أثر علوم العرب في الغرب
المنصفون والشعوبيون في تقدير الحضارة العربية
يقول جوتيه: إن الشريف الإدريسي الجغرافي كان أستاذ الجغرافيا الذي علم أوروبا هذا العلم لا بطلميوس، ودام معلمًا لها مدة ثلاثة قرون، ولم يكن لأوروبا مصور للعالم إلا ما رسمه الإدريسي، وهو خلاصة علوم العرب في هذا الفن، ولم يقع الإدريسي في الأغلاط التي وقع فيها بطلميوس في هذا الباب، قال: من دار حول إفريقية؟ فاسكودي جاما، ومن كشف أميركا؟ خريستوف كولمبس، ومن السهل أن يدرك أن هذين الكشفين اللذين فاقا جميع ما تقدمهما قد تما على أيدي بحارة من العرب، وكان تحقيقهما متعذرًا بدون ارتقاء علم الجغرافيا عند العرب، وتم هذان الكشفان العظيمان بعقول العرب وموادهم وأشخاصهم تحت إمرة النصارى، إلى آخر ما قال.
الفنون التي اهتمت العرب بها
وإذا عُير العرب بفقر خيالهم، فقد اشتغلوا بعلوم أنفع لهم ولمجتمعهم من الشعر القصصي والتمثيلي، اشتغلوا بعلم الفلك حتى قال دلامبر في تاريخ هذا العلم: إننا إذا أحصينا راصدَين أو ثلاثة من الروم رحنا نعد كثيرين من العرب في هذا الفن، مما دل على بعد غورهم في علم الأفلاك. وقال بيكوردين: نشأت مكانة علم الفلك عند العرب من توسع الرياضيين منهم في الحساب؛ لأنهم اخترعوا أساس حساب المثلثات، وحقق العرب طول محيط الأرض، بما كان لهم من الأدوات، وأخذوا ارتفاع القطب ودور كرة الأرض المحيطة بالبر والبحر، وحققوا طول البحر المتوسط الذي قدره بطلميوس ﺑ ١٢ درجة، فأرجعوه إلى ٥٤ أولًا ثم إلى ٤٢ أي إلى الصحيح من مقداره تقريبًا، وجمع المأمون بعض حكماء عصره على صنعة الصورة التي نُسبت إليه، ودُعيت الصورة المأمونية، صوروا فيها العالم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره وعامره وغامره، ومساكن الأمم والمدن إلى غير ذلك، وهي أحسن مما تقدمها من جغرافية بطلميوس وجغرافية مارينوس، وضع له علماء رسم الأرض — وكانوا سبعين رجلًا من فلاسفة العراق — كتابًا في الجغرافية أعان عمال الدولة على معرفة البلاد والأمم التي أظلتها الراية العباسية، هذا إلى عنايته بالفلك، وفلكيه الفزاري أول من استعمل الأسطرلاب من العرب. وأقاموا المراصد الفلكية في بغداد والرقة ودمشق والقاهرة وسمرقند وقرطبة وفاس، ونظروا في المجسطي لبطلميوس في الفلك وعملوا جداول فلكية مدققة.
وفي التاريخ العام، وكل هذا المجد في الطب العربي إن لم يبد لنا بأنهم كانوا فيه أرباب نظريات دقيقة، فهم على الأقل أرباب ملاحظة عاقلة، وأرباب تجارب حاذقة، وأطباء عمل على غاية من المهارة. وكان الرازي وابن جابر أول من وضع أساس الكيمياء الحديثة، وحاولا كشف الإكسير الذي يهب الحياة ويعيد الشباب، وكانا يذهبان إلى معرفة حجر الفلاسفة الذي يحول المعادن إلى الذهب، ولم تذهب هذه الأبحاث الوهمية سدًى؛ لأنهم عرفوا بها التقطير والتصعيد والتجميد والحل، وكشفوا الغول من المواد السكرية والنشوية الخاثرة.
