمراض والأوبئة المتكررة المواشي والسائمة، وهي المورد
الوحيد في البلاد، ولم يكن الناس أحسن مسكنًا وأمنًا من الحيوانات. يعيش رئيس القبيل
في
كوخه مع أسرته وخدمه ومن اتصل به، يجتمعون في قاعة كبرى في وسطها كانون ينبعث دخانه من
ثقب فُتح في السقف فتحًا غليظًا، ويأكلون كلهم على خوان واحد، يجلس السيد وقرينته في
أحد أطراف المائدة، ولم تكن الشوكات معروفة، وللأقداح حروف من أسفلها، فكان على كل مدعو
أن يمسك بيده قدحه، أو يفرغه في فيه دفعة واحدة، وينتقل السيد إلى غرفته في المساء، بعد
أن يتناولوا الطعام ويعربدوا على الشراب، ثم تُرفع المنضدة والصقالات، وينام جميع
المجتمعين في تلك القاعة على الأرض أو على دكات، واضعًا كل فرد سلاحه فوق رأسه؛ لأن
اللصوص كانوا من الجرأة بحيث يقتضي على الناس أن يقفوا لهم بالمرصاد كل حين، لئلا
يؤخذوا على غرة.
وكانت أوروبا في ذلك العهد غاصة بالغابات الكثيفة، متأخرة في زراعتها، وتنبعث من
المستنقعات الكثيرة في أرباض المدن روائح قتالة، تجتاح الناس وتحصدهم. وكانت البيوت في
باريز ولندرا تُبنى من الخشب والطين المعجون بالقش والقصب، ولم يكن فيها منافذ ولا غرف
مدففة، وكانت البسط مجهولة عندهم، لا بساط لهم غير القش، ينشرونه على الأرض، ولم يكونوا
يعرفون النظافة، ويلقون بأحشاء الحيوانات وأقذار المطابخ أمام بيوتهم، فتتصاعد منها
روائح مزعجة، وكانت الأسرة الواحدة تنام في حجرة واحدة تضم الرجال والنساء والأطفال،
وكثيرًا ما كانوا يؤون معهم الحيوانات الداجنة، وكان السرير عندهم عبارة عن كيس من
القش، فوقه كيس من الصوف، يُجعل مخدة أو وسادة، ولم يكن للشوارع مجارٍ ولا بلاط ولا
مصابيح. قال درابر: وكان من أثر ذلك أن عمت الجهالة أوروبا، وساورتها الأوهام، فانحصر
التداوي في زيارة الأماكن المقدسة، ومات الطب وحييت أحابيل الدجالين، وكلما دهم البلاد
وباء فزع رجال الدين إلى الصلاة، وأغفلوا أمر النظافة، فكانت الأوبئة تفتك بهم فتكًا
ذريعًا، وقد زارت أوروبا مرارًا فاجتاحت الملايين من أهلها في أيام قليلة.
كان العالم القديم يقتسمه في القرن الحادي عشر مدنيتان:
٢ في الغرب؛ مدن حقيرة صغيرة، وأكواخ فلاحين، وقلاع لا هندسة لها، وبلاد
مضطربة على الدوام بالحرب، لا يتأتى أن يسير فيها السائر عشرة فراسخ دون أن يُسلب
ويُنهب. وفي الشرق: مدن القسطنطينية والقاهرة ودمشق وبغداد وجميع مدن ألف ليلة وليلة،
بما فيها من قصور المرمر والمعامل والمدارس والأسواق والحدائق الممتدة على بضعة فراسخ،
وبرية تُروى أحسن إرواء غاصة بالقرى والضياع، وحركة التجار لا تنقطع، يذهبون بسلام من
إسبانيا إلى فارس. قال سنيوبوس: ولا شك أن العالم الإسلامي والعالم البيزنطي كانا أغنى
وأحسن نظامًا ونورًا من العالم الغربي، فكان النصارى يشعرون بنقصهم في التهذيب، ويعجبون
باهتين بما يبدو لهم من غرائب الشرق، ومن يحب أن يتعلم يقصد إلى مدارس العرب، وبدأ
العالمان الشرقي والغربي في القرن الحادي عشر يتعارفان، ودخل النصارى المتوحشون إلى حمى
المسلمين الممدنين من طريقين: الحرب والتجارة. ا.ﻫ. ولقد دُهش
٣ الصليبيون في القرن الخامس من الهجرة لما بلغوا الشرق ووقعت أعينهم على مدن
حافلة منظمة في بيزنطية والشام وغيرها من بلاد الإسلام؛ إذ ما كان لهم عهد بغير قرى
حقيرة ودساكر لا شأن لها في بلادهم.
