سوء حال بلاد الأكاسرة والقياصرة
أصبحت البلاد الخاضعة لسلطان الفرس وسلطان الروم قبيل الإسلام منهوكة القوى بالحروب
والمجاعات والأوبئة، ضرب هرقل صاحب الروم مملكة فارس ضربة شديدة، فكان من ذلك ضعفه وضعف
خصمه، وغزا الفرس الشام ومصر وخربوا في مملكة قيصر، فمقت الناس كسرى في فارس وهرقل في
الروم، وكلاهما قاست أمته الأمرَّين من جائر أحكامه وفاحش مغارمه؛ حاصر كسرى مدينة
القسطنطينية ست سنين، حتى مات أكثر أهلها جوعًا، وقتل هرقل في فارس الرجال والنساء
والصبيان وسبى سبيًا كثيرًا، وكان ذلك في السنة السابعة من الهجرة.
وكان يزدجرد بن شهريار آخر ملوك الفرس وهو ابن حفيد كسرى، قد ملَّكه الفرس عليهم لما
كانوا فيه من الانتشار، ملَّكوه وهو ابن خمس عشرة سنة، كما ملكوا طفلًا آخر، وقد ملكت
عليهم بوران بنت كسرى؛ وبلغ النبي خبرها، فقال: «لن يفرح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة.»
وكأن الفرس أدركوا قوة العرب فقالوا فيما بينهم: إنما أتينا من تملك النساء علينا،
فاجتمعوا على يزدجرد، فكان الملك في فارس قبيل الإسلام ألعوبة بأيدي النساء والأطفال،
والرعية متشعبة إلى أديان وفيهم المجوس، والمجوسية دين الدولة، وفي البلاد اليهود
والنسطوريون وهم ممن لا يُستهان بهم.
وبلغ هرقل سن الشيخوخة وأغواه رهبان إيليا، فقتل اليهود حول بيت المقدس وجبل الجليل
قتلًا ذريعًا بدعوى أن اليهود لما وافى الفرس فلسطين أعانوا هؤلاء على قتل النصارى،
وأخربوا الكنائس وأحرقوها بالنار، وقتلوا النصارى في صور وخربوا بيعهم، فقتل كما قتل
ابن بطريق من اليهود ما لا يُحصى عدده ممن قدر عليه، وأرضاه الرهبان بأن صاموا له
غفرانًا لنقضه العهد الذي كان أعطاه لليهود، ولإفحاشه في قتلهم. وكان الخلاف الديني على
أشده بين النصارى في مملكة الروم؛ اختلفوا في المسيح، وقال قوم: إن للمسيح طبيعتين
١ بمشيئة واحدة وفعل واحد وأقنوم واحد. وقال آخر: إن للمسيح مشيئتين وفعلين
كما أن له طبيعتين؛ لأنه يستحيل أن تكون مشيئة واحدة لذات طبيعتين، ولو كان ذا مشيئة
واحدة لكان ذا طبيعة واحدة، فلما كان ذا طبيعتين فهو ذو مشيئتين.
وليتصور المرء بلادًا منقسمة على نفسها، خارجة من حروب أضعفت في أهلها مادة الحياة،
لا مال لديها ينشلها من شقائها، ولا شيء مما يُقال له: رخاء وهناء بات يُعهد فيها،
الفقر يخرب في كيانها، والمجاعات والجوائح من الأمور العادية في ربوعها، وكل واحد من
الفرس والروم يتطلب الفرج من أي سبيل جاءه؛ لأن النفوس امتلأت غيظًا على الأيام وعلى
الحكام، وبينا الناس على ذلك جاء الفاتحون من العرب ففرح بمقدمهم أهل البلاد، ومنهم من
عاونوهم بالفعل، وإن اضطر بعض الفرس والروم أن يحاربوا العرب مع كسرى وقيصر دفاعًا عن
الحوزة، فالناس كانوا إذًا في بلاد الأكاسرة والقياصرة زاهدين في المظاهر القومية، ضعفت
في نفوسهم معاني الاستقلال، وهم بما صاروا إليه من سوء الحال يحاولون أن يضعوا أيديهم
في يد كل من ينتشلهم من سقطتهم وفاقتهم، ويدفع عنهم عوادي الفوضى ولو إلى أجل
معلوم.