ومضى دهر طويل كان فيه شعوب المملكة العربية أول العارفين بالزراعة، وأحسن العمال وأجرأ التجار في العالم القديم، وأصبحت الزراعة التي أخذوها عن أساليب بابل والشام ومصر علمًا حقيقيًّا للعرب، أخذوا نظرياتها من الكتب، ثم وسعوها بتدقيقاتهم وتجاربهم، وكانوا يطبقونها بمهارة ليس بعدها مهارة، وكان رجال الطبقة الأولى منهم لا يستنكفون عن العمل بأيديهم في زراعة الأرض، بينا كان غيرهم يحتقرها ويعدها عملًا مهينًا.
ونهض العرب في فارس والأندلس وصقلية وإفريقية لاستثمار المعادن يستخرجونها من مناجمها، ويحسنون تطريقها والانتفاع بها، واستخرج الأندلسيون من مناجمهم الزئبق والتوتيا والحديد والرصاص والفضة والذهب، واستثمر العرب المناجم التي صارت ملكًا لهم في بلادهم في الشرق والغرب، واستخرجوا الحديد في خراسان والرصاص في كرمان والقار والنفط وطينة الأواني الصينية ورخام طوريس والملح الأندراني والكبريت.
ما كشفه العرب واخترعوه وأقوال أساطين علماء الغرب
قال درابر: ومن عادة العرب أن يراقبوا ويمتحنوا، وقد حسبوا الهندسة والعلوم الرياضية وسائط للقياس، ومما تجدر ملاحظته أنهم لم يستندوا فيما كتبوه في الميكانيكيات والسائلات والبصريات على مجرد النظر، بل اعتمدوا على المراقبة والامتحان، بما كان لديهم من الآلات، وذلك ما هيأ لهم سبيل ابتداع الكيمياء، وقادهم لاختراع أدوات التصفية والتبخير ورفع الأثقال، ودعاهم إلى استعمال الربع والاصطرلاب في علم الهيئة، واستخدام الموازنة في الكيمياء، مما خصوا به دون سواهم، وهيأ لهم صنع جداول للجاذبية النوعية وعلم الهيئة كالتي اصطُنعت في بغداد والأندلس وسمرقند، مما فتح لهم باب تحسين عظيم في قضايا الهندسة وحساب المثلثات واختراع الجبر واستعمال الأرقام في الحساب، وكان هذا كله من نتائج استعمالهم طريقة الاستدلال والامتحان، ولم يقرروا في علم الهيئة لوائح فقط، بل رسموا خرائط النجوم المنظورة في فلكهم أيضًا، مطلقين على ذوات القدر الأعظم أسماء عربية لا تزال تتردد على كراتنا الفلكية، وقد عرفوا حجم الأرض بقياس درجة سطحها، وعينوا الكسوف والخسوف، ووضعوا للشمس والقمر جداول صحيحة وقرروا طول السنة، وأدركوا الاعتدالين، ولاحظوا أمورًا بعثت نورًا باهرًا على نظام العالم، واختص علماء الفلك منهم باختراع الآلات الفلكية لقياس الوقت بالساعات المتنوعة، وكانوا السابقين إلى استعمال الساعة الرقاصة لذلك، وهم الذين أنشأوا في العلوم العملية علم الكيمياء، وكشفوا بعض أجزائها المهمة كالحامض الكبريتيك وحامض الفضة (النتريك) والغول، وهم الذين استخدموا ذلك العلم في المعالجات الطبية، فكانوا أول من نشر تركيب الأدوية والمستحضرات المعدنية.