الأمية في الغرب والتوحش في عامة أقطاره
وبينا كان شارلمان أعظم ملوك أوروبا، وهو معاصر للرشيد العباسي، وصاحب فرنسا وجرمانيا
وشمالي إيطاليا، أقرب إلى الأمية منه إلى النور، كانت كتب الفلسفة والعلوم المادية
والأدبية يتنافس فيها علماء العرب في بغداد وقرطبة، وتُترجم للمنصور العباسي الكتب من
اللغة العجمية
٤ إلى العربية، منها كتاب كليلة ودمنة وكتاب السند هند، وتُترجم له كتب
أرسطاطاليس من منطقيات وغيرها، وكتاب أقليدس وكتاب الأرتماطيقي، وسائر الكتب القديمة
من
اليونانية والفهلوية والفارسية والسريانية، وتخرج إلى الناس فينظرون فيها ويتعلقون إلى
علمها، ومعظم الخلفاء الأول من بني العباس يشرفون على علوم الناس وآرائهم من تقدم وتأخر
من الفلاسفة وغيرهم من الشريعيين، وتُجرى في مجالسهم مباحث في أنواع العلوم من العقليات
والسمعيات في جميع الفروع والأصول.
وبينا يقوم في العرب أعلم خلفائهم المأمون العباسي الذي قلما جاء حتى في ملوك الغرب
من يدانيه بعلمه وعقله، يطلب إلى ملك الروم لما غلبه كتب العلم التي عنده، وهو عمل مدهش
لم يُعهد لملك ولا لحكومة أن طلبت مثله من عدوها في قديم الدهر وحديثه، وبه يُعرف قدر
المأمون وتفانيه في خدمة الإنسانية، كما قال فرَّان
٥ ويستمتع الناس في أيامه بنعمة الحرية العلمية والوجدانية، حتى عُدَّ عصره
عند العرب كعصر بركليس في آثينة وعصر أغسطس في رومية — بينا كانت الحال عند العرب على
ما ذُكر — كان شارلمان يحاول أن يتعلم ويتحبب إلى الآداب
٦ تحببًا ساذجًا، كما يحب غير المتعلمين أن يروا أحيانًا السطور المكتوبة،
وتشبه آداب عصره أدب صبيان المدارس وتمارينهم اليوم، ولم يكن في غاليا شيء يشبه الأدب،
وما دوَّن أهلها قط كتابًا ولا أخبارًا، وكانت الكتابات الرسمية التي لا يُستغنى عنها
كالمواثيق والهبات والوصايا تُكتب باللغة اللاتينية البربرية، وهي من سقم الخط بحيث
يصعب حلها، ولا يمتاز شرفاء القرون الوسطى بتعلمهم وتهذيبهم عن الفلاحين، وكان معظم
الزعماء يجهلون القراءة، ولا همَّ لهم غير الشراب والطعام والصيد والحرب، وهم في العادة
جفاة غلاظ شداد؛ فقد قتل ريشاردس قلب الأسد مَثَل الفروسية ٢٥٠٠ أسير من العرب، وفقأ
عيون خمسة عشر فارسًا كان لهم يد في حرب أثارها على فيليب أغسطس، وكثيرًا ما كانوا
يفقأون عيون النساء ويجدعون أنوفهن، ولم يزل هذا الإغراق في الشدة والقسوة البربرية
مألوفًا إلى القرن الرابع عشر والقرن الخامس عشر، وقست بحياة التشرد على هذا النحو قلوب
الفرسان، وغلظت طباعهم، وغدوا يتقاتلون لأقل سبب، ولا قصد لهم من تقاتلهم غير السلب
والنهب، ومن الفرسان من كان يقف على قارعة الطريق، يستوقف التجار ويسلبهم ويسجنهم
ويعذبهم؛ ليكرههم على أن يفتدوا بالمال أنفسهم، وليس عندهم أمن ولا أمان.