ولا عجب إذا وجد سكان البلاد في الفاتحين أعظم منقذ لهم مما هم فيه من الشدائد، وهان
عليهم أن ينزلوا عن دينهم ولغتهم ويدينوا بالإسلام، وكيف لا يتركون مشخصاتهم، وقد رأوا
فيما عرض عليهم نموذجًا يصلح لهم، وأن الاختلاف يسير بين ما عرفوا من التعاليم وما
سيعرفون، هذا إلى ما في الجديد من روعة، يزيد تأثيرها إذا كانت إلى السذاجة لا تعقيد
فيها ولا التباس، والناس من طبيعتهم أن يصفقوا لمن رفرف طير سعده، فيدهنون له ويلتفون
حوله، ويعلقون على مماشاته آمالًا طويلة.
كانت مصر والشام من جملة الأقطار
٢ التي تحاول الانفصال عن المملكة البيزنطية، وكان هرقل وشعبه مشغولين
بالمسائل الدينية والخلافات المذهبية، والناس قد نُزعت من نفوسهم الثقة به، فهو إذا شفى
أَنفس الرهبان بالانتقام من اليهود، وخان العهد الذي أعطاه لهم، فشعبه يدرك باطنًا أنه
أسرع ما يكون إلى خيانتهم أيضًا، متى تعارضت مصلحته الخاصة بمصالحهم، أو توقفوا حينًا
عن أداء الجبايات مثلًا ليصرفها في حروبه، وكلهم مستاءون من المظالم والمغارم، سئموا
الغارات والغزوات، وأصبحوا يتطلعون إلى دولة تنقذهم مما هم فيه من البلاء، وكانت هذه
الدولة المنقذة دولة العرب الفتية القائمة وراء حدودهم تمد يدها القوية إليهم
لتنشلهم.
بيد أن كل هذا الضعف المستحوذ على العالمين الفارسي والرومي كان في الإمكان أن يبقي
الفرس والروم معه أصحاب الكلمة النافذة في العالم قرونًا؛ لأنهم كانوا على فساد حكمهم،
واختلال التوازن بين الوازعين الديني والمدني في ممالكهم، أصلح للبقاء من غيرهم؛ لأن
أهل فارس والروم في معنى الخلل كانوا سواء وغيرهم ممن جاورهم من الحكومات والقبائل،
لولا قيام العرب بذهنية جديدة، وقوة خارقة وقرت في نفوس الكبير والصغير منهم.
تساهل ملوك العرب وانتشار الإسلام
كان النصارى والمجوس في الفتح وبعده كلما رأوا تساهل العرب ومحاسنتهم زادوا ثقة بهم،
وإقبالًا على دعوتهم، ورجوا لأيامهم طول البقاء. رأوهم بعد استقرار حكومتهم لا
يعارضونهم في إقامة شعائر دينهم،
٣ وأن سلطانهم عليهم ناعم الملمس كثير المحاسنة؛ يوفون بعهودهم فلا يجورون،
ولا يخونون ولا يغدرون، رأوا أبا عبيدة بن الجراح وهو أمير على الشام يقول: أيها الناس
إني امرؤ من قريش، وما منكم أحد من أحمر ولا أسود يفضلني بتقوى إلا وددت أني في مسلاخه،
٤ رأوهم يحافظون على النصارى واليهود، ويرعون لهم عهدهم، ويحافظون على بيعهم
وكنائسهم، فلئن
٥ أمر يزيد بن عبد الملك في سنة ١٠٤ﻫ بكسر الأصنام كلها ومحو التماثيل في
مصر، فقد أذن موسى بن عيسى العباسي والي مصر من قبل الرشيد في بنيان الكنائس التي هدمها
علي بن سليمان، فبُنيت كلها بمشورة الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة من أحبار الأمة،
وقالا: هو من عمارة البلاد، واحتجا أن عامة الكنائس التي بمصر لم تبنَ إلا في الإسلام،
في زمن الصحابة والتابعين.