وهم قرروا في الميكانيكيات نواميس سقوط الأجسام، وكان لهم رأي جلي من جهة طبيعة الجاذبية، ورأي سديد في القوات الميكانيكية، واصطنعوا في نقل الموائع وموازنتها الجداول الأولى للجاذبية النوعية، وكتبوا مقالات في عوم الأجسام وغرقها في الماء، وأصلحوا في علم البصريات خطأ اليونان بكون الشعاع يصدر من العين ويمس المرئي فيظهره، فقالوا: إن الشعاع يمر من المرئي للعين. وفهموا مساس انعكاس النور أو انكساره، وكشفوا عن طريق الشعاع المنحني في الهواء، وبرهنوا على أنَّا نرى الشمس والقمر قبل الشروق وبعد الغروب. قال: والذي يدهش كثيرًا أن نتصور أشياء نفاخر بأنها من مواليد وقتنا، ثم لا نلبث أن نراهم سبقونا إليها، فتعليمنا الحاضر في النشوء والارتقاء كان يدرس في مدارسهم، وحقًّا إنهم وصلوا به إلى الأشياء الآلية وغير الآلية، فكان المبدأ الرئيسي في الكيمياء عندهم، والمظهر الطبيعي للأجسام المعدنية. ا.ﻫ.
كان الفلك والرياضيات والعلوم الطبيعية تُقرأ في أوروبا في كتب العرب، ولما كان العرب سادة البحر المتوسط في القرن السابع وما بعده أعطوا الطليان والفرنسيس الألفاظ البحرية، وكان الطب العربي أساس علم الطب عند الفرنسيس أخذوه مع كثير من الألفاظ العربية، والعرب هم الذين أدخلوا إلى مونبيليه منذ سبعمائة سنة، وإلى كثير من مدن فرنسا وإيطاليا، بضائع العلوم المختلفة، جاؤا بها من الأندلس، ودرس بعض الغربيين العلوم المختلفة على علماء العرب. ومن كتب العرب العلمية في العلم الطبيعي والرياضي والفلك والكيمياء ما فُقد أصله العربي وبقيت ترجمته اللاتينية، وجميع المادة الطبية التي أخذها الغربيون من العرب بقيت إلى القرن السابع عشر هي المعول عليها وحدها. قال سنيوبوس: ويتعذر الحكم في تحديد الطرق التي دخل منها إلى أوروبا اختراع من اختراعات الشرق، وفيما إذا كان انتهى إلينا من طريق الصليبيين في فلسطين، أو من طريق التجار الإيطاليين، أو جاءنا من عرب صقلية أو من المغاربة في إسبانيا، بيد أن الحساب يمكن تقديره بما نحن مدينون به للعرب، وإن كان هذا الحساب مما يطول شرحه، فقد أتتنا من العرب: أولًا الحنطة والهليون والقنب والكتان والتوت والزعفران والأرز والنخيل والليمون والبرتقال والبن والقطن وقصب السكر. ثانيًا معظم صناعاتنا في التزين كالأقمشة الدمشقية القطنية والسختيان وأقمشة الحرير المزركشة بالفضة والذهب والشاش الموصلي والشفوف والحبر والمخمل والورق والسكر وعمل الحلويات والمشروبات. ثالثًا مبادئ كثير من علومنا كالجبر وحساب المثلثات والكيمياء والأرقام العربية التي اقتبسها العرب من الهنود فسهل بها الحساب مهما كان صعبًا، ولقد جمعت العرب وقربت جميع الاختراعات والمعارف المأثورة عن العالم القديم في الشرق (كيونان وفارس والهند والصين)، وهم الذين نقلوها إلينا ودخل كثير من الألفاظ في لغاتنا، وهي شاهدة مما نقلناه عنهم، وبواسطة العرب دخل العالم الغربي الذي كان بربريًّا في غمار المدنية، فإذا كان لأفكارنا وصناعاتنا ارتباط بالقديم، فإن جماع الاختراعات التي تجعل الحياة سهلة لطيفة، قد جاءتنا من العرب، وأخذ الأوروبيون من العرب صنع الجوخ في جملة ما أخذوا من الصنائع.