بلى، فُقد من غاليا على عهد شارلمان، وبعده بزمن طويل كل اهتمام بشيء يُقال له:
الثقافة العامة،
٧ وأصبحت اللغة اللاتينية، وهي اللغة المكتوبة الوحيدة على غاية من الفساد،
وأصبح الكتاب أندر من الكبريت الأحمر، ولا يطمع الأفراد الذين كانوا يرغبون في التعلم
إلا أن يقرءوا التوراة، ويكتبوا صكًّا رسميًّا بالرجوع إلى دساتيرهم، أما صنائعهم
السائرة فهي من العبث والفساد بالمحل العالي، وذكر روبرتسون
٨ أنهم عثروا على عدة قوانين ووثائق صادرة عن أهل الطبقة الأولى من الأعيان،
يُستدل منها أنهم كانوا أميين؛ ولذلك كانوا يعمدون إلى وضع صورة الصليب على الوثائق
الصادرة عنهم، بل كان هريون أعظم قضاة الدولة أميًّا، وكان دجسلين رئيس الجيوش الفرنسية
في القرن الرابع عشر وأعظم رجال عصره أميًّا، وكان كل من يتطلب منصبًا يُسأل إن كان
يقرأ الإنجيل ورسائل الرسل، ويفسر معناها ولو كلمة كلمة، من غير نظر إلى تفسير الجملة؛
ذلك لأنه كانت الكتب نادرة الوجود لا تتعدى أسوار البيع، وما خرج الغربيون من الجهل إلا
باختراع الطباعة في القرن الخامس عشر. وذكر القزويني
٩ أن تجارًا من العرب ذهبوا إلى شلشويق — من بلاد الدانيمرك اليوم — لاستحضار
العنبر فوصفوا أهلها بأنهم وحوش عراة يسترون عوراتهم بقطع من الجلود.
هكذا كان أوروبا الغربية وما إليها، أما حال أوروبا الشرقية فكانت إلى الهمجية
المطلقة، بل إن تاريخ روسيا لم يكن بدأ في القرن التاسع للمسيح، وكانت تلك البلاد
الواسعة مسرحًا لبعض قبائل الصقالبة، يتسلط التتر عليها ويسومونها سوء العذاب، بل دامت
أيام الجهالة في روسيا إلى ما بعد ذاك العهد بقرون، ولقد شبت فيها نار حرب
١٠ أهلية لخلاف وقع في معرفة عدد الأصابع التي يجب استعمالها في عمل إشارة
الصليب، ولم تخلص روسيا في الحقيقة من كابوس الجهل المطبق إلا في القرن الثامن عشر على
عهد مصلحها بطرس الأكبر، ومثل ذلك يُقال في سائر بلاد الغرب حاشا إيطاليا؛ فإن برابرة
الشمال قضوا على مدنية الرومان فيها، وسلمت لهم بعض عادياتها ومصانعها، فكانت للأخلاف
بمثابة حافز لهم على الترقي، فانبعثت النهضة بعد قرون من بين أظهر القوم، وسرى قبس
نورها في القرن الرابع عشر إلى معظم الأصقاع الأوربية.