وما كان ملوك المسلمين في القرون التالية يحاذرون إلا أن تنبعث من الديرة والكنائس
في
بلادهم أمور تفسد عليهم سياستهم؛ ولذلك كانوا يراقبونها في الجملة، ولشدة اعتمادهم على
البطاركة كانوا يكلون إليهم أمور طوائفهم، ويسألونهم عن كل ما يأتيه جماعتهم مما يخل
بأمن البلاد، وكان لرئيس اليهود التحدث في كنائس اليهود المستمرة في أيديهم من حين عقد
الذمة، وكان على بطريرك النصارى الملكانية النظر في الكنائس والبيع، وعليه أن يتفقدها
في كل وقت ويرفع ما فيها من الشبهات، ويحذر رهبان الديارات من جعلها مصيدة للمال، وأن
يتجنبوا فيها الخلوة بالنساء، ولا يؤوي إليها أحدًا من الغرباء القادمين عليهم يكون فيه
ريبة، ولا يكتم ما اطلع عليه من ذلك عن المسامع السلطانية، ولا يخفي كتابًا يرد عليه
من
أحد الملوك، أو يكتب له جوابًا، ويتجنب البحر وما يرد منه من مظان الريب، وكان يشترط
على بطريرك اليعاقبة أن يتوقى ما يأتيه سرًّا من تلقاء الحبشة. وأمور الديرة والكنائس
مردودة إلى البطريرك ينيب عنه فيها من يأتمنه السلطان لا غيره، إذا وقع ما يخالف فيها،
ومنح ملوك العرب للكنيسة الرومانية حريتها في مفاوضة الأساقفة في البلاد الإسلامية، وهم
في أعظم أيام قدرتهم، مع أن هذه الكنيسة كانت ترعى الدولة المنقطعة أكثر من رعايتها
الدولة الخالفة، واستحكم الوئام بين المسلمين والنصارى حين آثر هؤلاء أن يتحاكموا في
اختلافاتهم الطائفية في المحاكم الإسلامية، وقد لام البابا غريغوريوس السابع أهل ملته
على تقاضيهم مع أسقفهم في محكمة المسلمين.
وكان العرب لأول أمرهم في الأندلس إذا شجر خلاف بين مسلم ونصراني من الجند يُعطى
الحق
غالبًا للنصراني،
٦ فنشأت وحدة وطنية بين الغالب والمغلوب، وكان عبد الرحمن الثاني عزم أن يجمع
مجمعًا مقدسًا من النصارى برياسة رئيس أساقفة إشبيلية لقمع عادية التعصب الإسباني؛ لأن
دعاة الدين من أهل النصرانية أخذوا يتناولون الإسلام بالإهانة علنًا حتى يُقتلوا في
سبيل دعوتهم، وتُكتب لهم الشهادة بزعمهم.
بهذه المسالمة العظيمة
٧ البادية في أعمال الغالب مع المغلوب دخل المجوس أفواجًا في الإسلام، وضعفت
النصرانية جدًّا ثم زالت من شمالي إفريقية، ولم يكن للإسلام دعاة يدعون إليه وينشرون
أحكامه على ما هو الحال في النصرانية، ولو قام أناس بهذا العمل لانحل الإشكال في معرفة
السبب في تقدمه الغريب، فقد رأينا شارلمان يستصحب أبدًا معه في حروبه ركبًا من القسيسين
والرهبان يباشرون فتح القلوب، بعد أن يكون هو بدأ بفتح المدائن والأقاليم، بجيوش يصلي
بها الأمم حربًا عوانًا، وتجعل الولدان شيبًا، بيد أننا لا نعلم للإسلام مجمعًا دينيًّا
ولا رسلًا ولا أحبارًا يسيرون وراء الجيوش، ولا رهبنة بعد الفتح، فلم يُكرِه أحدًا عليه
بالسيف ولا باللسان، بل دخل القلوب عن رضا واختيار، وهذه نتيجة لازمة لتأثيرات القرآن
وأخذه بالألباب، وإذا حدث أن دان دين الإسلام قوم مشوا وراء منافعهم، فهم قلائل إلى
جانب من أسلموا عن عقيدة صادقة وميل صحيح، قاله دي كاستري:
نعم، كان الملوك
٨ من غير المسلمين إذا فتحوا مملكة أتبعوا جيشها الظافر بجيش من
الدعاة إلى دينها، يلجون على الناس بيوتهم، ويغشون مجالسهم، ليحملوهم على دين
الظافر، وبرهانهم الغلبة وحجتهم القوة، ولم يقع ذلك لفاتح من المسلمين، ولم
يُعهد في تاريخ فتوح الإسلام أن كان له دعاة معروفون لهم وظيفة ممتازة، يأخذون
على أنفسهم العمل في نشره، ويقفون مسعاهم على بث عقائده بين غير المسلمين، بل
كان المسلمون يكتفون بمخالطة من عداهم، ومحاسنتهم في المعاملة، وشهد العالم
بأسره أن الإسلام كان يعد مجاملة المغلوبين فضلًا وإحسانًا، عندما كان يعدها
الأوروبيون ضعةً وضعفًا.