وكان أهل بيزا الإيطاليون ينزلون مدينة بجاية في الجزائر، فتعلموا منها صنع الشمع، ومنها نقلوه إلا بلادهم وإلى أوروبا. وقال سنيوبوس أيضًا: وكان عبد الرحمن الثالث الأموي على اتصال دائم بأمراء إسبانيا وفرنسا وألمانيا وممالك الصقالبة، وكان القصر الملوكي في تولوزة من بلاد فرنسا صورة من صور قصور الخلافة في قرطبة، يتبارى فيه الشعراء وتقوم فيه للآداب سوق، ولما انتقل أحد أمرائهم ليتولى عرش فرنسا سنة ٩٩٩ أدخل ما أخذ عن العرب تبدلًا حقيقيًّا في باريز من حيث الأخلاق واللغة، وكان ملوك فرنسا من أهل السلالة الثالثة يقلدون العرب في كل شيء، وتعلم الفرنسيس أشياء كثيرة في حملة سان لوي الصليبية التي بقيت عدة سنين في الشرق، وفي الحروب الصليبية تعلم الفرنسيس صنع الورق من دمشق بواسطة أسيرين منهم قضيا زمنًا في هذه المدينة، فلما عادا إلى بلادهما نشرا فيها هذه الصناعة المفيدة، وكان لكثير من ملوك أوروبا حرس من العرب إلى عهد قريب، ولا سيما إيطاليا وفرنسا. وذكر سيديليو أن بعض الإفرنج زعموا أن العرب لم يعملوا في تقدم الصنائع شيئًا مع أنهم برعوا في جميع الفنون الصناعية واشتهروا عند سائر الأمم بأنهم دباغون سباكون جلَّاءون للأسلحة نساجون أصناف الأقمشة، ماهرون في الأشغال التي تُصنع بالمنقاش والمقراض، ويؤيد علو كعبهم في هذه الفنون سيوفهم الباترة، ودروعهم الخفيفة الصلبة، وبسطهم ذات الوبر، ومنسوجاتهم من الصوف والحرير والكتان، وما كشمير هذه الأيام إلا نموذجات دالة على تلك الصناعة. ويقول رينو في كتابه الغارة على فرنسا: إن العرب لما آغاروا من الأندلس على جنوبي فرنسا وافتتحوا بقيادة السمح الخولاني وعنبسة الكلبي والحر الثقفي مدائن أربونة وقرقشونة وأفنيون وليون كانوا مجهزين بأسلحة لم يكن للإفرنج مثلها.
وذكر لبون: «أن خزائن الكتب والمخابر والآلات هي مواد للتعليم والبحث اللازم، ولكنها ليست إلا أدوات، وقيمتها مناط الطريقة التي تُستعمل لها، وقد يتلقف المرء علم غيره وهو عاجز عن أن يفكر بنفسه ويوجد شيئًا، ويكون تلميذًا دون أن يوفق إلى أن يصبح أستاذًا، أما العرب فبعد أن كانوا تلاميذ عاديين، أساتذتهم تآليف اليونان، أدركوا للحال أن التجربة والملاحظة تساويان أكثر من أحسن الكتب، هذه الحقيقة اليوم معروفة لا يُعد العمل بها بدعًا، ولم تكن كذلك في الدهر السالف، فقد ظل علماء القرون الوسطى يشتغلون ألف سنة قبل أن يدركوها، ينسب الناس إلى باكون قاعدة التجربة والملاحظة، وهما الأصل في أساس البحث العلمي الحديث، بيد أن الواجب أن يُعترف اليوم أن هذه الطريقة كلها هي من مبتدعات العرب.» وقال بهذا الرأي جميع العلماء الذين درسوا كتبهم ولا سيما هومبولد، قال: إن العرب بلغوا في العلم العملي درجة لم يكن يعرفها أحد من القدماء. وقال سيديليو: وقد اشتُهرت مدرسة بغداد في أول أمرها بفكرتها العلمية حقيقة، وكان لها السلطان الأكبر على أعمال العرب، فساروا من المعلوم إلى المجهول، واستنبطوا أسرار المحسوسات ليُرجعوا الأسباب إلى مسبباتها، ولا يقبلوا إلا ما أثبتته التجربة، وهذه هي الأصول التي لقنها العلماء، ولقد كان العرب في القرن التاسع متمكنين من هذه الطريقة الخصيبة التي صارت بعد عند المحدثين أداة استعملوها للوصول إلى أجمل ما كشفوه، فكانت التجربة والملاحظة من أسلوب العرب، ودرس الكتب والاكتفاء بترديد رأي المعلم كانت طريقة أوروبا في القرون الوسطى، والفرق ظاهر بين الطريقتين، ولا تقدر طريقة العرب في العلم حق قدرها إلا بالبحث فيها.