المقابلة بين بلاد العرب وبلاد الإفرنج
كانت أوروبا تحت سلطة الباباوات، يتصرفون فيها على هواهم، ويتحكمون في الأرواح
والأشباح، والناس تائهون كما قال «دوزي»
١١ في ظلام الجهالة، لا يرون النور إلا من سم الخياط، والنور لا يسطع إلا من
جانب الأمة الإسلامية، من علوم وأدب وفلسفة وصناعات وأعمال يد وغير ذلك، وبغداد والبصرة
وسمرقند ودمشق والقيروان ومصر وفارس وغرناطة وقرطبة هي المراكز العظيمة للعلم، وعواصم
أوروبا التي نُدهش بها اليوم أشبه بقرى، لا علم فيها ولا عمران، وهي متأخرة في كل
شئونها المادية والأدبية، وما كانت في بلاد الإسلام مدرسة ولا جامع ولا بلد ولا دار
كبرى تخلو من خزائن كتب مسبلة على المطالعين، هذا مع عزة المخطوطات في ذاك العهد، يجتمع
في تلك الدور العالمون، يقرءون ويتباحثون ويتدارسون، تساوى في ذلك الرجال والنساء،
وكانت المدارس في المدن والقرى وفي الأندلس خاصة مبذولة لكل طالب، حتى قال أحد مؤرخي
الإفرنج: إن معظم سكان إسبانيا الإسلامية كانوا يقرءون ويكتبون، في زمن كان أهل الطبقة
العليا في أوروبا النصرانية أميين لا يقرءون عدا أفرادًا قلائل من الشمامسة، جعلوا
الكتابة صناعة لهم. وقال روبرتسون: كان في إسبانيا في ابتداء القرن الخامس عشر مدن
كثيرة أعمر من باقي مدن أوروبا حاشا مملكتي إيطاليا وبلاد القاع، وكان العرب أنشأوا في
مدنهم معامل ومصانع أيام كانوا حاكمين فيها.
وغصت بلاد المسلمين بالمجامع العلمية مؤلفة من علماء لا يُنظر في اختيارهم إلى الدين
الذي يدينون به، بل يُراعى فيهم علمهم واختصاصهم، وكان الخلفاء والملوك والعظماء يجمعون
المشتغلين في قصورهم، يتذاكرون أصناف العلوم، وما كان مجلس لهم يخلو من عالم أو علماء،
ينصب الحضور له ويأخذون عنه، ومنهم من كان يستصحب العلماء في غزواته، أو يصحب أحمالًا
من الكتب في رحلاته؛ لأن نفسه تفطم عن كل شيء إلا عن الأبحاث العلمية وغيرها، وكان
المنصور بن أبي عامر الأندلسي، وأمير المؤمنين المأمون في بغداد، في جملة عشرات من رجال
الإسلام كان هذا شأنهم.
وذكر جبون خلال كلامه على حماية المسلمين للعلم في الشرق والغرب، أن ولاة الأقاليم
والوزراء، كانوا ينافسون الخلفاء في إعلاء مقام العلم والعلماء، وبسط اليد في الإنفاق
على بيوت العلم، ومساعدة الفقراء على طلبه، فانتشر من ذلك ذوق العلم، ووجدت اللذة في
تحصيله بين الناس، من سمرقند وبخارى إلى فاس وقرطبة، قال: وقد أنفق وزير واحد لأحد
السلاطين (نظام الملك) مائتي ألف دينار على بناء مدرسة بغداد «النظامية»، وجعل لها من
الريع خمسة عشر ألف دينار في السنة تُصرف عليها، وكان الذين يغذون بالمعارف فيها ستة
آلاف تلميذ، فيهم ابن أعظم العظماء في المملكة وابن أفقر الصناع فيها، غير أن الفقير
يُنفق عليه من الريع المخصص للمدرسة، وابن الغني يُكتفى بمال أبيه، والمعلمون يُنقدون
رواتب وافرة.