رفع الإسلام ما ثقل من الإتاوات، ورد الأموال المسلوبة إلى أربابها، وانتزع
الحقوق من مغتصبيها، ووضع المساواة في الحق عند التقاضي بين المسلم وغير
المسلم. بلغ أمر المسلمين فيما بعد أن لا يُقبل إسلام من داخل فيه إلا بين يدي
قاضٍ شرعي بإقرار من المسلم الجديد أنه أسلم بلا إكراه ولا رغبةً في دنيا … عرف
خلفاء المسلمين وملوكهم في كل زمان ما لبعض أهل الكتاب بل وغيرهم من المهارة في
كثير من الأعمال، فاستخدموهم وصعدوا بهم إلى أعلى المناصب، حتى كان منهم من
تولى قيادة الجيش في إسبانيا، اشتهرت حرية الأديان حتى هجر اليهود أوروبا
فرارًا منها بدينهم إلى بلاد الأندلس وغيرها.
هذا ما كان من أمر المسلمين في معاملتهم لمن أظلوهم بسيوفهم، لم يفعلوا شيئًا
سوى أنهم حملوا إلى أولئك الأقوام كتاب الله وشريعته، وألقوا ذلك بين أيديهم
وتركوا الخيار لهم في القبول وعدمه، ولم يقوموا بينهم
٩ بدعوة، ولم يستعملوا لإكراههم عليه شيئًا من القوة، وما كان من
الجزية لم يكن مما يثقل أداؤه على من ضُربت عليه، فما الذي أقبل بأهل الأديان
المختلفة على الإسلام وأقنعهم أنه الحق دون ما كان لديهم، حتى دخلوا فيه
أفواجًا، وبذلوا في خدمته ما لم يبذل له العرب أنفسهم. ا.ﻫ.
معاملة اليهود والنصارى والعناية بالنصارى خاصةً
مثال آخر من هذه المسامحة، كان بين المغانم التي غنمها المسلمون في وقعة خيبر صحائف
متعددة من التوراة، فلما جاء اليهود يطلبونها أمر النبي بتسليمها لهم، فأخذ اليهود
١٠ يشيرون إلى الرسول بالبنان ويحفظون له هذه اليد؛ «لأنه لم يتعرض لصحفهم
المقدسة، ويذكرون بإزاء ذلك ما فعله الرومان حين تغلبوا على أورشليم وفتحوها سنة ٧٠ق.م؛
إذ حرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم، وما فعله المتعصبون من النصارى في حروب اضطهاد
اليهود في الأندلس، وقد أحرقوا أيضًا صحف التوراة، هذا هو البون الشاسع بين الفاتحين
ممن ذكرناهم وبين رسول الإسلام.»
ولو لم يشتط اليهود في الحجاز بالنيل من المسلمين، لما طالت إليهم يد مسلم بأذى،
ولكان حظهم من ذمة العرب حظ سكان نجران من نصارى اليمن؛ فقد صالحهم الرسول سنة عشر
صلحًا على الفيء وعلى أن يتقاسموا العشر ونصف العشر، وجاء في كتاب الصلح «ولا يُفتن
أسقف عن أسقفيته ولا راهب عن رهبانيته.» واشترط عليهم أن لا يأكلوا الربا فعاشوا بسلام
ما حافظوا على العهد، فلما استخلف عمر بن الخطاب أصابوا الربا فأجلاهم، واشترى منهم
أرضهم ووصى بهم أهل الشام والعراق، ليوسعوهم من حرث الأرض، وما اعتملوا من شيء فهو لهم
مكان أرضهم باليمن، ويقول المؤرخون: إن أهل نجران كانوا قد بلغوا أربعين ألفًا فتحاسدوا
بينهم، فأتوا عمر بن الخطاب فقالوا: أجلنا فاغتنمها، فأجلاهم فندموا بعد ذلك. نعم، إن
عمر
١١ لم يُرهب فارس والروم بفرش الديباج، وبسط الحرير، وكئوس الجواهر، والخيول
المسوَّمة، والبيوت الشاهقة، والأقواس المذهبة، إنما أرهبهم بالعدل المحض، وأفخم شوس
رجالهم بالحكمة البالغة، ألا وهي شريعة سيد الحكماء، ويقول أبو عبيد في كتاب الأموال:
إن الرسول قال: لأخرجن اليهود والنصارى عن جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلمًا، بيد
أن نصارى نجران رأوا كل رعاية؛ لأنهم راعوا العهد في الجملة ولم يعبثوا بأمر الأمة
القائمة، وكانوا أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب، وفي التنزيل
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ
وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ
آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ۚ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ
قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ.