ولقد اعتمد العرب على التجارب وسبقوا العالم، وظلوا على سبقهم دهرًا طويلًا، وعرفوا مكانة هذه الطريقة، وليس لليونان في الكيمياء ولا مجرب واحد، ويعد المجربون بالمئات عند العرب، وقد أورثت عادة التجربة أعمالهم العلمية هذا الوضوح والإبداع الذي لا ينتظر أبدًا أنه يسقط عليها عند من لم يدرس الظاهرات إلا في الكتب، ولم يفتهم الإبداع إلا في علم استحال عليهم فيه الرجوع إلى التجارب وهو علم الفلسفة، والأساليب التجريبية التي كُتب لهم فضل السبق فيها قادتهم بالضرورة إلى كشف أمور مهمة وفقوا إليها في ثلاثة أو أربعة قرون، لم يُكتب مثله لليونان في زمن أطول من زمنهم بكثير، وهذه الذخيرة في العلم الماضي التي انتقلت إلى اليونان قبلهم ولم يستخرجوا منها كبير أمر منذ دهر طويل نقلها العرب برمتها مبدلة إلى أخلافهم. ولم يقف عمل العرب عند تثمير العلم بما أوجدوه بل نشروه بواسطة جامعاتهم وكتبهم، فالتأثير الذي أثروه من هذا النظر في أوروبا كان عظيمًا في الحقيقة، وكانوا خلال عدة قرون أساتيذ منفردين، عرفتهم الأمم النصرانية، وإليهم يرجع الفضل في معرفتنا المدنيتين اليونانية واللاتينية، وفي العهد الحديث فقط تجرد تعليم جامعاتنا من الاعتماد على تراجم كتب العرب، وكف عن الأخذ بواسطتهم.
تفنن العرب في الهندسة والتصوير
وللعرب في باب الهندسة الإبداع الذي أقرهم عليه كل عارف، ولم ينازعهم فيه منازع، ولم يخترع العرب أبنية خاصة بهم، بل تجلى في هندستهم حبهم للزخرف واللطف، واخترعوا القوس المقنطر ورسم البيكارين وجعل تفننهم في هندسة القباب والسقوف والمعرشات من الأشجار والأزهار، لجوامعهم وقصورهم بهجة لا يبلى على الدهر جديدها، ودلت كل الدلالة على إيغالهم في حب النقوش والزينة، كأن أبنيتهم ومصانعهم هي قماش من أقمشة الشرق تفنن حائكها في رقشها ونقشها كما قال أحد العارفين من الإفرنج. وعقد لبون فصلًا في تأثير العرب في الصنائع ولا سيما في الهندسة في الغرب وقال: ربما ادعى بعضهم أن الهندسة الغوتية مأخوذة عن العرب، وهذا وَهَم فإننا إذا قابلنا بين كاتدرائية غوتية من القرن الثالث عشر والرابع عشر وبين مسجد من ذينك القرنين نجد اختلافًا بيِّنًا بين الهندستين، ولما كانت الفنون تعبر عن حاجات عصر وعواطف أهله، اختلفت هندسة الغرب عن الهندسة العربية في الشرق، وقد أخذت أوروبا من العرب تفاصيل في الزينة ووجدت على بعض البيع في فرنسا صور حروف عربية منحوتة في الحجر وأكاليل على بعض الحصون تشبه الطراز العربي، وكثير من كنائس فرنسا تأثرت بالهندسة العربية ولا سيما في المدن التي كان لها علائق كثيرة مع