بينا كان في الأندلس عبد الرحمن الثالث الأموي
١٢ (٣٠٠–٣٥٠) عالم الملوك وحامي الآداب والعلوم والصنائع والتجارة، ورب السيف
والقلم الذي أصبحت إسبانيا بأعماله وأعمال أخلافه أحسن الممالك حضارةً وحسن إدارة في
القرون الوسطى، كنت ترى في رعيته بل في أعماله من يقرِّعه؛ لأنه بنى قصر الزهراء،
واستفرغ جهده
١٣ في تنجيدها، وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها، وانهمك في ذلك حتى عطل شهود
الجمعة بالمسجد الجامع، يقوم قاضي الجماعة بقرطبة منذر بن سعيد البلوطي، ويعظه على
المنبر مبتدئًا خطبته بقوله تعالى:
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ
آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ
تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ
* وَاتَّقُوا
الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ
وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي
أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ،
١٤ ثم يفضي إلى ذم المشيد والاستغراق في زخرفته والسرف في الإنفاق عليه، ويتلو
فيه قوله تعالى:
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى
مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ
هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا
رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ۗ وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ،
١٥ ويأتي بما شاكل ذلك من التخويف والوعظ، فيبكي الناس والخليفة، ويشكو هذا
إلى ولده الحكم تقريع منذر بن سعيد له مقسمًا أن لا يصلي خلفه الجمعة أبدًا، ويقول له
الحكم: «وما الذي يمنعك عن عزل منذر بن سعيد والاستبدال به؟» فيزجره وينتهره ويقول:
أَمثل منذر بن سعيد في فضله وورعه وعلمه وحلمه، لَا أمَّ لَك، يعزل إرضاءً لنفس ناكبة
عن الرشد؟ هذا ما لا يكون، وإني لأستحي من الله تعالى ألا أجعل بيني وبينه شفيعًا في
صلاة الجمعة مثل منذر بن سعيد، ولكنه قد وقذ
١٦ نفسي وكاد يذهبها، والله لوددت أن أجد سبيلًا إلى كفارة يميني بملكي، بلى
يصلي بالناس حياته وحياتنا، فما أظننا نعتاض منه أبدًا.
وبينا أهل أوروبا كلهم عبيد ملوكهم وباباواتهم وزعمائهم، لا يجسر إنسان أن ينقد عملًا
أو يعترض على سياسة، كان رجال الإسلام يقدمون على وعظ الخلفاء، ولا يهابون سطوتهم ولا
بطشهم، كمقام رجل من العباد عند المنصور العباسي يوم قال له: «وهل دخل أحد من الطمع ما
دخلك؟ إن الله استرعاك أمر عباده وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت
بينك وبينهم حجابًا من الجص والآجر، وأبوابًا من الحديد، وحراسًا مع السلاح، ثم سجنت
نفسك عنهم فيها، وبعثت عمالك في جبايات الأموال وجمعها، وأمرت أن لا يدخل عليك أحد من
الرجال إلا فلان وفلان نفرًا سميتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع
العاري إليك، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم
لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، وأمرت أن لا يحجبوا دونك، تجبي الأموال وتجمعها، قالوا: هذا
قد خان الله فما لنا لا نخونه، فأتمروا أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما
أرادوا، ولا يخرج لك عامل إلا خوَّنوه عندك ونفوه، حتى تسقط منزلته عندك، فلما انتشر
ذلك عنك وعنهم عظمهم الناس وهابوهم وصانعوهم، فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا
والأموال، ليقووا بها على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو المقدرة والثروة من رعيتك، لينالوا
ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلمًا وبغيًا وفسادًا، وصار هؤلاء القوم شركاءك
في سلطانك وأنت غافل، فإن جاء متظلم حِيل بينك وبينه، إلى أن قال: فإن قلت: إنما تجمع
المال لشديد السلطان، فقد أراك الله عبرًا في بني أمية ما أغنى عنهم جمعهم من الذهب،
وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع، حين أراد الله بهم ما أراد، وإن قلت: إنما تجمع
المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة
ما تُدرك إلا بخلاف ما أنت عليه.»