جزاء ثقة ثقة مثلها، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وأعظم بثقة صاحب الشريعة بأناس
كانوا بالأمس يقاتلونه كأبي سفيان وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد حتى إذا أسلموا جبَّ
الإسلام ما قبله، ونُسيت الأحقاد والطوائل، ولم يلبثوا أن غدوا أصحاب الشأن في السلطان،
يُرجع إلى آرائهم في المهمات، وتُوسد إليهم الأعمال العظام، وكيف لا يجيء من مثل هؤلاء
الرجال خيرة الخلفاء والقوَّاد والأمراء، وقد أولى الخلفاء ثقتهم لمن دخلوا من غير
العرب في طاعة خليفة العرب، وإن ظلوا على تمسكهم بدينهم القديم، وبدأ معاوية بن أبي
سفيان فعهد إلى بعض نصارى الشام بإدارة أمواله وديوانه، وكان لعمر بن الخطاب عبد نصراني
اسمه آسك فاقترح عليه أن يسلم حتى يستعين به على بعض أمور المسلمين، قائلًا: إنه لا
ينبغي أن نستعين على أمورهم من ليس منهم، فلما أبى أعتقه وقال له: اذهب حيث شئت.
ولطالما اعتمد الخلفاء والأمراء منذ القرن الثاني على عمال لهم من الصابئة والنصارى
واليهود، وتولى كثير من النصارى قيادة جيوش المسلمين في بغداد والأندلس. قال علي بن عيسى
١٢ من وزراء العباسيين لأبي الحسن بن الفرات الوزير: ما اتقيت الله في تقليدك
جيوش المسلمين رجلًا نصرانيًّا، وجعلت أنصار الدين وحماة البيضة يقبلون يده ويمتثلون
أمره، فقال له: ما هذا شيء ابتدأته ولا ابتدعته، وقد كان الناصر لدين الله
١٣ قلد الجيش إسرائيل النصراني كاتبه، وقلد المعتضد بالله مالك بن الوليد
النصراني كاتب بدر ذلك، فقال علي بن عيسى: ما فعلا صوابًا، فقال: حسبي الأسوة بهما وإن
أخطأا، على زعمك. هذا، وقد رسم ابن الفرات في وزارته الثانية أن يُدعى كل يوم جماعة من
فضلاء القوم إلى طعامه، ويقعدوا جانبه وبين يديه، بينهم أبو بشر عبد الله بن الفرخان
النصراني، وأبو منصور عبد الله بن جبير النصراني، وأبو عمرو سعيد بن الفرخان النصراني،
قال: ويأت
١٤ من علماء المشرقيات. ولقد أصدر الخليفة أمره عام ٩٧٥ / ٣٦٥ﻫ بوجوب المساواة
بين النصارى والمسلمين، وهي ظاهرة من ظواهر التسامح لم تستطع أوروبا أن تعمل بها إلا
بعد عدة قرون.
و«السيد» المشهور في تاريخ إسبانيا كان نصرانيًّا خدم الخوالف في الأندلس، وكان هذا
شأن مئات مثله في حكومات الأندلسيين والعباسيين يستخدمون فيخلصون، ولا من ينكر عليهم،
ولا على من يقربهم، ومثل هذه الثقة يدرك العاقلون مقدارها فيبادلونها بثقة
مثلها.
أليس هذا غريبًا في دولة كان للدين فيها المحل الأول، أليس من الغريب أن يجعل العرب
من أبناء ذمتهم أصحاب الأديان السماوية موضع ثقتهم، ثم إنهم ما ارتكبوا مع الهندوس
وغيرهم من وثني الهند وعبدة النيران فيها عسفًا ولا خسفًا، ولما فتحوا بنارس مدينة
الهنود المقدسة، وكان سواد أهلها من البراهمة، أحسنوا معاملتهم وراعوا شعائرهم، ولا بدع
أن يمتد سلطان المسلمين بسياستهم الرشيدة من نهر التاج في إسبانيا والبرتقال إلى نهر
الكنج نهر الهند الأعظم، ولا عجب أن رأينا الوفاق على أتم حالاته بين الحاكم والمحكوم،
وبين الأديان المختلفة، وبين الأقلية والأكثرية. وعجيب أن هذه الأقلية ما احتاجت إلى
من
يحميها ويرعى مصالحها، بل كان راعيها وراعي غيرها سلطان العرب العادل، وما شُوهد مع هذا
أن غدا وطن الغالب وطنًا للمغلوب؛ لأن النفوس جُبلت على حب من أحسن إليها، وما كان
للفرس في الشرق ولا للروم في الغرب دولة قادرة كالعرب يفزعون إليها لتحميهم، ويكونون
في
ظلها أسعد مما هم في دولة العرب.