الشرق. وقد جلب الصليبيون من الشرق أصول هندسة بيت المؤذن في المنارات والمشربيات والمعرقات والمراصد في الأبراج والزغاليل والأبراج الناتئة والأفاريز ذات الدرابزين، واستخدمت فرنسا كثيرًا من مهندسي الأجانب، وكان فيهم العرب، حتى إن كنيسة «نوتردام دي باري» المشهورة في عاصمة فرنسا عمل فيها مهندسون من العرب. أما تأثير العرب في هندسة إسبانيا فظاهر ظهور الشمس والقمر، إلى أن قال: قد ينقرض شعب وتُحرق كتبه، وتُهدم مصانعه، ولكن التأثير الذي أثره يقاوم أكثر مما يقاوم القلز، وليس في طاقة القوة البشرية أن تأتي عليه، والقرون قد تفعل في القضاء عليه أكثر من ذلك.
وقال أيضًا: إن من ألقى نظرة على المساجد والقصور وعلى غيرها من الآثار العربية من منقولها وغير منقولها يشهد أنها نسجت على غير مثال، وأن الإبداع فيها ظاهر محسوس، وإذا رجعنا إلى أوائل عهد المدنية العربية أيام كانت في أوجها نجد تقليد الصنائع الفارسية والرومية ظاهرًا فيها، وكل شعب يقتبس عمن سبقه صنائعه، وهذا يصدق على كل الأمم، وكان الناس إلى عهد قريب يعتقدون أن الفنون اليونانية قامت على غير مثال، ثم أدى البحث إلى أن هذه الفنون أخذت عمن سلفها من الأشوريين والمصريين، فالعرب واليونان والرومان والفينيقيون واليهود وغيرهم أو جميع الأمم قد انتفعت من الماضي، وكل شعب أخذ عن غيره وزاد من عنده ما وسعته الزيادة؛ ولذا لا ينبغي أن يزعم الناس أن العرب لم يكن لهم فن فيه إبداع؛ لأنهم اقتبسوا الأصول الأولى من أعمالهم من الأمم التي تقدمتهم، ويُعرف الإبداع الحقيقي في أمة من السرعة التي بها تحول المواد التي بين يديها فتجعلها وفق حاجاتها وتُنشئ فنًّا جديدًا، وما من شعب فاق العرب في هذا الباب فإن فكر الإيجاد عندهم قد تجلى في مصانعهم الأولى مثل مسجد قرطبة، ولم يلبثوا أن ألقوا في روع الفنانين الأجانب أنهم كانوا يعمدون إلى طرق جديدة فيها الحذق والمهارة بأكملهما، فقد كانت سواري المعابد القديمة التي بين أيدي العرب من القصر بحيث لا تتناسب مع عظمة الأبنية واتساعها، فقاموا هم ينشئون في أسفلها قواعد وغطوها بقناطر وضعت على غاية من الحذق، ولو كان الترك مكان العرب ما خطر لعقولهم الغليظة مثل هذا الفكر، وكان من أمر الشعوب التي خلفت العرب في البلاد التي خضعت لسلطانهم أن رأوا مصانع قديمة سبقت العرب، فما استطاعوا أن يدبروها تدبيرًا جديدًا، فظل التقليد باديًا في أصولها وفروعها، أما في المصانع العربية كقصور إسبانيا وجوامع القاهرة، فإن المواد الأصلية قد استحالت إلى ترتيبات بلغ من جدتها أن يتعذر أن يُقال: من أين جاءت.