هكذا كان المسلمون في العالم حكامًا ومحكومين، السلطان يعمل والواعظ يعظ، والناس
آمنون والحرية مشاعة شاملة، وبهذه الحرية التي تمتع بها العرب في دولهم، قبل أن تعرف
معناها أمة من الأمم قبلهم، نشأ رجال في السياسة والحرب والإدارة والعلم والفن والصنائع
والتجارة كانوا غرة في جبين الدهر، ولو جئنا نعدهم ونشير إلى ما رُزقوا من ثقوب أذهان،
ووفرة علم، وسمو أخلاق، ولطف حيلة، لاقتضى الخروج عن حد الإيجاز، وبأدنى نظر في سيرهم،
يُثبت لنا أن دينهم لم يحل دون مدنيتهم، من الظهور بهذا المظهر الخلاب الذي استهوى كل
من عرفه، ولا ريب أن قليلًا في رجال الغرب قبل عصر النهضة من بلغوا في الفضل والكمال
مبلغ رجال الأمويين في الشرق والأندلس وبعض رجال العباسيين، بل مبلغ رجال ملوك الطوائف،
وقليل جدًّا في الغرب من كانوا متصفين بصفات الخير أمثال الصاحب بن عباد وابن العميد
وركن الدولة ابن بويه ومنصور بن نوح الساماني وأبي الفداء ومحمود بن سبكتكين وصلاح
الدين ونور الدين وطغتكين والمنصور بن أبي عامر، وعشرات بل مئات بيضوا وجه الإنسانية
بأعمالهم الصالحة، وبنبوغهم في معاناة أحوال الناس وحملهم على الجادة، لينعموا
بالسعادتين الدنيوية والأخروية.
وكان الغربيون خلال القرون الطويلة التي كان فيها العرب أنجب أمة من أمم الخليقة
يترامى إليهم من طريق الأندلس وصقلية وإيطاليا أولًا، ثم من طريق الصليبيين، ما تم في
بلاد العرب والمسلمين من الرقي، فتصبو نفوسهم إلى تحقيق مثله أو بعضه في ربوعهم، وأنَّى
لهم ذلك وسلطة رجال الدين عندهم تناولت كل فروع الحياة، وفرسانهم وملوكهم كانوا أدوات
للتدمير لا للتعمير، تغلب الفظاعة على أعمالهم، والسماجة تُقرأ في تضاعيف مجتمعهم،
وحضارتهم على حالة ابتدائية، كلما حفزها حافز عادت أدراجها بعوامل التقهقر المغروسة
فيها.
رأي لبون في تأثير العرب في الغرب
ولقد أجمل لبون دور الانتقال في الغرب وتأثير العرب فيه في صفحة واحدة، فقال: «كان
١٧ تأثير العرب في الغرب عظيمًا، وإليهم يرجع الفضل في حضارة أوروبا، ولم يكن
نفوذهم في الغرب أقل مما كان في الشرق، ولكنه كان يختلف عنه، أثروا في بلاد المشرق
بالدين واللغة والصنائع، أما في الغرب فلم يؤثروا في الدين، وكان تأثيرهم في الفنون
واللغة ضعيفًا، وتأثيرهم بتعاليمهم العلمية والأدبية والأخلاقية عظيمًا، ولا يتأتى
للمرء معرفة التأثير العظيم الذي أثره العرب في الغرب، إلا إذا تصور حالة أوروبا في
الزمن الذي دخلت فيه الحضارة، وإذا رجعنا إلى القرنين التاسع والعاشر للميلاد، يوم كانت
المدنية الإسلامية في إسبانيا زاهرة باهرة، نرى أن المراكز العلمية الوحيدة في عامة
بلاد الغرب كانت عبارة عن مجموعة أبراج يسكنها سادة نصف متوحشين، يفاخرون بأنهم أميون
لا يقرءون ولا يكتبون، وكانت الطبقة العالية المستنيرة في النصرانية عبارة عن رهبان
فقراء جهلة، يقضون الوقت بالتكسب في ديرهم بنسخ كتب القدماء، وليبتاعوا ورق البردي
اللازم لنسخ كتب العبادة.»