قال: ومن ألقى نظرة على الأعمال الأدبية والفنية التي تمت على أيدي العرب، يتجلى له أنهم حاولوا أبدًا أن يزينوا الطبيعة، وطابعهم الذي يبدو في الفن العربي هو التخيل والبهاء والضياء والتزيد في الزينة والدقة، فالعرب عنصر شعر، وأي شاعر لا ينطوي على فنان، اغتنموا بحيث تم لهم تحقيق جميع هذه الأحلام فأولدوا هذه القصور البديعة التي تبدو للعيان كأنها تضاريس من الرخام المرصع بالذهب والأحجار الثمينة، وما من شعب حاز مثل هذه العجائب، وما من شعب سيدانيهم في حيازتها، ومن العبث أن تتطلب مضاهاتها من الدور الذي دخلت فيه الإنسانية اليوم، فأصبحت لا تعرف من الصنائع إلا المبتذلة والمقصود منها النفع فقط وهي شاحبة باردة.
قال لركيه في كتابه الفن والتاريخ: ورث العرب فيما ورثوا عن الأمم التي دخلت في حوزتهم الفنون والصنائع، وأخذوا يحذقونها ويبرعون فيها في مدارس المورثين؛ إذ لم يكن في استطاعتهم أن يرتجلوا فنًّا كما ارتجلوا لهم ملكًا، ومع ذلك لم يمضِ زمن طويل حتى نبغ فيهم البناءون والحفارون والمصورون والنقاشون، دون أن يروا في شيء من ذلك مخالفة لنصوص كتابهم، أو معارضة لشريعة نبيهم، ولم يقفوا عند حد الحذق والبراعة بل تعدوه إلى التفنن والإبداع فنقحوا وصححوا وحذفوا وأضافوا، ثم اخترعوا وابتكروا، حتى طبعوا تلك الفنون بالطابع العربي، وصبغوها بالصبغة الإسلامية، حرصًا على شخصيتهم أن تفنى، وعلى نبوغهم وعبقريتهم أن يذهبا، فأصبح الروح العربي بارزًا واضحًا يندمج فيه غيره، ولا يندمج في شيء، ولهذا خلقت العرب لها فنًّا يوافق ذوقها، ويسير مع طبعها، وسرعان ما انتشر في أرجاء تلك المملكة الواسعة انتشار الكهرباء. ا.ﻫ.
قالوا: وقد خضعت الفنون الإسلامية لنواميس الطبيعة الإقليمية فاصطبغت في كل قطر بصبغته الخاصة، وكانت في عامة أحوالها من أندلسي ومغربي وصقلي ومصري وشامي وعراقي وفارسي وهندي ومغولي إسلامية أصلية كريمة نبيلة، تنطق بما للإسلام من إباء ونجدة وشهامة ونخوة إلخ.
هذا ما لقفه العرب وثقفوه، بل هذا مجمل ما اخترعوه وكشفوه، استفادوا منه وأفادوا أهل المدنية الحديثة، عملوا فيه وحدهم بعقولهم وتجاربهم، وتواضعوا على ما لم تشاركهم فيه أمة لا كما كان شأن العلم في عصره الحديث، كثرت فيه الأيدي العاملة حتى استحال في بعض ما اخترع وكشف أن يعزى إلى أمة بعينها، أبرزت العرب علمها العملي في زمن قصير، فظهر وبهر، وعم البدو والحضر، كل ذلك من دون دعوة ولا إعلان ولا تبجح ولا منة، نقلوه إلى الغرب حلالًا طيبًا، وما منوا على أهله، ولا سألوهم ثمن ما أعطوهم، واليوم طُويت صحفهم العلمية، وأصبحت مغانيهم كأن لم تغنَ بالأمس، وقام الشعوبيون أعداؤهم يصغرون من شأنهم، ويبخسونهم أشياءهم، ويتناولونهم بالنقد والتنقيص، وما حقهم لو أنصفوا إلا الحمد والثناء.