«وطال عهد الجهالة في أوروبا، وعم تأثيره بحيث لم تعد تشعر بتوحشها، ولم يبدُ فيها
بعض الميل للعلم إلا في القرن الحادي عشر، وبعبارة أصح في القرن الثاني عشر. ولما شعرت
بعض العقول المستنيرة قليلًا بالحاجة إلى نفض كفن الجهل الثقيل الذي كان الناس ينوءون
تحته، طرقوا أبواب العرب يستهدونهم ما يحتاجون إليه؛ لأنهم كانوا وحدهم سادة العلم في
ذاك العهد، ولم يدخل العلم أوروبا في الحروب الصليبية كما هو الرأي الشائع، بل دخل
بواسطة الأندلس وصقلية وإيطاليا. وفي سنة ١١٣٠ أُنشئت مدرسة للترجمة في طليطلة بعناية
ريموند رئيس الأساقفة، وأخذت تترجم إلى اللاتينية أشهر مؤلفي العرب، وعظم نجاح هذه
الترجمات، وعرف الغرب عالمًا جديدًا، ولم تفتر الحركة في هذه السبيل خلال القرن الثاني
عشر والثالث عشر والرابع عشر، ولم تُنقل إلى اللاتينية كتب الرازي وأبي القاسم وابن
سينا وابن رشد وغيرهم، بل نُقلت إليها كتب اليونان أمثال جالينوس وأبقراط وأفلاطون
وأرسطو وأقليدس وأرخميدس وبطلميوس، وهي الكتب التي كان المسلمون نقلوها إلى لسانهم.»
١٨
وقد عدَّ لكلرك في تاريخ الطب العربي ثلاثمائة كتاب نقلها الغرب من العربية إلى
اللاتينية، وما عرفت القرون الوسطى المدنية إلا بعد أن مرت من لسان أشياع محمد، وبعض
هذه المترجمات لكتب القدماء التي فُقد أصلها، حفظت هذه الأسفار من الضياع فوصلت إلى
الغرب، فإلى العرب وإلى العرب وحدهم، لا إلى رهبان القرون الوسطى ممن كانوا يجهلون حتى
وجود اللغة اليونانية، يرجع الفضل في معرفة الأقدمين، والعالم مدين لهم على وجه الدهر
لإنقاذهم هذا الكنز الثمين. يقول ليتري: «لو حُذف العرب من التاريخ لتأخرت نهضة الآداب
عدة قرون في الغرب.»
وقال لبون في مكان آخر: تمتعت إسبانيا بمدنية سامية بفضل العرب، بينا كانت بقية
أوروبا غارقة في التوحش العظيم، ولو مشى الغرب تحت راية العرب، لتسامت منزلته، ولو رقت
أخلاق أهله ما وقعوا في الحروب الدينية ومذبحة سان بارتلمي، وديوان التحقيق وكل ما شاكل
ذلك من المصائب التي أغرقت أوروبا بالدماء عدة قرون، وما عرف المسلمون ما يشبهها في
أرضهم. وقال أيضًا: كان تأثير العرب في عامة الأقطار التي احتلوها عظيمًا جدًّا في
الحضارة، ولعل فرنسا كانت أقل حظًّا في ذلك، فقد رأينا البلاد تتبدل صورتها حيثما خفق
علم الرسول الذي أظلها بأسرع ما يمكن، وأزهرت فيها العلوم والفنون والآداب والصناعة
والزراعة أي إزهار.